هل كانت جويس منصور ابنة لأبيها المعادي للأبوة أندريه بريتون؟

رغم التفوق الكبير للشاعرة المصرية الفرنسية جويس منصور في الحركة السريالية، والتي كانت من أبرز رموزها، فإن الثقافة العربية لم تر من الشاعرة غير الجانب الجريء في نصوصها، ونادرة هي الكتابات التي تتناول شعرها بالبحث والنقد وحياتها بقراءة موضوعية، تحاول ملاحقة الشعر فيها، وهي التي عاشت متمردة قوية صوتا نسويا عميقا ومؤثرا رغم الفهم المغلوط.
تحتل الشاعرة جويس منصور مكانة خاصة في الشعر العالمي ليس فقط لكونها أحد مؤسسي السريالية، ولكن أيضا لتجربتها الشعرية الفريدة التي حطم نسيجها اللغوي والتشكيلي والمجازي والروحي والجسدي الكثير من التابوهات، حيث تغلغلت في أسرار الذات الإنسانية عامة والأنثوية خاصة وما يحيط بها لتقبض على مختلف التجليات، وتقدم نصا شعريا فريدا قادرا على الاستمرار حيا نابضا ومتوهجا.
كتاب “جويس منصور طفلة مسك الروم.. سيرة بحثية” الذي ألفه الشاعر والفنان التشكيلي محسن البلاسي بتقدير ومحبة بالغين يضيء أبعاد وملامح سيرتها ومراسلاتها وما تحمله من أصداء تجلت في كتاباتها، كما يكشف عن علاقتها بالسريالي المصري جورج حنين وكذلك بأندريه بريتون مؤسس الحركة السريالية وجورج هونيه وبيير سيجغر وغيرهم من السرياليين.
شاعرة بلا خوف
الكتاب الذي صدر عن دار صفصافة قدم له كل من الشعراء والفنانين ويل ألكسندر، ريكي ديكورنيه، جيورجيا بافليدو، ومدير بيت أندريه بريتون في سان سيرك لابوبي لوران دوسيه، والباحث في جامعة السوربون وجامعة باريس مارك كوبيغ، ومهد له البلاسي الذي رأى أن “جويس هي إيروس الأزلي، أكّال اللحوم ذو الأرجل الذهبية الأربعة والأربعين”. وأضاف “على مدار أكثر من ثلاثين عاما، تم تقديم جويس للشرق الأوسط فقط كشاعرة إيروتيكية. وقيدت في هذا الإطار عبر حركة نقدية تحمل رؤوسا
حجرية، وتم تجاهلها كقاصة وفنانة، بل وناقدة ومفكرة سريالية، شاركت بشكل جذري ومركزي في صياغة وتشكيل تاريخ الحركة السريالية الدولية، من خمسينات حتى ثمانينات القرن الماضي”. وأوضح “لم أبدأ هذه الرحلة بكتابة حياة جويس لأول مرة بالعربية في هذا الكتاب بمساعدة بيير
باتيو وأصدقاء من الحركة السريالية القصصية المعاصرة، لكنني قمت قبل ذلك بترجمة أعمالها كافة، التي لا يعرف عنها القارئ العربي أي شيء. وسأعمل على نشرها بعد هذا الكتاب، الذي يتناول سيرة حياة جويس بمصاحبة حفر نقدي في مراسلاتها وحكاياتها وفعالياتها، مع مجموعة باريس السريالية والفنانين والشعراء المحيطين بها. إن المنتج السردي لجويس يعد أعجوبة لغوية ليس لها مثيل في رأيي، نزيف من الحكايات لا يتوقف عن الفيضان. نجم أسود بعيد ذو مدارات سحيقة ومستحيلة التلاشي. هذا الكتاب وكتاب قصصها الحارقة الذي سيليه، هو قيامة جديدة لإيروس، من بطن البقعة الجغرافية التي نشأت فيها طفلة مسك الروم، وتشكل فيها خيالها الشعري المبكر”.
يقول ويل ألكسندر في مقدمته إن أعمال جويس “ليست مجرد هلوسات ذاتية، بل تكهنات نبوئية محفزة بشكل شاعري، منقوشة عبر وعي غلافها الجوي المسكون بها. لم تكن جويس فقط أعجوبة متجولة، بل هي آخر، لا يختلف عن بريق مرعب لبوتقة مخلوق فضائي، يشبه شظايا طائر الشبنم الجينية، الذي يصطاد ويبيد مصفوفة من الفرائس الخطيرة. إنها كخطر ممسوس، ستخفي ثعابين الكوبرا المسكونة وراثيا والتي تبيد انبعاثاتها بنفسها بما لا يختلف عن تعويذة خطيرة أو جوهر خطير. مثلنا جميعا، اندلعت من مستوى عاصف، لا يزال غامضا بالنسبة إلينا، لم تتحور أبدا بشكل عام إلى فريسة لأي إجبار أو تفوق ذاتي. بقيت طوال حياتها نقشا مسكونا، هسهسة متفردة، تلتهم الفريسة دائما”.
ويتساءل مارك كوبيغ “هل كانت جويس ابنة لأبيها المعادي للأبوة؛ أندريه بريتون؟” ويضيف “لا تحترم شيئا، وقحة، كما كما لو كانت أليس في بلاد العجائب، أهي الوحيدة التي يمكن أن تكون مفتونة بالمفتاح الزجاجي؟ أمسكت به بيديها الرقيقتين الحادتين والمسننتين بالمسامير. وبهذا المفتاح الذي قدمه أندريه بريتون بنفسه، تمكنت القوية بعبقريتها من فتح أقفال فترة ما بعد الحرب. تحت الأبواب المغلقة، تمر ‘كلمات جميلة أو كلمات ساحرة’، وشعاع من الضوء الباهت. هل هي أخت فرعون اللقيطة؟ بين أصابعها يتدحرج الزمن والشعر. ‘مثل بيضة في قفص'”.
وتابع “قال لها تيد جونس الذي أحبها بصفتها أخته الفرعونية السوداء الأخت جويس.. من الذي لم تحبه؟ ومن لا يستطيع أن يحبها؟ بسبب تجاوزاتها التي نادرا ما تكون غير مبررة، يتم التعامل معها دائما بشكل مثالي، مثل حذاء مدبب جدا يضرب مؤخرة القتلة”. ويلفت “هذه المرأة التي استطلعت آراء السرياليين بصفتها خبيرة، وذهبت للتحقق من كل ما هو مهم في فكر أندريه بريتون وأصدقائه، وهي التي قرأت
بطلاقة لغة أعلى إبداعا، والتي قدرت الخيال حتى يكون في ذروته، وتجلت براحة تامة في حياة المنفى هذه. ومع ذلك فقد احتفظت بداخلها بحنين كبير إلى نور مصر، وغبار الشوارع، والرمل، والمناظر الطبيعية التي اجتازتها أثناء ممارستها للرياضة في شبابها في القاهرة. نعم شعرت بالاحتياج إلى أفريقيا، ورائحتها، وأجوائها الجسدية، ودفئها”.
من اليونان إلى شمال أفريقيا، أو كينيا، في أسفارها العديدة غالبًا ما كانت الإشارة التي تتبادر إلى الذهن هي العالم المصري. لم تنس شيئا من مشاعرها الأولى على الرغم من تأقلمها في فرنسا، وعاد العالم الشرقي إلى الظهور في العديد من أعمالها، في أكثر القصائد والقصص المدهشة التي كتبتها، يمكن لخيالها الشعري أن يبيد جبالا من الملل وقوة الانهيار الموجودة في هذه الحياة. وفي تلك الأعمال ما هو قادر على تمزيق العديد من القيود السياسية والدينية والأخلاقية.
من اليونان إلى شمال أفريقيا، أو كينيا.. لم تنس شيئا من مشاعرها الأولى على الرغم من تأقلمها في فرنسا، وعاد العالم الشرقي إلى الظهور في العديد من أعمالها
ويقول ريكي ديكورنيه “مثل تعويذات وتمائم الزمن الماضي، فإن نصوص جويس تتحدى وتلقي الضوء على التوقعات والحدس، وتوحي بالوعد الجنسي، وتؤدي إلى عدم الرضا والفزع والعبث، حيث يكون القارئ أكثر استعدادا لأي شيء، بما في ذلك الضربات المفاجئة – التي لا يمكنها أن تكون أكثر تدميرا – كل هذا، ومع ذلك، من داخل الظل، وحتى لا يكون متوقعا، ستقدم جويس بهجة لا تعرف الخوف، لحظة مفاجئة ينتصر فيها إيروس ويغني: إيروس. المانجو الذي يشفي ويسر القلب”.
وتقول جيورجيا بافليدو “بصفتي كاتبة ورسامة، يحزنني إلى حد ما الاستمرار في التأكيد على جنسي عند تقديم نفسي في عام 2023، فأنا مفتونة بإدراج جويس في التشريح الأنثوي والتجربة الجسدية في شعرها. مما لا يثير الدهشة بالطبع، أن شاعرية جويس المتمحورة حول المرأة لا تتغذى عليها الصور الطيبة للسيدات اللاتي يملن للأمومة والتي عادة ما تشبع الخيال الجماعي في ما يتعلق بالأنوثة، على العكس من ذلك. تستند صورها بشكل حاسم إلى الأنوثة القلاعية: نجد ليليث في كتابات جويس، وليس الأم ماري، كتبت ‘قد يستفزك ثديي/ أريد غضبك/ أريد أن أرى عينيك غليظتين/ يبيض خداك حين يتجوفان/ أريد ارتجافك/ قد تنفجر بين فخذي/ أتمنى أن تتحقق رغباتي في التربة الخصبة/ لجسدك الوقح/ أو بشكل مباشر أكثر/ أود أن أكشط الدماء من أحلامي عبر تدمير الأمومة'”.
من المهم التأكيد على أن في الخمسينات من القرن الماضي، لم تكن هذه الإشارات الصريحة إلى الترشيح الأنثوي والإثارة الجنسية المروعة شائعة على الإطلاق. أضف إليها مزيجا من عناصر مستوردة من الأساطير المصرية، واللغة الدينية المشوهة والمقلوبة عمدا، وسنصل إلى عالم شعري سادي يتميز بجماليات جويس. كل هذا وأكثر تم بحثه بإسهاب في هذا الكتاب للبلاسي، عن حياة وعمل واحدة من أكثر الأصوات الشعرية الفريدة التي أنتجتها الحركة السريالية في باريس. ليس بالأمر الهين أن يكون الكتاب أول كتاب ينشر في مصر عنها، في منشأ جويس. أود أن أقول إنها أكثر من مجرد علامة فارقة، إنها معجزة مصغرة.
تحرر شخصي
يرى محسن البلاسي أنه تلقائيا طوال حياتها كثفت جويس هالة اللغز الذي أحاطها، فمزجت الحديث عن حياتها المبكرة، بسير ذاتية في أغلبها تنبع فقط من مخيالها الشعري. كانت تعيد خلق حياتها المبكرة في قصائدها والمساحات الحسية والنفسية لشخصيات قصصها القصيرة وحكاياتها الخاصة مع أصدقائها. كانت تنتشي ببث الارتباك مع الفكاهة لتصنع ماضيا شعريا لها، لتكتب أسطورتها الحياتية والأدبية قبل رحيلها الجسدي. أسطورة الشابة الغريبة التي حكت دائما عن قرينة لها، سترسلها لمن يريدون مقابلتها، مجدت الموت والصدمة واللذة الجسدية بتمزقاتها الوجودية، التي تشعبت لثورة شعرية.
ويشير إلى أن الجمال عند جويس منصور يعبر عن الحاجة إلى تجاوز الحدود، التي يفرضها هيكلنا الاجتماعي لإعادة الاعتبار للجمال بتحريره تحريرا شاملا وحقيقيا. فقط عبر تحرير الرغبة ونشوة تحطيم حدود المكان والزمان. إنها مثل أندريه ماسون، تستكشف عالمها الباطني بالتخلي عن التحكم في إيماءته، وتستكشف الإنسان ليس فقط من خلال قشرته المادية ولكن من خلال كونه الداخلي عبر التنازل عن كل معنى أو تمثيل مسبق حيث يكشف الإنسان نفسه لنفسه.
تستخدم جويس واقعا مألوفا لكشف واقعها الباطني وتحويله وإعادة تكوينه، فهذا العالم يظل غير مبال، وحتى وقحا، ولا يظهر الكون الذي يحيط بنا لكن لديه كونه الحسي الخاص، حيث تنحني الحقيقة الموضوعية إلى المطالب الحميمة لرغباتها، من خلال تحطيم أو إعادة تكوين تجارب حياتها من خلال الكتابة.
ويؤكد البلاسي أن نصوص جويس قبل كل شيء هي تحرر شخصي. إنها لا تأخذ القارئ بعين الاعتبار، لأنها تكتب عن نفسها وتتجاهل التأثير الذي تسببه الطبيعة الغريزية البدائية في أعمالها. تتحدث بضمير المتكلم، وتظل النغمة سرية، حتى في الأوقات التي يسود فيها العنف فهي تنقل سطورها كانطباع عن الصدق من رؤيتها الخاصة حتى في أكثر صرخاتها إثارة للحرية. من خلال الصور التي تستحضرها من كلماتها، تنقل إلينا تجربتها عبر الألم، حتى لو لم تتحدث إلينا أبدا، حتى عندما تتحدث إلى الآخر أي آخر، إلى الشريك الجنسي أو إلى الأسطورة الخاصة بها.
ويكشف أن اتحاد جويس مع مجموعة باريس السريالية كان اتحادا أسطوريا على المستوى الشعري. وقد جسد أندريه بريتون هذا الاتحاد الشعري عبر نص كتبه عنها عام 1958 وعثر عليه بعد ذلك بوقت طويل في مكتبتها “الأشكال المضرية: حديقة المباهج لهذا القرن، على الجزء الأيمن من اللون الأزرق الداكن، الذي يزداد التهاما من أي وقت مضى. لا يمكن استدعاؤنا إلا لمن لديه ثروة أكبر، بما في ذلك النقاء الأول، مثل تلك التي أعلنها الهدهد السحري، وأنها الحكاية الشرقية تسمى طفلة مسك الروم”.