هل عجّل فوز كاواباتا بجائزة نوبل بانتحار يوكيو ميشيما؟

"البحر والغروب وقصص أخرى" قصص فارس خفيف التسليح.
الخميس 2023/05/18
كاتب استثنائي في تاريخ اليابان

نال الكاتب الياباني يوكيو ميشيما شهرة عالمية ربما زادت في تغذيتها نهايته المأساوية، لكن هذا لا ينفي أهمية تجربته الأدبية التي كتب خلالها الشعر والقصة والرواية والمسرحية، كما اشتغل في السينما، ليخط له اسما مختلفا بين أقرانه، جعله يحلم إلى آخر حياته بنيل نوبل للآداب.

يعتبر يوكيو ميشيما (1925 ـ 1970) أكثر كاتب ياباني نال شهرة عالمية رغم عدم حصوله على جائزة نوبل للآداب التي تعتبر بوابة الانتشار العالمي، خاصة لأدباء اللغات التي لا تتمتع بانتشار عالمي؛ فاللغة اليابانية لا تتحدث بها إلا دولة واحدة فقط، ورغم ذلك يقال إن كتب ميشيما قد بيعَ منها أكثر من 25 مليون نسخة في دول العالم المختلفة وبمختلف اللغات الحية، وكذلك يعتبر يوكيو ميشيما أكثر كاتب ياباني ترجمت أعماله إلى اللغة العربية.

هذه المختارات “البحر والغروب وقصص أخرى” التي أعدها وترجمها المترجم ميسرة عفيفي، وصدرت عن مؤسسة هنداوي عام 2022، تكشف جماليات القصة القصيرة اليابانية ورؤاها وأفكارها والحساسية الفنية المتميزة التي تمتع بها ميشيما.

فارس خفيف التسليح

افتتح ميسرة عفيفي المختارات بمقدمة كتبها ميشيما عن رؤيته للقصة القصيرة، وختمها بمقال أيضا لميشيما بعنوان “يوكيو ميشيما بقلم يوكيو ميشيما” ومقال له بعنوان “يوكيو ميشيما وأزهار الكرز” وضع فيه رؤيته للإبداع الياباني عامة وإبداع يوكيو ميشيما خاصة.

يقول ميشيما في مقدمته التي كتبها عام 1968 “ابتعدت بالفعل كثيرا عن كتابة القصص القصيرة، حتى أنني أشعر بالحرج من مجرد تقديم مجموعة قصص قصيرة لي. ولكن ذلك الابتعاد لم يكن بسبب اتباعي لتيار عصر الصحافة الحالي الذي يقال عنه إنه يمثل مرحلة اضمحلال القصة القصيرة؛ فقمت بالإقلال من تأليف القصص القصيرة، وكأن الأمر مثل عملية تقليل الإنتاج في مصنع للغزل. ولكن الذي حدث أن قلبي ابتعد بشكل طبيعي عن تأليف القصص القصيرة”.

قصص الكتاب لا يوجد لها موضوع نهائي بل هي كالسهم الذي تم سحبه لتوجيهه إلى هدف وتأثير محددين
قصص الكتاب لا يوجد لها موضوع نهائي بل هي كالسهم الذي تم سحبه لتوجيهه إلى هدف وتأثير محددين

وتابع “أما عن فترة شبابي وفتوّتي فقد خصصتها لتأليف الشعر والقصص القصيرة، والتعبير فيهما عن أفراحي وأحزاني. فأعتقد أنه مع التقدم في العمر، أنني تحولت من كتابة الشعر إلى كتابة المسرحيات، ومن القصص القصيرة إلى الروايات. وكلاهما، المسرحيات والروايات، يحتاج إلى جهد كبير لإنتاج أعمال أعمق بنية، تحتوي على عدد أكبر من الكلمات، وهو عمل يحتاج كذلك إلى صبر أطول وقوة تحمل أكبر. وليس أدل على هذا من أنني كنت أرغم نفسي على ذلك. ويوضح ذلك أنني أصبحت أحتاج إلى التحفيز والتوتر اللازمين لإنتاج الأعمال الضخمة والأكثر شمولية”.

ويضيف “أعتقد أن لهذا الأمر علاقة بتحول أفكاري من شكل الأمثال والحكم القصيرة إلى شكل الأفكار البنائية المتكاملة؛ فعند التطرق إلى فكرة ما واحدة أصبحت أكثر ميلا إلى الاستطراد فيها وإعطائها وقتا أطول، ثم السير معها بتأن وروية؛ من أجل إقناع القارئ بها، وأصبحت أتلافى أكثر وأكثر قول الأمثال والإبيجرامات. ربما لو قلت إنه النضوج الفكري لكان لهذا التعبير رونق وجمال، ولكن الأمر عبارة عن توافق تقدم العمر مع اضمحلال تدفق الأفكار السريع المتوالي في خفة وانسيابية، وإن كان المرء متعجلا؛ أي إنه يمكنني القول إنني تحولت من فارس خفيف التسليح في سلاح الفرسان إلى فارس ثقيل التسليح”.

ويوضح ميشيما أن “القصص التي تحتويها هذه المجموعة هي بالتالي أعمال من المرحلة التي كنت فيها فارسا خفيف التسليح، لكن الأمر ليس بهذا الإطلاق ولا بذلك التعميم؛ فهناك أعمال تنتمي فعلا إلى مرحلة الفارس الخفيف بشكل صرف، وهناك كذلك أعمال تنتمي إلى مرحلة التحول إلى فارس ثقيل التسليح، وتتضمن داخلها ذلك بشكل مثقل ومتعب، وقد كتبت خصيصا من أجل التدريب على ذلك”.

ولفت أنه إذا نظرنا نظرة خاطفة إلى قصص “فتى يكتب الشعر”، و”البحر والغروب”، و”الخوف على الوطن”، فستبدو لنا القصص الثلاث، وكأنها في نطاق الحكايات البسيطة السهلة. ولكن تلك القصص تحتوي ضمنا على أكثر القضايا إلحاحا بالنسبة إليّ. بالطبع من حق القارئ أن يستمتع بها كحكايات بسيطة وسهلة، دون أيّ اعتبار لتلك القضايا، (لقد اعترفت لي بالفعل مالكة بار شهير في حي غينزا أنها قرأت قصة “الخوف على الوطن” كقصة غرامية خليعة، وأنها لم تستطع النوم ليلتها بسببها) ولكن هذه القصص الثلاث كان من المحتم عليّ ككاتب أن أكتبها بأي شكل كان.

وبين أن قصة “فتى يكتب الشعر” تحكي عن العلاقة في فترة شبابي، بيني وبين الكلمات (الأفكار)، وتحكي عن نقطة انطلاقي في عالم الأدب، وتكويني النرجسي والقَدَري في الوقت ذاته. في هذه القصة يظهر فتى ذو مشاعر باردة يملك عينا ناقدة. لكن لهذا الفتى ثقة بالنفس لا يعلم هو ذاته من أين جاءت، بل وهو هنا يختلس النظرَ إلى جحيم لم يسبق له شخصيا أن فتح بابه من قبل. إنها سعادة “الشعر” التي تجتاح هذا الفتى، ثم تقوده في نهاية الأمر إلى خلاصة أنه لم يكن شاعرا من الأساس. ولكن هذا الفشل المفاجئ يصدم الفتى، ويقوده إلى “مكان لا يتذوق فيه طعم السعادة وإلى الأبد مرة أخرى”.

Thumbnail

وتابع “أما قصة ‘البحر والغروب‘ فتحكي عن أعجوبة عدم حدوث المعجزة رغم الإيمان الكامل بحدوثها، لا بل أعتقد أنني حاولت تلخيص موضوعها، وتركيزه في أنها أعجوبة تتفوق على أعجوبة حدوث المعجزة نفسها. هذه القضية أعتقد أنها قضيتي المحورية التي واصلت حملَها على عاتقي عمري كله. أعتقد أن الناس سيتذكرون على الفور اليأس الأكثر رعبا، ذا المذاق الشاعري الذي قيل وقت الحرب العالمية الثانية في شرق آسيا: لماذا لا تهب رياح الآلهة؟ إن سؤال لماذا لا يأتي العون من الإله؟ هو السؤال المحوري النهائي والحاسم بالنسبة إلى من يؤمن بالإله، ولكن قصة ‘البحر والغروب‘ ليست مجرد تجسيد أسطوري لتجربتي مع الحرب كما هي، ولكن على العكس من ذلك؛ فأنا أعتقد أن تجربة الحرب هي أكثر الأشياء التي أوضحت لي مشاكلي وعيوبي الذاتية، تمني المعجزة الذي يتلخص في قول ‘لماذا لم ينشق البحر وقتها إلى نصفين؟‘ كان بالنسبة إليّ أمرا لا يمكن تلافيه، وفي نفس الوقت، من المفروض أنني قد وعيت بوضوح، وفي الواقع منذ كنت في عمر قصة ‘فتى يكتب الشعر‘، أن ذلك مستحيل الحدوث“.

وختم ميشيما رؤيته لقصص المجموعة بأن “قصة ‘الخوف على الوطن”‘ عبارة عن سيرة خيالية لحادثة 26 فبراير، وأن ما تم رسمه هنا من مشاهد الحرب والموت، وتأثير التعاون والاندماج الكامل بين الإيروتيكا والولاء للحق، ربما يمكن القول إنها السعادة الوحيدة التي أنتظرها أنا من هذه الحياة. ولكن الأمر المحزن في النهاية أن هذه السعادة لا يمكن وقوعها إلا على الورق فقط. إذن لو كان الأمر كذلك فربما يجب عليّ، ككاتب، الرضا والاكتفاء بقدرتي على الانتهاء من كتابة قصة ‘الخوف على الوطن‘. لقد سبق لي أن كتبت في الماضي: إذا كان هناك شخص ما ليس لديه متسع من الوقت، ويريد قراءة قصة واحدة فقط من قصص ميشيما ورواياته، تكون بمثابة خلاصة تكثف أدب ميشيما كله بحلوه ومره، فمن الأفضل له قراءة قصة ‘الخوف على الوطن‘؛ فإنها تكفيه”.

وأضاف “شعوري هذا لم يتغير حتى الآن. حسنا، هناك كذلك حالات يميل فيها ذوقي إلى الاعتماد تماما على الإبداع الفكري الصرف في شكل موقف فكاهي سريع. هذه الأعمال لا يوجد لها موضوع يمكن أن نصفه بأنه موضوع، بل تكون كالسهم الذي تم سحبه لتوجيهه إلى هدف وتأثير محددين؛ إذ تحتفظ القصة بسمَة التوتر في كل ركن من أركانها، ويكون الهدف هو ‘لا وعي‘ القارئ. فإذا أصابت الهدف تكون ‘متعة له‘، وتكون القصة بمثابة التوتر الفكري الذي يتذوقه لاعب الشطرنج من المعركة؛ إذ يكفيه تشكيل معركة ليس لها أي معنى محدد. وقد اخترت من بين القصص التي كتبت بهذا القصد قصص ‘ورق جرائد‘، و‘في سن التاسعة عشر‘، و‘التاجر‘، و‘إلهة الجمال‘؛ لأنها الأعمال الأجود نسبيا في ذلك الإطار”.

حديث عن الذات

Thumbnail

في مقاله عن شخصيته والمعنون بـ “يوكيو ميشيما بقلم يوكيو ميشيما” يقول ميشيما “بطلب ملحّ من إدارة التحرير تقرر أن أتكلم عن الروائي الذي يسمى يوكيو ميشيما، وأنا لا أعرف الكثير عنه. أمامي بعض المعلومات والبيانات عنه جمعتها لي إدارة التحرير، ولكن ما أعرفه عنه فيما مضى أنه كتب رواية ‘خيانة الفضيلة‘ وتسبب في انتشار كلمة ‘الخيانة‘ الغريبة في البلاد وقتها. وأما حديثا فقد صدر ضده حكم ابتدائي في قضية انتهاك الخصوصية التي أقيمت ضده؛ فأصبح أضحوكة الناس في اليابان، هذا هو مبلغ علمي به”.

وأضاف “إنه يؤكد أن ‘ما يميز الرجل هو الثقافة والعضلات‘، ولأنه نفسه يملك الثقافة والعضلات (رغم أنها عضلات بديلة تمت إضافتها فيما بعد عن طريق رياضة كمال الأجسام)، فهو يتفاخر بأنه شخصيا: النموذج المثالي للرجولة. ولكن رغم امتلاكه تلك الثقافة الأدبية وتلك العضلات المزروعة بواسطة رياضة كمال الأجسام، فهو لم يستطع الانتصار في ذلك العراك الكبير أمام محاكم الدولة؛ ولذا فهو بالفعل يستحق أن يصبح أضحوكة”.

وتابع “ميشيما في الحقيقة رجل من طراز قديم، لدرجة الاقتباس من بودلير شاعر القرن الـ 19. فلا يزال اتجاهه قديما جدا، بخلاف الشباب من الكتاب الذين يهيمون حبا في هنري ميلر ونورمان مايلر. ورغم ذلك فهو يحب كل جديد أضعاف حب البشر العاديين للجديد، فعندما نظمت اليابان دورة الألعاب الأولمبية، تجده قد أهمل أعمالا في غاية الأهمية، وأخذ يدور من ملعب إلى ملعب كل يوم ممسكا بمنظار مكبر في يده لمشاهدة المباريات”.

حصول كاواباتا على جائزة نوبل "عجل" فقط بانتحار ميشيما ولم يكن سببا من أسباب الانتحار نفسه

وواصل حديثه عن نفسه “وعندما يسمع أن هناك فندقا جديدا سيفتتح، تراه قد لحقه سريعا ليبيت فيه أول لياليه. وإذا سمع أن إحدى الطرق السريعة الجديدة سوف يبدأ المرور بها من الساعة 12 عند منتصف الليل، تجده ينتظر داخل سيارته أمام مدخل الطريق في هانيدا قبل خمس دقائق من الموعد. وهكذا تراه يعيش أيامه مشتت الذهن، منهك الأنفاس. ولكن أحد البراهين على أنه إنسان عتيق الطراز، هو كرهه للطائرات النفاثة كراهيته للموت، وإذا اضطر مرغما أن يستقلها، تجده وقت إقلاع الطائرة وقد امتلأ كفا يديه بالعرق، وهو يرتجف ويرتعش من الخوف. إنه يشتهر بضحكاته العالية، فاتحا فمه بدرجة كبيرة مثل البلهاء، والتي بسببها انهارت كل لحظات الرومانسية الرقيقة التي حدثت له في حياته”.

ويشير المترجم ميسرة عفيفي إلى أن ميشيما ظل مرشحا لنيل جائزة نوبل لعدة أعوام، وكل عام كان ينتظر بفارغ الصبر إعلان الفائز بالجائزة، ويعد نفسه لعقد مؤتمر صحفي يتحدث فيه عن مشاعره بعد فوزه بتلك الجائزة العظيمة، ولكن بعد فوز كاواباتا بها، يئس ميشيما من الحصول على تلك الجائزة التي تعتبر قمة المجد في الأدب العالمي، لمعرفته باستحالة حصول أديب ياباني آخر على ذات الجائزة إلا بعد مرور سنوات وربما عقود طويلة. وهو ما حدث بالفعل، فلم يحصل أديب ياباني على جائزة نوبل إلا بعد مرور حوالي ثلاثة عقود، وهو كينزابورو أويه في عام 1994.

 ربما يظن البعض أن ربط انتحار ميشيما بعدم حصوله على جائزة نوبل يعني أن الانتحار كان بسبب الإحباط أو اليأس من التحول إلى أديب عالمي شهير. ولكن الأمر أن حصول كاواباتا على جائزة نوبل “عجّل” فقط بانتحار ميشيما، ولم يكن سببا من أسباب الانتحار نفسه.

ويذكر أن حادث انتحار ميشيما كان في 25 نوفمبر 1970م حيث توجه ميشيما مع أربعة من أعضاء جماعته جماعة الدرع بزيهم العسكري إلى مقر قوات الدفاع الذاتي اليابانية في إيتشيغايا بوسط طوكيو بعد أن أخذوا موعدا مع القائد العام للقوات. وأثناء لقائهم مع القائد العام قام ميشيما ورفاقه بأخذه كرهينة، وطالبوا بجمع كل أفراد قوات الدفاع الذاتي الموجودين في المقر؛ ليلقي عليهم ميشيما خطابه الذي أعده لهم؛ لكي يحثهم على الثورة والانقلاب ضد الوضع السائد وتغيير الدستور؛ لكي يتم إعادة كل السلطات للإمبراطور؛ ولكي تعود قوات الدفاع إلى ما كانت عليه من جيش قوي يحمي البلاد. ولكن لم يستطع ميشيما خلال عشرين دقيقة تقريبا من حديثه لهم من فوق شرفة غرفة القائد العام إقناع الجنود بأي شيء وسط تذمرهم وشوشرتهم على حديثه وعدم سماعهم لما يقوله؛ بسبب عدم استخدامه مكبرا للصوت، ووجود طائرات هيلوكوبتر تابعة لوسائل الإعلام تحوم فوق المكان. يئس ميشيما من الجنود فعاد إلى غرفة القائد العام، لينهي حياته بنفسه بطريقة الهاراكيري المقدسة ببقر بطنه بخنجر صغير، ثم أطاح مساعده المخلص رأس ميشيما من على جسده في ذات اللحظة.

12