هل سينجح الجنرال السعيد شنقريحة في نزع قفازات السياسة من أيدي العسكر؟

استلم الجنرال ماجور الصارم السعيد شنقريحة خبير الدبابات والمولود بتاريخ 1945، في مدينة القنطرة بولاية بسكرة، جنوب شرقي الجزائر، قيادة أركان الجيش الشعبي بالنيابة بعد وفاة الفريق قايد صالح الرجل الموصوف بالقوة وبأنه كان الرجل النافذ حامي الشعب وفقيد الأمة الجزائرية وأسدها. رجل خلق الجدل والفوضى وبثّ الخوف في من هم حوله، و حتى في من هم بعيدون عنه، سيطر طيلة شهور من بداية الحراك على المشهد صورة وصوتا، وكانت التحليلات والقراءات والمواقف تبنى حسب كل خطوة يخطوها الراحل على الأرض، حتى وهو يطير في السماء من ثكنة إلى ثكنة ومن مقر عسكري إلى آخر.
نبرة مفاجئة
فاجأ شنقريحة الجميع أياما بعد وفاة قايد صالح وفي نفس اليوم المحبب لهذا الأخير، أي الثلاثاء، في لقاء عسكري رفيع المستوى بث بعض تفاصيله التلفزيون الرسمي، بإلقاء خطبة. ولم يكن ما قاله فقط هو المهم بل التمكن العالي من إلقائه بلسان عربي فصيح، نادرا ما تعوّد عليه الجزائريون من لدن سياسي بل من عسكري من طراز رفيع. فاللغة التي درج على استعمالها مسؤولو الدولة في الجزائر هي الفرنسية وبأقل الأضرار العربية التي عادة ما تصبح موضوع تهكم وسخرية وتنكيت في الأوساط نظرا للأخطاء والسقطات الكثيرة والزلات الطريفة التي ترافق الخطب.
لم يعرف للمؤسسة العسكرية الجزائرية طوال عقود ناطق رسمي باسمها مثلها مثل باقي دول العالم. ولم تنطق هذه الأخيرة إلا في مناسبات قليلة أملتها الظروف والنوائب، دفعت بقادتها للخروج من سياسة الصمت والتخفّي، وكانت توصف بالصامت الأكبر والناطق السرّيّ بما يجول في أروقة الحكم. ونادرا ما كانت تلتقط تصريحات علنية لمنتسبيها، فحتى أثناء سنوات الإرهاب والدم لم تخرج المؤسسة عن هذا التقليد، وكان جلّ ما تقوم به إصدار بيانات عن عمليات عسكرية ضد معاقل الإرهاب أو القضاء على الإرهابيين، وما زالت حتى الآن تصدر مثل هذه البيانات عن عمليات أخرى كالتهريب أو القبض على بارونات مخدرات أو اكتشاف كازمات وأسلحة وذخائر وغيرها من العمليات التي تقوم بها عبر كافة أنحاء البلاد.
ورغم أن تلك المؤسسة تمتلك مديرية للاتصال ومجلة خاصة تصدر شهريا، إلا أنها لا تشفي الغليل ولا تروي ظمأ الفضول والمعرفة. ويتم عرض المجلة في بعض وسائل الإعلام لتقرأ خاصة افتتاحيتها المعبرة عن فلسفة الجيش أو الرأي فيما يحدث على الساحة السياسة. إلا أن ما يعاب على هذه المجلة حسب المتتبعين شكلها ولغتها التقليدية والأسلوب الذي تكتب به المقالات الذي لا يخرج عن البساطة وفي مرات كثيرة عن الاستسهال في طرح القضايا الكبرى. وقد برزت الافتتاحية خاصة في الفترة الأخيرة منذ بداية الحراك، وكانت بمثابة البوصلة التي تشرح وتؤوّل بوضوح ما خفي من خطب الراحل قايد صالح، ولكي تواكب المؤسسة الأحداث المتسارعة دخل في الخدمة تطبيق إلكتروني يتيح لمتصفحه الاطلاع الفوري على كل ما يتعلق بوزارة الدفاع الوطني من بيانات صحافية، إعلانات التجنيد والخدمة الوطنية، وكذا مواعيد ومعلومات عامة أخرى.
شنقريحة يتقدم
هكذا اعتاد الجزائريون على أن يكون عدد الخرجات الصوتية لقادة العسكر قليلا جدا. في الذاكرة هناك ظهور للفريق الراحل محمد العماري سنة 2003، وصف بالتاريخي وغير المسبوق حين ردّ على اتهامات طالت الجيش من لدن الكل خارجيا وداخليا. تكلّم العماري بالفرنسية أمام عدسات الكاميرات والصحافيين محاطا بالقيادات العليا للجيش عن الدور الكبير الذي لعبته المؤسسة في هزيمة الإرهاب ودحر فلوله، وكان ذلك الظهور مفاجأة على غير العادة. فأن يطل العسكر من هذه النافذة الكبيرة ومن المستوى العالي جدا والضيق حيث لا يعرف أحد ماذا يدور في عقولهم وفي محيطهم، وعادة تحتفظ مخيلة الناس البسطاء بالصور التي تبثها القنوات لهم.. بزة عسكرية بنية اللون ونياشين ونظارات سميكة وحماة أشداء يحرسونهم يقظين لكل نهمة أو حركة غير عادية.
كانت تلك الخرجة بمثابة ضربة معلّم فالأحداث جليلة وخطيرة، أوصلت الأمور إلى حد لا يطاق من المشاكل والصعوبات والمآزق والاتهامات تنذر بالانفجار والنار والغليان في أوساط السلطة وفي ثنايا المجتمع. تغذت تلك المخيلة عن العسكر بما أراده لها هؤلاء، وبقيت صور أخرى تتوارد بالقطرة وحسب الظرف. لقاءات صحافية تنشر في صحف وطنية وعالمية ذات طابع عسكري تنسب إلى جنرال “إكس”. كتب مضادة للمؤسسة تكتب من لدن ضباط فارين. ويكاد أبرز من جال وصال وكانت سحنته بارزة في وسائل الإعلام الجنرال الهارب اليوم من العدالة خالد نزار. بقي الوحيد الذي استهلك وقته وعقله في الحوارات واللقاءات والمناقشات، عارضا وجهة نظره في الأحداث والوقائع، مدافعا مرات عن الجيش ومنتقدا إياه مرات أخرى.
خطاب شنقريحة يبدو أكثر وضوحا وحزما، كفصل من فصول تنبيه أصحاب الشأن السياسي لأخطاء قد تكلّف الكثير، خطاب بمثابة رسالة تتضمن ضرورة "العودة إلى النظام"
سمح الحراك للمؤسسة العسكرية بالخروج إلى العلن ليس بالدبابات والأسلحة والقمع مثلما تمنّاه الكثيرون، بل عن طريق دعوات أطلقها قائدها الأعلى الراحل قايد صالح، وجاءت في شكل خطب تطفح بالحلول والنصائح والرغبات، وجّه وأصدر الأمر والنهي، فتح النار هنا وهناك، هدّأ نفوس البعض وأشعل في بعضها الغضب والحنق والتذمر، نال منه الحراك ما نال، وغدا، بعدما كان البطل الذي وقف معه ودعمه وحماه، في لمحة خاطفة الخائن والناكث بالوعد والواقف مع السلطة وغيرها من النعوت التي طافت في سماء الشارع تمخرها كل ثلاثاء وجمعة، وتطور الأمر وتطاول الحراك وتمرد، وتم نعت الجنرالات بالعديد من الأوصاف السلبية، وباتت المؤسسة العسكرية في نيران الأصدقاء والأعداء وكأنّ السبب في كلّ المحن كلها تأتي من لدن هؤلاء الصامتين دوما، وكانت القيادة العليا للعسكر تتلقّى صرخات الحراك وتنظر إليها بنوع من الحذر والريبة والشك، رغم التجريح والسب والشتم.. ولكنها ضبطت الأنفاس وصبرت.. فأيّ مواجهة قد تعصف بالبلاد وتدخلها في دوّامة الرعب والفوضى والخوف. تابع شنقريحة، بعد استلام القيادة، ما تم رسمه والتخطيط له وهندسته منذ بدء الحراك وتفاعل العسكر معه، فدعى إلى الاستمرارية، وصرّح أن الجيش سيرافق “مؤسسات الدولة وتمكينها من أداء مهامها في أحسن الظروف، والإصرار على البقاء في ظل الشرعية الدستورية والتصدي لكل من يحاول المساس بالوحدة الوطنية، وقد ساهم الجيش إلى جانب الأجهزة الأمنية، في إنجاح تنظيم انتخابات رئاسية حرة ونزيهة وشفافة وتأمين العملية الانتخابية وضمان جوّ من الهدوء والطمأنينة“. وأنه لن يتخلى “عن التزاماته الدستورية مهما كانت الظروف والأحوال، وسنظل بالمرصاد في مواجهة أعداء الوطن، وكل من يحاول المساس بسيادتنا الوطنية”.
قال هذا الكلام بهدوء وثقل، فالرجل كسر قاعدة النظرة المسبقة التي تُوجّه إلى القادة الكبار للعسكر، وما رشح عن سيرة الرجل في هذا المجال أنه قارئ عميق للآداب والمذكرات والسير والتاريخ، بل إنه طلب من مساعديه توفير كل ما كتب عن الحراك باللغتين العربية والفرنسية، وهو محب نهم لأشعار محمود درويش. ربما من هنا جاءت ثوريته ونضاله وكفاحه ضمن صفوف الجيش الوطني الشعبي المقاوم للاحتلال الفرنسي، وفي صفوف القوات البرية في حرب الاستنزاف المصرية، ثم في حرب أكتوبر عام 1973.
ومع ذلك بقي بعيدا عن الأضواء يكاد لا يظهر بقامته القصيرة مع قادة العسكر إلا في اجتماعات عامة يُسمح بتصوير لقطات منها أو في حفلات التخرج العسكرية السنوية، أو أثناء دورات التفتيش التي كان يقوم بها الراحل قايد صالح إلى القوات البرية التي كان يرأسها.
مهام معقدة
جاء الخطاب الأول لشنقريحة قائدا بالنيابة لأركان الجيش الشعبي الوطني وتلاه خطاب ثان أكثر وضوحا وحزما كفصل من فصول تنبيه أصحاب الشأن السياسي لأخطاء قد تكلّف الكثير، وكانت بمثابة رسالة تتضمن ضرورة “العودة إلى النظام”، خاصة وأن التعيينات التي قام بها الرئيس تبون على مستوى الرئاسة لم ترق للجميع من حيث التوقيت والسرعة في اختيار الأشخاص الذين أكل عليهم الدهر وشرب، وقالت بعض المصادر الخاصة إنه لم يستشر أحدا حتى العسكر عندما عين الوزير الأول عبدالعزيز جراد، وقد خلق هذا رد فعل قوي من طرفهم، وانعكس ذلك فيما قاله شنقريحة من أن “معايير تولي الوظائف والمناصب، أو أيّ مسؤولية مهما كان حجمها، هي معيار تقديس العمل باعتباره سر النجاح، فضلاً عن الكفاءة والمقدرة والجدية والنزاهة، والإخلاص للجيش وللوطن”. قد تكون الخلافات متجذّرة بقوة بحكم هشاشة النظام السياسي الجزائري الذي لم يخرج بعد من عباءة العسكر، ولا يمكن لأيّ لعبة أن تتم خارج الضوء الأخضر للعسكر ليس لأنه يحبّ السيطرة والقوة والهيمنة، بل لأن روح الوطن لا يمكنها أن تتقدس أو تتمّ المحافظة عليها إذا كان اللاعب يضمر التغير الخاطف بأوراق غير مكشوفة ويحب أن يفوز وحده. وهذا ما حاوله تبون في أولى خرجات تعييناته وهو ما تفطن له شنقريحة وبثه في خطابه.
يدرك شنقريحة حجم الأعباء التي أثقلت كاهل المؤسسة العسكرية التي بقيت دوما الرقيب والعين الساهرة على كل شيء. فهي قد خرجت من دوامة الإرهاب وما زالت تحاربه بالكثير من القوة والصرامة، كما أن المؤسسة أثخنت بالجراحات ودفعت الثمن غاليا وسقط الكثير من عناصرها في ميدان القتال غدرا وغيلة.
تشابكت في وقت ما المصالح الخاصة وتعارضت مع عقيدة الجيش. تكالبت القوى الغامضة عليها وأصبحت خاصة في السنوات الأخيرة رهينة التجاذبات والصراعات. تعاظم نفوذ بعض رجالاتها في ميادين بعيدة تماما عن المهام المنوطة بها. همشت كفاءات وعزلت، وأحيل خيرة أبنائها على التقاعد في عز العطاء، وهيمنت أقلية قوية وضيقة على مفاصلها وأصبحت هي من تقرر وتأمر فتُطاع، كان ذلك في عهد نزار وتوفيق والعماري وتواتي وغيرهم من صقور الجيش. حتى جاء الحراك وقلب الموازين، وتم فتح الجبهات كلها. وبرزت أسماء أخرى داخل المؤسسة، تتداول أسماءهم بفخر وعزة. أبناء الجزائر الأصيلة والحقيقية باتت صورهم تتقافز وتعاد المرة تلو المرة. كانوا يتحلقون حول الراحل قايد صالح، وعندما توفّي ظهروا في أول صور التشييع ملتحمين ومتكاتفين حول القائد الجديد شنقريحة وقد نقلت وسائل الإعلام الجزائرية تلك الصور كدليل على ذلك التلاحم القوي المتين بين أبناء المؤسسة العسكرية ليفوّتوا فرصة الطعن والتشكيك وردا على أقاويل الخلافات والانشقاقات التي تسربت فور وفاة قايد صالح.
سيلعب الجنرال ماجور شنقريحة دورا يعرفه جيدا، إنه دور الميدان والتطبيق والهجوم. طار إلى الجنوب وشهد مناورات عالية المستوى هناك ووقف على جهوزية الجيش في مواجهة الخطر المحدق والفوضى الآتية من الحدود. خطب مرة أخرى وجدد اللكنة والعزم والحزم على الأدوار التي سيقوم بها الجيش في المستقبل حتى يهدأ الوضع ويستقر. فهل سيتمكن من صد الرياح التي تهب من كل مكان؟ هذا ما سيظهره قادم الأيام.