هل يمتلك قيس سعيد بديلا عن صندوق النقد

كيف ستلتقط تونس الرسائل الغربية المحذرة من الانهيار.
الأحد 2023/03/26
الوضع الاجتماعي يضغط على الحكومة

هناك من ينظر إلى الضغوط التي تمارس على تونس بشأن تسريع الاتفاق مع صندوق النقد الدولي على أنها إملاءات ما ينبغي لتونس أن تخضع لها. لكن الناظر بعقلانية إلى التصريحات الأخيرة للأوروبيين والأميركيين سيجد فيها الحقيقة التي لا يريد التونسيون أن يروها، وهي أن إصلاحاتهم لن تتم دون مرافقة الصندوق، وأن الأفضل البدء فيها دون تأخير.

لم يكن موقف مسؤول السياسة الخارجية الأوروبية جوزيب بوريل عن الوضع في تونس معزولا ولا متسرعا، تماما مثل موقف البرلمان الأوروبي. وبدا هذا واضحا بعد تصريح وزير الخارجية الأميركي أنطوني بلينكن الأربعاء الذي حذر فيه من المجهول الذي قد يواجه تونس، وأن لا حل أمامها سوى الاتفاق مع صندوق النقد.

هناك مقاربة أوروبية – أميركية مشتركة ترى أن الحل بالنسبة إلى تونس يمر عبر صندوق النقد الدولي، وأنها لا تحتاج إلى دعم ولا تمويلات من خارج هذا الاتفاق، وهو موقف قاس ولا يحترم اتفاقيات الشراكة المبرمة مع تونس سواء بالنسبة إلى الاتحاد الأوروبي أو الولايات المتحدة، وهي اتفاقيات تضع لتونس حقوقا لدى شركائها مثلما لها واجبات في موضوع الهجرة.

واللافت أيضا أن الموقف نفسه يصدر عن الدول العربية الثرية التي باتت تربط أيّ تمويلات أو استثمارات في أيّ بلد عربي بالحصول على ضوء أخضر من صندوق النقد الدولي، الذي ما يزال ينتظر موافقة تونس على شروطه وإصلاحاته القاسية.

◙ هناك مقاربة أوروبية - أميركية مشتركة ترى أن الحل بالنسبة إلى تونس يمر عبر صندوق النقد الدولي، وأنها لا تحتاج إلى دعم ولا تمويلات من خارج هذا الاتفاق

وليس تعليق مناقشة الاتفاق مع الصندوق أو مع البنك الدولي على خلفية موقف تونس من موجات اللاجئين الأفارقة سوى حيلة لزيادة الضغط عليها من أجل المصادقة وبشكل واضح ودون إبطاء على الاتفاق. والمعنى واضح: لا تنتظروا منا أيّ دعم حتى تقرروا بشأن الاتفاق.

هم يعرفون أن المسألة حساسة سياسيا لتونس في وضعها الحالي، وخاصة للرئيس قيس سعيد الذي ينظر إلى توقيع الاتفاق في مثل هذا الوقت على أنه مغامرة غير محمودة العواقب في ظل حملة المعارضة التي تتهمه بالشعبوية والهروب إلى الأمام وعدم القدرة على جلب حلول، فيما الناس يثقون به ويعتقدون أنه سيكون منقذا من فساد المنظومة السابقة وفشلها في إدارة الشأن العام.

كما أن المجموعات السياسية المحيطة بالرئيس، والتي تعلن باستمرار أنها حزامه السياسي والشعبي، تعارض فكرة اللجوء إلى صندوق النقد أو البنك الدولي، وهو ما يزيد من صعوبة اتخاذ هذا القرار.

يمكن لخطوة في هذا الوقت أن تضرب صورته لدى الناس، كما أنها ستطلق ألسن قادة اتحاد الشغل الذين يرون في معارضة الاتفاق مع صندوق النقد ورقتهم الوحيدة للضغط على قيس سعيد واستعادة المبادرة بعد أن حشرهم في الزاوية بسبب رفضه أيّ دور سياسي للمنظمة النقابية في صف السلطة أو أن تبدو في صورة “الحكيم” الذي يقدم المبادرات وخرائط الطرق التي تقود البلاد للخروج من الأزمة.

رفع الاتحاد صوته بالاحتجاج على تحجيم دوره السياسي، لكن براغماتيته منعته من أن يكون في صف المعارضة بشكل كامل بالرغم من تصريحات أمينه العام نورالدين الطبوبي التي فهمت على أنها مساندة للمعارضين السياسيين. وبقاء الاتحاد في المنتصف سببه أن الأغلبية المسيطرة على الاتحاد تنتمي إلى التيار اليساري والقومي، وهي أقرب إلى قيس سعيد منها إلى حركة النهضة التي تتزعم المعارضة تحت غطاء جبهة الإخلاص.

لو أن قيس سعيد كان يمتلك بدائل فعلية تجنّبه اللجوء إلى مسار صندوق النقد ما قبل بالاتفاق معه. وخلال الأسابيع الأخيرة حاولت الحكومة التونسية ما في وسعها تحسس فرص الاعتماد على الذات لمواجهة الأزمة الاقتصادية، لكن النتائج لا تبدو مشجعة خاصة ما تعلق بموضوع الصلح الجزائي، والمقصود به المصالحة مع رجال أعمال والذين سبق أن حازوا أموالا من بنوك حكومية ثم تعذر عليهم إرجاعها أو استفادوا من فساد حكومي أو شبكة علاقات سياسية للتهرب من إرجاع تلك الأموال المقدرة بحوالي 13.5 مليار دينار تونسي ( حوالي 3 مليار دولار).

ورغم سعي الرئيس سعيد لتحصيل هذه الأموال في مدة لا تتجاوز ستة أشهر، فإن النتائج ما تزال مخيبة، وهو ما كشف عنه هو بنفسه منذ أيام خلال لقائه اللجنة المكلفة باسترداد الأموال حيث قال أمامهم إن لا شيء قد تحقق، وهو ما قاد إلى إقالة رئيس اللجنة.

لو أن قيس سعيد كان يمتلك بدائل فعلية تجنبه اللجوء إلى مسار صندوق النقد ما قبل بالاتفاق معه
◙ لو أن قيس سعيد كان يمتلك بدائل فعلية تجنبه اللجوء إلى مسار صندوق النقد ما قبل بالاتفاق معه

ومن المهم الإشارة إلى أن الحكومة تتحرك في مسار خلق البدائل المحلية بتردد وبطء، فهي من ناحية تسير في رفع الدعم عن المحروقات من هنا إلى آخر 2023، لكنها بالتوازي لم تلجا إلى خطوات فعالة في بدء مسار التقشف داخل المؤسسات الحكومية والإدارات الكبرى، وهو مطلب يظل يرفع منذ ثورة 2011، ويخص تحجيم ظاهرة السيارات الإدارية والكوبونات المجانية للمسؤولين في الإدارة.

وتقول كل المؤشرات إن البدائل الذاتية محدودة، وإن أقصى ما تحققه أنها تساعد على إنجاح برنامج الإصلاح الذي يطلبه صندوق النقد الدولي، ولكن لوحدها، فهي لا توفر أيّ حلول.

وإذا أضفنا إلى ذلك صعوبة الحصول على تمويل عربي سواء من الجزائر أو من الخليج، وعدم واقعية القفز باتجاه الصين لصعوبات تتعلق بتحالفات تونس وشراكاتها وما عليها من التزام، يصبح مسار صندوق النقد الدولي هو الوحيد الممكن أمام البلاد، وهو ما حملته تصريحات الشركاء الغربيين.

ويقول الأوروبيون والولايات المتحدة إن الاتفاق صار قضية مصيرية لاستقرار الاقتصاد التونسي. ولم يكن اعتباطيا أن تتزامن التصريحات الأوروبية والأميركية لتقول نفس الكلام خاصة تصريحات باربرا ليف مساعدة وزير الخارجية الأميركي التي تحدثت بعقلانية وهدوء ووصفت تونس بالصديق.

وألقت باربرا بالمسؤولية على الحكومة التونسية، وقالت إن وفد حكومة نجلاء بودن وافق في لقاء مع صندوق النقد على حزمة تفاهمات “ولسبب ما لم يوقعوا على الحزمة التي تفاوضوا عليها”. وأردفت “المجتمع الدولي مستعد لدعم تونس حينما تتخذ قيادتها قرارات جوهرية حول وجهتها”، مضيفة أنه حتى تقرر الحكومة توقيع حزمة الإصلاح الخاصة بها سنظل “مكتوفي الأيدي”.

◙ الحكومة إلى حدّ الآن لم تلتزم بخطتها القائمة على وقف عملية التوظيف داخل القطاع الحكومي ومازالت تقدم التنازلات أمام ضغوط النقابات في مسألة الرواتب

ويمكن لأيّ كان أن يقرا ما وراء هذه التصريحات، ويقدم تأويله بشأن ما وراءها من ضغوط سواء في ملفات تونسية محلية أو إقليمية، ومن حق الحكومة أن تضع تحفظاتها وشكوكها في تلك التصريحات. لكن ذلك لن يحل المشكلة، لأن تونس تحتاج إلى إصلاحات عاجلة من أجل الحصول على التمويل اللازم.

ويجعل تجريد التصريحات المتزامنة من الأبعاد السياسية الخارجية، وتركها للسياسيين، الحكومة أمام قرار يجب أن تتخذه بوضع كل تحفظات اتحاد الشغل والأحزاب السياسية على جنب، ونسيان موضوع الزيادات والعمل ببرنامج تقشف يتوافق مع مطالب الصندوق والحصول على القرض في أقرب وقت.

هذه أزمة كبيرة بوسع الحكومة التونسية أن تحوّلها إلى فرصة للخروج من إنفاق حكومي ما عاد له مكان في عالم اليوم، على أن تبدأ هذا المسار بالمصارحة، وأول مصارحة تكون مع الذات، بأن تخرج وتقول ما تراه وتفكر فيه للإعلام وتقنع به وألا ترسل الإشارات التي تربك عملها.

وإلى حدّ الآن لم تلتزم الحكومة بخطتها القائمة على وقف عملية التوظيف داخل القطاع الحكومي، ومازالت تقدم التنازلات أمام ضغوط النقابات في مسألة الرواتب، وهي خطوات غير مشجعة بالنسبة إلى علاقتها مع صندوق النقد الدولي.

على حكومة تونس أن تحسم أمرها، وتجاهر بمواقفها وتؤكد على الالتزام بإصلاحات الصندوق، وأن تسد الآذان عن المزايدين والمتاجرين بالشعارات الذين استلم بعضهم الحكم في السابق وكان عارفا أنّ لا إصلاحات ممكنة خارج مربع الإصلاحات القاسية التي يطالب بها صندوق النقد.

6