هل يثقف الغناء العربي جمهوره؟

فنان سوري يقدم رحلة مئة عام في الموسيقى العربية بروح عصرية.
الاثنين 2022/10/31
تراث موسيقي بروح ديناميكية حديثة

يحاول العديد من المبدعين أن يقدموا الغناء العربي التراثي بصيغ تقربه من الجمهور العادي، بحيث يخرج عن كونه غناء منعزلا عن الشباب ولا يهتم به إلا الخاصة. من هؤلاء المبدعين نجد الفنان السوري سومر نجار الذي ظهر مبكرا في شكل الغناء التراثي الأصيل، لكنه في حفله الأحدث دخل منعطفا جديدا يحاول من خلاله ربط الصلة بين ماضي الموسيقى العربية وحاضرها.

تبدو العلاقة جدلية وشائكة بين التراث والمعاصرة في كل الفنون، وتتضح أكثر في فني الغناء والموسيقى. التاريخ الفني العربي سجل تطورا كبيرا للموسيقى والغناء العربي في بدايات القرن العشرين، كان منبره خصوصا الفن الغنائي والموسيقي في مصر، فظهرت مجموعة من القامات الشعرية والتلحينية والغنائية التي رسمت وما زالت ملامح الغناء العربي كله وقدمت قامات فنية هائلة مثل أم كلثوم، أسمهان، سيد درويش، محمد القصبجي، رياض السنباطي، فريد الأطرش، محمد عبدالوهاب وغيرهم.

 لكن حركة التطور تلك تراخت مع مرور الزمن ورحيل مبدعيها، وتراجعت مكانة وقيمة الفن الغنائي والموسيقي في مصر والوطن العربي، حتى سادت مرحلة ما يسمى “الغناء الشبابي” الذي لم يكن امتدادا لتلك المرحلة.

نتيجة لتوقف الإبداعات العربية الغنائية عن الظهور بالشكل الكلاسيكي المحبب للجمهور، وعدم قدرة التيار الجديد على تقديم المواكب المطلوب، اتجهت شرائح كبرى من الجمهور العربي لاسترجاع أعمال تلك المرحلة بأشكال عديدة، نجحت حينا وفشلت أحيانا، وتنافست الأصوات الحديثة بتقديم ذلك التراث، لكن معظمها وقع في فخ التقليد الأجوف الذي لا يطور ولا يُعصرن الفن، فضاع جهده وصار مقلدا فحسب. وقدم آخرون أفكارا عصرية في التعامل مع التراث الغنائي العربي، سواء من حيث المضمون أو تناوله الشكلي، مستفيدين من علوم موسيقية وخبرات عالمية سخروها في خدمة أهدافهم.

قدم الفنان سومر نجار حفلا غنائيا في دار الأسد للثقافة والفنون (أوبرا دمشق) مساء يوم الرابع والعشرين من شهر أكتوبر الجاري، بمرافقة أوركسترا قصيد بقيادة المايسترو كمال سكيكر حمل عنوان “رحلة في عالم المقام الشرقي بين التراث الغنائي والغناء المعاصر” قدمت فيه خارطة غنائية محددة، ظهر التركيز فيها على مقامات موسيقية بعينها.

وأنجز الثنائي سكيكر ونجار معالجة موسيقية بينت كيفية وجود هذه المقامات في مجتمعاتنا خلال قرن أو يزيد من الزمن في تتبع متصل لها ضمن سلسلة أعمال منتقاة. وكان التركيز في الخطة على هوية المقام الموسيقي بصرف النظر عن الشكل الفني الذي سيظهر فيه. فعبر رحلة غنائية عبر ما يزيد عن المئة عام وفي أكثر من بلد وبيئة غنى سومر نجار في قالب الموشح والقد والأغنية التراثية وصولا إلى الرومانسية المعاصرة.

غناء يثقف الجمهور

حرص دائم على اختيار الأغنية الهادفة
حرص دائم على اختيار الأغنية الهادفة 

يقول نجار لـ”العرب” عن خياراته في تقديم أغاني حفله “كنت حريصا على أن نقدم برنامجا محددا مميزا، كان يهمنا إظهار هوية المقامات الموسيقية التي سنقدمها، منها الحجاز والراست والنهاوند والصبا والكرد والجهار كاه. البرنامج احتوى قوالب مختلفة كالموشح والدور والطقطوقة والقد والأغنية التراثية وتميز باختلاف المقامات الموسيقية، وهذا حقق فائدة على أكثر من جهة، فهو أبعد حالة الملل أولا وحقق هدفا أهم وهو تقديم مقام موسيقي محدد بصورة موظفة ومنضبطة ضمن فقرات الحفل”.

وعن فقرات الحفل وما قدمه فيها يتابع “البداية كانت مع مقام الحجاز كاه بمقدمة موسيقية من خلال دولاب بسيط ثم الدخول في الغناء، حيث قدمت ‘زارني المحبوب’ وموشح ‘أفديه ظبيا’ فجزء من موشح ‘هيمتني تيمتني’ ثم تابعت مع الأغنية الفولكلورية فقدمت ‘يا زهرة الليمون يا عينيا’ ثم وصلنا إلى الغناء المعاصر مع الأخوين رحباني وأغنية ‘على عين المية’ من مسرحية بترا”.

ويضيف “الفكرة كانت ربط كل هذه الأغاني مختلفة الأشكال بمقام موسيقي واحد هو الحجاز كاه على درجة الدو. والذي رغبت في أن أرسخه في ذهن الجمهور، وهو مقام غني وله شهرة ومكانة عند المستمع العربي من هذه الدرجة وعليه الكثير من الأغاني”.

الغاية الفنان القصوى التي نريدها هي تعريف المستمع العربي على التنوع في المقامات والإيقاعات الموسيقية العربية
غاية الفنان القصوى هي تعريف المستمع العربي على التنوع في المقامات والإيقاعات الموسيقية العربية

ويتابع “كذلك قدمنا لأبي خليل القباني ‘يا من لعبت به الشمول’ من مقام الراست، وتابعنا بالمزيد وصولا إلى مقام البيات بموشح ‘فيك كل ما أرى حسن’ ثم ‘القراصية منين’ وربطناها بقد ‘تحت هودجها’ ثم إلى تراث المنطقة الوسطى بأغنية ‘ويلي منك يا ويلي’ وختمنا الوصلة بها، ثم أنهيت الحفل بعمل أحببت أن أسلط الضوء عليه هو ‘أمانيه’ الذي يروج في الشمال السوري وسبق لي أن قدمته في مسلسل الثريا عام 1996 بشكل تقليدي على العود والتخت الشرقي فقدمناه هنا بشكل ايقاعي مختلف، يتميز بالحيوية والرشاقة وأقرب إلى قلوب الناس، ورافق ذلك وجود آلات النفخ النحاسية، وكان هنالك حوارات بين الآلات المنفردة كالبزق والقانون والعود والناي والأكورديون والوتريات التي ترد عليها”.

ويرى سومر نجار أنه لا بد من العمل على تعويد الجمهور العربي على المقامات الموسيقية من خلال سماعه لها، ويأتي ذلك من خلال تقديم حفلات موسيقية وغنائية تخص مقامات محددة ضمن منظومة مبرمجة سيستطيع الجمهور العام من خلال التعود على سماعها تمييزها والاستمتاع بها لاحقا.

يقول في ذلك “كانت الغاية من التجربة التركيز على مقام موسيقي محدد عبر أكثر من شكل غنائي وموسيقي عربي لإظهاره بوضوح. في الحفل قدمنا القوالب الغنائية برؤية جديدة عن الشكل التقليدي. في الموشحات التي قدمت طلبت من المايسترو والموزع الموسيقي كمال سكيكر أن ندخل الآلات الموسيقية الغربية على الموسيقى العربية حتى تظهر بشكل مختلف يراعي فيه الشكل التقليدي وبعض التطوير، فوظفنا آلة الأوبوا والنحاسيات بشكل مبرر موسيقيا، بصيغة حوار بين الآلة والمغني والفرقة، وهو خروج عن الحالة التقليدية في الطرح الموسيقي وفيها محاكاة للموسيقى الكلاسيكية العالمية لكي نثبت أن موسيقانا العربية قادرة وقابلة على التقدم والتطور وفق الأشكال العالمية المعاصرة”.

ويتابع “قدمنا ما هو أبعد من حالة التخت الشرقي في هذا النوع من الموشحات وكانت عملية جريئة لكننا قمنا بها، أبقينا على جوهر العمل وجعلنا الآلات الموسيقية تلعب أدوارا مختلفة وهي تعزف اللحن، فقدم بشكل أكثر حيوية ورشاقة ومعاصرة بين الكلاسيكية العالمية وخصوصية المزّيكا العربية”.

وعن الهدف النهائي من وراء كل ذلك يقول “الغاية القصوى التي نريدها هي تعريف المستمع العربي على التنوع في المقامات والإيقاعات الموسيقية العربية ومن ثم تحريضه على التأمل والموازنة بينها واختيار ما يناسبه ويتفاعل معه من موسيقى وغناء”.

 وعن الكيفية التي تم التعامل بها مع الأغنيات من الناحية الأوركسترالية والتطويرية يقول “بعض الأعمال قدمت كما هي مثل ‘فوق غصنك يا لمونة’ للموسيقار فريد الأطرش وعمل الأخوين رحباني ‘على عين المية’، فهما عملان معاصران لا يحتاجان إلى أي إضافة عصرية عليهما، فلم يطرأ عليهما أي تعديل وتم توظيفهما ضمن الوصلة بالطريقة الأصلية التي عرفا بها، الموسيقار فريد الأطرش والأخوان رحباني وصلوا بالأغنيتين إلى السقف ولا يمكن أن نضيف شيئا عليهما وانحصر جهدنا بتذكير الناس بهما”.

التفاعل العصري

جديد في بنية الأغنية يتفاعل معه الكثيرون
جديد في بنية الأغنية يتفاعل معه الكثيرون 

لم يكن الحفل الذي قدم ضمن الصيغة الفنية المعتادة، بل قدم جديدا بنيويا يقول عنه نجار لـ”العرب”: “استخدمنا في الغناء الأسلوب الديناميكي، وهو أسلوب قلما يوجد في الغناء العربي، ويعني أن يطوع المغني صوته ليكون آليا مرنا، يعمد فيه إلى استخدام التسارع والتباطؤ بالصوت أو بإيجاد تغيرات في شدة الصوت ارتفاعا وانخفاضا، وهذا نجده في الغناء الأوبرالي الغربي”.

مضيفا “قدمنا هذه الآلية ضمن غناء الموشحات الأصيلة وحافظنا على هوية الشعر واللحن والمقام، لكننا قدمناه بروح ديناميكية حديثة، هذه الأفكار في التقديم كانت بالتنسيق والتشاور بيني وبين المايسترو كمال سكيكر، لكي نصل إلى صيغة تصل بالحفل إلى حالة النجاح. ووضع كمال سكيكر التوزيع الموسيقى بلمساته الجميلة كما كنت أرغب فعلا، وكانت النتيجة رضى الجمهور الذي كان متفاعلا مع الحفل".

◙ الحفل احتوى قوالب مختلفة كالموشح والدور والطقطوقة والقد والأغنية التراثية وتميز باختلاف المقامات الموسيقية

ومجددا يتعاون سومر نجار مع الفنان حسام تحسين بك الذي قدم له في بداية عام 2019 مجموعة من الأغنيات التي يعرفها الجمهور العربي منها "أنا هويتك" للمطرب فهد بلان و"جايتني مخباية" للمطرب موفق بهجت و"غزالة وناتالي" اللتان غناهما المؤلف ذاته.

في الحفل قدم سومر نجار مجددا أغنية "تعالي" وهي من مقام الكرد، عمل على توزيعها أوركستراليا كمال سكيكر فأعطاها أجواء متنوعة، رومانسية حينا وكرنفالية حينا آخر.

ويقول نجار "حاولت أن أطرح فيها مقاما موسيقيا حديثا نسبيا هو الكرد الذي يعتبر من الاشتقاقات الأحدث في الموسيقى العربية. رأيت أنه يمكن للحفل أن يتحمل وجوده، فقدمت الأغنية ووظفتها ضمن هوية العمل ككل، وجدت فيها الآلات النفخية والأوركسترالية وظهرت الآلات العربية ضمن جمل محددة".

 

14