هل يخرج تبون العلاقات الجزائرية – الخليجية من تركة الماضي

أعادت زيارة الرئيس الجزائري عبدالمجيد تبون إلى سلطنة عمان، في إطار جولته العربية، الأنظار إلى العلاقات الجزائرية – العربية، والخليجية تحديدًا، في ظل تذبذب مسارها منذ سبعينات القرن الماضي. حتى إقامة الرئيس الراحل عبدالعزيز بوتفليقة في منفاه الاختياري بدولة الإمارات العربية المتحدة لمدة ناهزت العشرين عامًا، لم تسمح بإعادة صياغة مقاربة صلبة لتلك العلاقة وهو في هرم السلطة لمدة عشرين عامًا أيضًا.
وفي خضم هيمنة المد القومي العربي خلال العقود الماضية لم يستطع الطرفان تجاوز الخلفية الأيديولوجية والتاريخية، وباستثناء بعض المواقف التضامنية النادرة، خاصة ما تعلق منها بالقضية الفلسطينية، ظل البون واسعا نسبيًا وفوق ذلك تنتاب العلاقات بعض الشكوك والريبة، بسبب التوجهات المتباينة في مختلف القضايا والملفات المشتركة.
الجزائر المنبثقة عن ثورة تحريرية باهظة الثمن، بنظامها الجمهوري المستنبط من التجربة الاشتراكية في ستينات القرن الماضي وسبعيناته، ظلت ترى أن النظام الملكي وعقود رفع الحماية في باقي العالم العربي نقيض صارخ للشعارات التحريرية وللمعاني الاستقلالية، بينما الطرف الآخر يرى فيها النموذج غير المرحب به، بسبب عقيدته المناهضة لمصالح المنطقة ولاستقرار الأسر الحاكمة.
◄ العلاقات الجزائرية – الخليجية إذا نظر إليها من زاوية العمل الجماعي فهي رهينة تركة الماضي وإفرازات الحاضر، لكن إذا نظر إليها من زاوية منفردة فهي في مستوى متراوح
ثورة التحرير الجزائرية حققت الإجماع من المحيط إلى الخليج، لكن مخارج الاستقلال الجزائري شكلت توازنات جديدة لأن الولاء لم يكن للعالم العربي بقدر ما كان لأقطاب الصراع الدولي، ولأن كل طرف اختار وجهته فقد سقطا في فخ العداوة غير المعلنة لأن القاطرتين كانتا تداران من موسكو وواشنطن، وليس من أي من العواصم العربية، ولذلك كانت العمالة والخيانة مفردتا تهم متبادلة هنا وهناك.
وحتى تكتل الشمال الأفريقي لم يكتب له النجاح، بسبب مشكلات الاستقلال في أكثر من دولة، ورغم أنه كان هدف النخب السياسية والثقافية في خمسينات القرن الماضي، وحتى في بيان إعلان ثورة التحرير الجزائرية، إلا أن محاولات بث الروح فيه ظلت تنتهي بالفشل إلى درجة الموت، وتلك هي إحدى إشكاليات النظام السياسي العربي، الذي لم يصل إلى رسم أولويات العمل المشترك، أسوة بمختلف التكتلات الإقليمية الأخرى.
لقد تعطل مجلس التعاون الخليجي، ومات الاتحاد المغاربي، ولم تشهد المنطقة تشرذمًا وتفككًا كالذي تشهده منذ العام 2011، الذي أفرز وضعًا عربيًا بائسًا. ووجدت الأنظمة العربية التي وحدها الخطاب الجمهوري المفبرك واليساري المصطنع، ومن ضمنها الجزائر، نفسها أمام مد شعبي غاضب أطاح في بداية الأمر برؤساء أنظمة سياسية وبعدها بدول بأكملها ولم تسلم منه إلا دول قليلة على غرار الجزائر وموريتانيا ثم مصر وتونس اللتين امتصتا التجربة المستجدة سريعًا.
لقد تفكك العراق وبعده ليبيا واليمن وسوريا، ودخلت أنظمة أخرى في تعقيدات لامنتهية، بينما سلمت الأنظمة الملكية وتسير باطمئنان نحو وجهتها، وهو منعطف يتوجب التمعن فيه والبحث عن الأسباب الكامنة وراء ذلك، فإن البحث عن مفتاح الاستقرار هو واجب الجمهوريات الساقطة أو الآيلة إلى السقوط، وحتى الصامدة كالجزائر التي سدت أبواب الفوضى لكنها تبحث دومًا عن الترتيب الداخلي.
لم يعد الماضي وحده كافيًا لتشييد أنظمة سياسية ناجحة، والعبرة بحسن تدبير وتخطيط الحاضر تحسبًا للمستقبل، ففي هذه المنطقة من يتبجح بـ12 قرنًا من الحضارة والوجود، لكنه لم ينجز شيئًا مما أنجزته الولايات المتحدة في قرنين ونصف قرن من التأسيس إلى الآن، والعالم العربي إذا لم تعد القومية حافزًا له، فهناك العديد من الحوافز الأخرى، الواجب استشعارها وتفعيلها.
زيارة الرئيس تبون إلى سلطنة عمان اخترقت جدار القطيعة الرسمية التي لم تصل إلى مستوى الحكام في البلدين خلال العقود الستة الأخيرة، وإذا لم تكن خالية الوفاض فإنها لم تكن مملوءة الجراب، لكنها يتوجب أن تكون انعطافة جديدة في إستراتيجية العمل الجزائري في المنطقة، فالشوائب التي علقت بمسار العلاقات الجزائرية – الخليجية حان الوقت لأن تسقط، لأنه بالإمكان بناء مصالح مشتركة وعلاقات بينية حتى خارج السياق القومي الذي أبقاها في مربع الصفر.
◄ ثورة التحرير الجزائرية حققت الإجماع من المحيط إلى الخليج، لكن مخارج الاستقلال الجزائري شكلت توازنات جديدة مختلفا عليها لأن الولاء لم يكن للعالم العربي بقدر ما كان لأقطاب الصراع الدولي
العلاقات الجزائرية – الخليجية إذا نظر إليها من زاوية العمل الجماعي فهي رهينة تركة الماضي وإفرازات الحاضر، لكن إذا نظر إليها من زاوية منفردة فهي في مستوى متراوح، فإذا كانت جيدة مع قطر، ومفعّلة مع الكويت، وممتدة إلى سلطنة عمان، فهي فاترة مع المملكة السعودية، وباردة مع البحرين ومأزومة مع دولة الإمارات، وهو ما يعني حاجتها إلى جهود إضافية لإعطائها نفسًا جديدًا بغية ولوج مرحلة تؤمن بالمصالح المشتركة والتعاون المثمر بعيدًا عن الملفات الخلافية، فمن الإجحاف أن تلام الجزائر على علاقاتها مع إيران، بينما البعض يطبع مع إسرائيل.
الجزائر المشحونة رسميًا وشعبيًا بالمد الثوري المستلهم من تضحيات جسيمة من أجل الاستقلال الوطني، ظلت محسوبة من طرف أشقائها الخليجيين على أنها نصير لإيران على حساب المصالح العربية في المنطقة، بينما هي التي احتضنت أول اتفاق صلح بين إيران والعراق في سبعينات القرن الماضي، وهي التي فقدت واحدًا من دبلوماسييها المخضرمين، وزير الخارجية الراحل محمد الصديق بن يحيى، بعد استهداف طائرته بصاروخ في المنطقة، وهو الذي كان في مطلع ثمانينات القرن الماضي في مهمة وساطة بين إيران والعراق، وحتى الرئيس الراحل لم يشأ تصعيد الموقف بعد أن ثبت أن الصاروخ أطلقه عراقيون من أرض العراق.
الجمهوريات الصامدة، والساقطة والآيلة إلى السقوط، والنظام العربي بشكل عام مجبر على ترتيب أوراقه الداخلية، واختيار توجهاته بعناية، فهو بين خيارين لا ثالث لهما، إما نسج أولويات جديدة تقوم على المصالح المشتركة والتعاون المثمر وترك الملفات الخلافية للوقت، أو التخندق بين أسوارها والبقاء في مربع الصفر الذي لا هو حرر فلسطين ولا بنى تكتلا عربيا.