هل مشكلة أربيل مع بغداد فقط؟

على طول الخط كانت، ومازالت، مشاكل وأزمات إقليم كردستان العراق تصنف على ثلاثة مستويات، الأول يتمثل في الداخلية منها والمحصورة في نطاق حدود الإقليم، والتي تمتاز بأبعادها وخلفياتها التأريخية، تحديدا بين الحزب الديمقراطي الكردستاني وغريمه التقليدي الاتحاد الوطني الكردستاني، إلى جانب مشاكل وأزمات هذين الحزبين مع الأحزاب الكردية الأقل حجما ذات التوجهات الإسلامية واليسارية.
والمستوى الثاني، يتمثل في المشاكل والأزمات مع السلطات المركزية في بغداد، وهي مشاكل وأزمات ذات جذور عميقة، بعضها ربما يعود إلى العهد الملكي، لتتنامى وتتسع وتمتد إلى الحكم الجمهوري بمختلف محطاته ومراحله، دون أن تنتهي وتضمحل بعد سقوط نظام حزب البعث في العام 2003.
والمستوى الثالث، يتمثل في المشاكل والأزمات مع الفضاء الإقليمي المجاور للعراق من جهة الإقليم، وبالتحديد إيران وتركيا. تلك المشاكل والأزمات التي غالبا ما كان إيقاعها يتصاعد ارتباطا بطبيعة الحراك الإقليمي وملفات الصراع والتنافس في المنطقة.
ولعل السمة الغالبة لعموم التفاعلات الحاصلة في كل الأوقات، هو تداخل المشاكل والأزمات والملفات وتشابكها في المستويات الثلاثة المشار إليها إلى حد كبير، حتى يبدو من الصعب في بعض الأحيان رسم الحدود الفاصلة فيما بينها وتشخيصها.
◙ يخطئ من يعتقد أن مخرجات حوارات أربيل مع بغداد ستكون مثمرة مثلما يتطلع إليها أصحاب القرار الكردي، مع تأكيد كبار المسؤولين في الحكومة الاتحادية وفي مقدمتهم السوداني بضرورة الاحتكام إلى الدستور
ولذلك التداخل والتشابك أسبابه وظروفه وعوامله، التي من بينها، عدم وجود رؤى ومواقف سياسية موحدة ومنسجمة للقوى السياسية الكردية العراقية، ناهيك عن مواقفها المتناقضة والمتقاطعة مع عموم مواقف القوى السياسية الكردية في الدول المجاورة. وبالتالي، تعدد ارتباطات وأجندات الأحزاب والقوى الكردية وتفاوتها وتباينها، سواء على الصعيد الداخلي أو الإقليمي أو الدولي. والسبب الآخر يكمن في طبيعة طموحات الاستقلال الكردية ومشاريعها، التي كانت تصطدم دوما بحسابات الدول التي يتواجد فيها الأكراد ومصالحها، بصرف النظر عن أوضاعهم وظروفهم الخاصة ومساحة الحرية السياسية، والحقوق الاجتماعية والثقافية والاقتصادية الممنوحة لهم.
ولأن الأوضاع والظروف في العراق اتسمت في الغالب بالارتباك والاضطراب وعدم الاستقرار، بمختلف المراحل، فمن الطبيعي جدا أن ينعكس كل ذلك على المشهد الكردي العام من النواحي السياسية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية، بحيث أنه لا حصول الإقليم على الاستقلال شبه التام منذ عام 1991، ولا انفتاحه السياسي إقليميا ودوليا، ولا الموارد المالية الجيدة، ولا وجوده ومشاركته في السلطة الاتحادية، ساهم في تحقيق قدر معقول ومقبول له من الاستقرار العام رغم النهضة الواضحة على صعيد البناء والإعمار والتنمية مقارنة بباقي مدن وسط العراق وجنوبه.
وما دامت المشاكل والأزمات مركبة ومتداخلة ومتشابكة، ومادامت الظروف والأوضاع العراقية وكذلك الإقليمية تلقي بظلالها على إقليم كردستان، فإن تلمّس الحلول والمعالجات الحقيقية الجذرية، يبدو أمرا صعب المنال، والوقائع والأحداث والتفاعلات الراهنة تؤشر إلى ذلك.
داخليا، هنالك شبه قطيعة بين الحزبين الرئيسيين، لاحت معالمها وملامحها مع تصاعد حدة الخلافات حول منصب رئيس الجمهورية، الذي حسم في نهاية المطاف وفق منطق الأمر الواقع، وتجنب كسر أيّ من الطرفين، استنادا إلى قاعدة لا غالب ولا مغلوب، بعد استبعاد مرشحيّ الحزبين للمنصب، وهما كل من مرشح الاتحاد برهم صالح ومرشح الديمقراطي ريبير أحمد، والقبول على مضض بالقيادي الكردي المخضرم في الاتحاد الوطني عبداللطيف رشيد، دون أن تنتهي دوامة الخلافات بين الجانبين عند هذا الحد، بل امتدت إلى التنافس الحاد حول وزارتي الإسكان والإعمار، والبيئة، وهما من حصة المكون الكردي في الحكومة الاتحادية إلى جانب وزارتي الخارجية والعدل.
وقريبا من التنافس على المناصب في الحكومة الاتحادية، وربما بعيدا عنه، راحت الأمور تتعقد وتتأزم أكثر فأكثر داخل حدود الإقليم. فنائب رئيس الحكومة الكردية المحلية قوباد طالباني وعدد من الوزراء التابعين للاتحاد الوطني الكردستاني، قرروا منذ عدة أسابيع مقاطعة جلسات الحكومة، احتجاجا على ما قيل عن وجود مشاكل بين الاتحاد ومجلس وزراء الإقليم، أو بعبارة أخرى بين الاتحاد والديمقراطي الكردستاني، باعتبار أن الأخير هو من يسيطر ويتحكم إلى حد كبير بالحكومة وقرارات مجلس الوزراء. في ذات الوقت تصاعدت بعض الأصوات المطالبة بإنشاء إدارة مستقلة في مدنية السليمانية عن حكومة أربيل المحلية.
وتؤكد أوساط سياسية كردية، أن تصاعد حدة الخلافات بين الحزبين الرئيسيين في الإقليم، جاء على خلفية عدة قضايا، بينها توزيع المشاريع على محافظات الإقليم والمناصب في الحكومة الاتحادية. وبصراحة ووضوح أكبر، يؤكد القيادي في الاتحاد الوطني غياث السورجي أن “هنالك تصعيدا مستمرا بين الجانبين، ولم يتم إجراء أي اجتماع أو حوار أو اتصال، وحتى الآن لم تتم مفاتحتنا بشأن زيارة وفد من الحزب الديمقراطي أو تحديد موعد لها”، في حين يؤكد المتحدث الرسمي باسم الحزب الديمقراطي محمود محمد أن حزبه “أبلغ رسميا الاتحاد الوطني الكردستاني بالاستعداد لخوض حوار مشترك لمناقشة المشاكل والخلافات القائمة بين الجانبين، وأن مكان حل المشاكل بين الأطراف السياسية هو الجلوس على طاولة الحوار وليس عبر وسائل الإعلام”.
ولا شك أن النظرة الواقعية للأمور تقول إن خلافات وتقاطعات وصلت إلى درجة المواجهات العسكرية المسلحة عدة مرات، على امتداد حوالي نصف قرن بين الديمقراطي والاتحاد، لا يمكن أن تذوب وتتلاشى مع بقاء تراكمات الماضي وما خلّفته وتخلّفه من مظاهر عدم الثقة والتوجس وسوء النوايا المتبادلة، وتنامي الشعور بالغبن والإهمال.
وسواء في عهد نظام صدام حسين، الذي كان يسعى دوما لإثارة الخلافات بين الفرقاء الأكراد من أجل إضعافهم، وبالتالي اختراق صفوفهم وفرض إرادته عليهم، أو في عهد النظام السياسي الحالي، وبوجود رغبات ومساع لدى القوى السياسية العراقية المختلفة – كما يبدو من ظاهر الأمور – لاحتواء الخلافات الكردية – الكردية، تجنبا لما يمكن أن تفضي إليه من نتائج وآثار سلبية على مجمل الواقع العام للبلاد، فإن إسقاطات الواقع السياسي الكردي كانت حاضرة وملموسة دوما في العاصمة بغداد.
فعلى مدى تسعة عشر عاما اتسمت العلاقات بين السلطة الاتحادية والسلطة المحلية في إقليم كردستان بشمال العراق، بثلاثة أمور:
الأول: غياب الثقة بين الطرفين، وطغيان أجواء الشك والريبة والتوجس لدى كل طرف حيال الطرف الآخر.
الثاني: العجز عن التوصل إلى حلول حقيقية للإشكاليات والنقاط الخلافية بين الطرفين رغم أن قنوات الحوار على الصعيدين الرسمي وغير الرسمي لم تنقطع في يوم من الأيام، حتى في ظل ذروة التأزم والتصعيد.
الثالث: تأثر إيقاع العلاقات بين بغداد وأربيل ومسارها بطبيعة العلاقات مع الأطراف المجاورة، وبتفاعلات الوقائع والأحداث في بعض مساحات المشهد الإقليمي العام وفضاءاته.
ومع تشكيل كل حكومة عراقية جديدة يرتفع منسوب التفاؤل بتحقيق انفراجات كبيرة، وفك العقد الإشكالية القائمة، وحلحلة الملفات الشائكة، من قبيل ملف تصدير النفط من قبل حكومة الإقليم وآلية استخدام عوائده، وملف المناطق المتنازع عليها، وملف حصة الإقليم من الموازنة المالية الاتحادية، وملف المنافذ الحدودية الموجودة ضمن الحدود الإدارية للإقليم، سواء الرسمية منها أو غير الرسمية. وفي كل مرة ومع الدخول في التفاصيل والجزئيات بعد مرور عدة شهور على تشكيل الحكومة، تعود الأمور إلى ما كانت عليه، وربما تصل إلى درجات ومستويات أسوأ وأعقد.
وحتى الآن من غير الواضح فيما إذا ستختلف الأمور مع الحكومة الاتحادية الجديدة برئاسة محمد شياع السوداني، التي ولدت بعد مخاضات عسيرة، وعبر توافقات وتفاهمات الأمر الواقع بين المكونات الرئيسية الثلاثة، الشيعية والسنية والكردية، دون إنكار دور القوى السياسية الكردية، وتحديدا الحزب الديمقراطي الكردستاني برئاسة مسعود بارزاني، والاتحاد الوطني الكردستاني برئاسة بافل طالباني، ببلورة الظروف المناسبة وتهيئتها لإنهاء الانسداد والجمود السياسي الذي كاد يعصف بالبلاد سياسيا وأمنيا واقتصاديا. في ذات الوقت فإن قوى الإطار التنسيقي والسوداني أبدوا تجاوبا جيدا مع بعض المطالب والاشتراطات الكردية بشأن الترشيحات للحقائب الوزارية التي هي من استحقاقات المكون الكردي، وكذلك بذلوا جهودا مكثفة وجادة لتطويق الخلافات بين الفرقاء الأكراد وتقليص مدياتها إلى أقصى قدر ممكن.
◙ ما دامت المشاكل والأزمات مركبة ومتداخلة ومتشابكة، ومادامت الظروف والأوضاع العراقية وكذلك الإقليمية تلقي بظلالها على إقليم كردستان، فإن تلمّس الحلول والمعالجات الحقيقية الجذرية، يبدو أمرا صعب المنال
وكما يقولون، فإن حسابات الحقل ليست كحسابات البيدر. والحوارات واللقاءات الدبلوماسية رفيعة المستوى بين بغداد وأربيل تتسم باستمرار بالهدوء والأريحية والتوافق على المبادئ والخطوط العامة، بيد أنه في الحوارات عند المستويات الأدنى التي تخوض في تفاصيل الأمور وجزئياتها، تطفو الخلافات والاختلافات، وتنحسر فرص التفاهمات ومساحاتها، وتطغي المساومات والاشتراطات والإملاءات. ولعل الأسابيع القلائل الماضية أشّرت إلى ذلك، من خلال مجيء رئيس إقليم كردستان نيجرفان بارزاني مرتين إلى بغداد، وبوجود وفد من حكومة الإقليم يضم وزراء ومستشارين ومسؤولين كبارا، لفترة غير قصيرة في العاصمة بغداد، لتحديد حصة الإقليم في الموازنة الاتحادية، وحسم الملفات المالية العالقة والمتراكمة من الأعوام السابقة، وطبيعة التنسيق بين قوات الجيش الاتحادي والبيشمركة الكردية فيما يتعلق بتأمين الحدود، وقضايا أخرى.
ويخطئ من يعتقد أن مخرجات حوارات أربيل مع بغداد ستكون مثمرة مثلما يتطلع إليها أصحاب القرار الكردي، مع تأكيد كبار المسؤولين في الحكومة الاتحادية وفي مقدمتهم السوداني بضرورة الاحتكام إلى الدستور، ومع وجود التراكمات الكبيرة والمعقدة. فضلا عن ذلك، فإن جانبا من الاستحقاقات في المشهد الإقليمي لا بد أن يلقي بظلاله على بعض الحراك بين بغداد وأربيل، من قبيل عمليات القصف الإيراني والتركي التي تستهدف مقرات وقواعد المعارضة الكردية لكل من طهران وأنقرة المتواجدة على الأراضي العراقية ضمن حدود الإقليم، وما يتسبب فيه ذلك التواجد والقصف من أوضاع مضطربة، ناهيك عمّا يشاع عن وجود استخباراتي إسرائيلي في الإقليم، تتحسس منه طهران كثيرا، ويحرج بغداد سياسيا.
ومن دون الاستغراق في دقائق وتفاصيل الأمور، فإن مجمل التفاعلات في ميدان الإقليم لا بد أن تلقي بظلالها الثقيلة على أجواء المباحثات والحوارات السياسية بين بغداد وأربيل، وهذا شيء طبيعي جدا، خصوصا وأن هناك أبعادا سياسية وأمنية واقتصادية ومالية تخص الحكومة الاتحادية وحكومة الإقليم المحلية، وكذلك تخص طهران وأنقرة من زوايا مختلفة، دون أن تكون واشنطن وعواصم أخرى بعيدة عن كل ذلك.
وإذا كان العنوان العريض لعموم الواقع هو “أزمة الثقة” أو “غياب الثقة” بين مختلف الأطراف، فإن تلك العقدة لا يمكن فكها أو حلحلتها بيسر وسهولة وخلال وقت قصير. والإبقاء على ذات السقوف والاشتراطات والمطالب والطموحات السابقة، يعني بقاء الأمور على حالها، والجميع معنيون بذلك. بيد أن أربيل هي الأكثر، في حال أرادت أن تعيد خيوط الوصل مع السليمانية، وتحافظ على وجودها وحضورها المؤثر في بغداد، وتتجنب نيران صواريخ ومدفعية الحرس الثوري الإيراني، ولا تقع بين كماشتي أنقرة وحزب العمال الكردستاني المعارض (PKK).