همسات بلا "ميتا"

تظهر الميديا ووسائل التواصل كيف يعيد السعوديون التعرّف على دولتهم، آبارهم المهجورة، كهوفهم، صخورهم المهملة التي يعثرون فيها على نقوش وكتابات عربية بالخط المسند.
الجمعة 2022/06/17
إعادة اكتشاف المكان بكل جذوره وتفاصيله

إعادة اكتشاف المكان سرٌّ من أسرار الوجود. لا يتحقق إلا بمناخ جديد وروح جديدة تتيحها حرية الحركة والتفكير، هذا ما نرصده في مناطق عديدة من الجزيرة العربية. انظر إلى ما يجري في السعودية، هذا الربط البديع بين الشعر والجغرافيا، والسير على طريق القصائد القديمة أمثولة حقيقية اليوم لبقية العالم العربي.

وتظهر الميديا ووسائل التواصل الاجتماعي كيف يعيد السعوديون التعرّف على دولتهم، آبارهم المهجورة، كهوفهم، صخورهم المهملة التي يعثرون فيها على نقوش وكتابات عربية بالخط المسند وغيره، تقود الوعي إلى حيث يجد حروفاً حفرتها شخصية لم نكن نسمع عنها إلا عبر الكتب والمخطوطات. فلان بن فلان الذي قال كذا. لكن ها هو ماثل أمامي الآن وهو يخط كلمات على صخرة ويمضي. هذا جديد ومثير للغاية.

كثيراً ما حلمنا بآلة زمن تنقلنا إلى عصر زهير بن أبي سلمى، أو ذي قار، أو أيام الزير سالم وكليب، لم ننجح. فاخترعنا الدراما التاريخية، وكانت نافذة سحرية جعلتنا نعيش تلك الأيام، بأزيائها ولغتها وعاداتها وحوادثها. ولكن كان المكان محرّماً.

المكان الذي نعيش فيه بطلٌ من أبطال حكايتنا في العمر القصير الذي نعيشه على الأرض والذي سرعان ما سينقضي، فنصبح أشباحاً جوّالة في المكان ذاته. غير أننا ونحن نعيش فيه، نهمله ولا ندرك قيمته. تخيّل لو أنك تستطيع استنطاق الحجر والشجر. رأيت تقارير تتحدث عن أشجار نخل زرعها عبدالرحمن الداخل في الأندلس وما تزال حية حتى اليوم، أو كما يعرف الكثيرون هناك ما يسمّى بالزيتون الروماني في سوريا وفلسطين والأردن، وهو شجر زيتون معمّر من عهد الرومان ما يزال حياً آلاف السنين. ما هو شعورك وأنت تمرّر يدك على خشب سبق وأن مرّت عليه أيدٍ من تلك العهود، بشخوصها وحواديتها الشيقة؟

لا يمكنك أن تقهر قوة الزمن من دون أن تحرّر المكان من سلطة التحريم، أولاً التحريم الديني والعرقي والتاريخي ومن بعده تحريمك أنت له من أن يقوم بدوره في منحك طاقة لا مثيل لها.

التكنولوجيا تعرف هذا. قدّمت اليوم الـ"ميتا مكان" وبات من خرافاتها أن تجعلك قادراً على خلق مكان بدلاً من اكتشاف مكانك، شراء مكان وبيعه في العالم الافتراضي أو ما يعرف الآن باسم "ميتافيرس" والذي ابتكره الكاتب نيل ستينفسون في رواية "تحطّم الثلج" مطلع التسعينات كردّ على انهيار العالم في الغرب، وهناك لا رائحة للهواء حتى لو كانت صناعية، لا مذاق للورق وأنت تقلّب صفحات الكتب، حتى لو تم إيهامك بذلك، ولا رذاذ للنهر بينما تمشي بإزاء ضفته المتعرجة. لكن لا تحزن فالمكان الحقيقي بانتظارك.

20