هل دفع الجرندي ثمن تراجع الدبلوماسية التونسية

إنهاء مهام وزير الخارجية يحمل دائما دلالات أقوى من تغيير أي وزير آخر، وتذهب الاستنتاجات دائما إلى تقييم أدائه، وهذا ما حصل مع عثمان الجرندي الذي كان تأثيره محدودا في القضايا الإقليمية خاصة في الموضوع الليبي، فضلا عن وضع تونس في حالة توتر مع المغرب بسبب سوء تقدير في موضوع الصحراء.
كانت إقالة وزير الخارجية التونسي عثمان الجرندي مفاجئة خاصة أن الرجل ظل لحد الساعات الأخيرة متابعا لنشاطه، ولم يكن هناك ما يشير إلى وجود أزمة أو انتقادات لأدائه. وقبل الإعلان عن إنهاء مهامه كان قد اتصل بوزير الخارجية السوري فيصل المقداد للتعبير عن تعازي تونس لسوريا إثر الزلزال.
ولا يعتقد أن اتصاله بنظيره السوري كان هو سبب الإقالة، فالرئيس قيس سعيد لا مشكلة له مع سوريا، وسبق أن تعهد خلال حملته الانتخابية بإعادة العلاقات مع دمشق، كما التقى وزير الخارجية السوري في الجزائر على هامش احتفالها بالذكرى الستين للاستقلال في يوليو الماضي.
ونقلت وكالة الأنباء السورية عن الرئيس التونسي قوله إنّ “الإنجازات التي حققتها سوريا، وكذلك الخطوات التي حققها الشعب التونسي ضد قوى الظلام والتخلف، تتكامل مع بعضها لتحقيق الأهداف المشتركة للشعبين الشقيقين في سوريا وتونس”.
الجرندي انساق وراء الموقف الجزائري، ولم يلفت نظر الرئيس سعيد للمحاذير الحافة بملف الصحراء قبل استقباله غالي
والجرندي نفسه سبق أن التقى المقداد في أغسطس الماضي، ما يؤكد أنه يتحرك ضمن مربع مسموح به من الرئيس سعيد.
والانفتاح على دمشق مهم بالنسبة إلى سعيد، أولا لأنه يعبر عن مسار الخامس والعشرين من يوليو الذي قاده هو شخصيا كمسار معبر عن القطيعة مع المنظومة السابقة بزعامة حركة النهضة، التي كانت وراء قطع العلاقة مع سوريا.
كما أن جزءا من الطيف السياسي الداعم لسعيد يطالبه بإعادة قنوات التواصل مع الرئيس السوري بشار الأسد، ما يمكن تونس من فهم وتفكيك قضية التسفير والشبكات التي أشرفت عليها، وإن كان ثمة جهة سياسية تونسية أو أجنبية متورطة فيها.
ويؤكد هذا كله أن ربط الإقالة بموضوع الاتصال الهاتفي بالمقداد ربط ضعيف وغير مقنع مثلما حاول الكثير من النشطاء المعارضين أن يوحوا بذلك في تفسيرهم لسبب إنهاء مهام الجرندي وتعويضه بسفير تونس ببروكسل نبيل عمار.
ومن الواضح أن التغيير ناتج عن تراكمات في أداء وزارة الخارجية، وأن تنحية الجرندي وتعيين دبلوماسي ثان هدفه تحريك الدبلوماسية التونسية في منطقة حيوية وللإمساك بملفات مهمة مثل العلاقة مع ليبيا التي شهدت انعطافة جديدة، وكذلك ملف العلاقة مع أوروبا وموضوع الهجرة الذي يبدو أن أداء الجرندي فيه لم يكن بحجم انتظارات سعيد.
وخلال ثلاث سنوات من تعيينه لم تظهر بصمة الجرندي بشكل واضح في أي من الملفات التي تعني تونس.
وفي ليبيا، ظل التحرك التونسي يتخفى وراء دور دول الجوار، وهو موقف ضبابي يتم الحديث عنه حين يكون الهدف من التحرك خدمة مصلحة طرف آخر عجز عن تنفيذ أجندته بنفسه أو في الوصول إلى طرف من أطراف الأزمة الليبية بسبب موقفه المنحاز لفائدة جهة أخرى.
وهذا يبدو بشكل واضح مع مصر، التي تلجأ إلى التحرك الجماعي لدول الجوار حين تريد أن توصل رسائلها إلى الأطراف المسيطرة على طرابلس وتجد حرجا في الاتصال بها بشكل مباشر بسبب انحيازها لبرلمان الشرق وللمشير خليفة حفتر.
كما ارتهن الموقف التونسي للموقف الجزائري الذي يريد دعم المسيطرين على طرابلس ضمن أجندة كلاسيكية تقوم على التنافس مع مصر، وفي نفس الوقت تقرأ حساب الأجندة التركية والقطرية.
وخلال الأشهر الأخيرة تغير الموقف التونسي من مجاملة مصر والجزائر في اتجاه إدارة موضوع الملف الليبي وفق أجندة تونسية خالصة، وبتحرك مباشر من الرئيس سعيد ولقائه في مناسبتين مع رئيس حكومة الوحدة الوطنية الليبية عبدالحميد الدبيبة.
ويبدو أن الأجندة الجديدة التي تقوم على تحرك للحساب الخاص تحتاج إلى وزير جديد للخارجية، وأن الجرندي قد يكون دفع ثمن الدبلوماسية الهلامية، التي توحي بأنها في صف الجميع من دون أن يكون لها تأثير أو عائدات لصالح تونس.
وهناك ملف آخر فشلت فيه دبلوماسية الأخذ بالخاطر لاسترضاء هذا الطرف أو ذاك، وهو ملف الصحراء. وبدا أن الجرندي انساق وراء الموقف الجزائري، ولم يلفت نظر الرئيس سعيد للمحاذير الحافة بهذا الملف الحساس قبل استقباله زعيم جبهة بوليساريو التي كانت تونس طيلة تاريخها تتعامل معها بحذر شديد بسبب تعقيداتها، وتأثير أي تغيير في الموقف على مصالحها.
ويمكن القول إن صورة الجرندي قد اهتزت لدى الرئيس سعيد بسبب هذا الملف، وأن فكرة تغييره قد بدأت بعد ردود الفعل الغاضبة للمغرب على مشاركة إبراهيم غالي في القمة اليابانية - الأفريقية التي احتضنتها تونس في أغسطس الماضي.
وكان الارتباك واضحا على الدبلوماسية التونسية، وهو ما عكسته محاولات امتصاص الغضب المغربي والقول إن زيارة غالي بلا أبعاد سياسية، وأن الاتحاد الأفريقي هو من استدعاه للقمة، وليس تونس.
وأظهرت الردود أن الموقف لم يكن مدروسا، وليس نابعا من تغيير في الموقف التونسي، فقط هو امتداد لسياسة الأخذ بالخاطر التي سيطرت على الدبلوماسية التونسية في عهد الجرندي.
ومن شأن استلام وزير جديد للخارجية أن يساعد على كسر حالة البرود بين المغرب وتونس بإطلاق تصريحات جديدة تؤكد الثبات على الموقف التقليدي للدبلوماسية التونسية القائم على الحذر في التعاطي مع الملفات الحساسة إقليميا ودوليا.
ومن المهم الإشارة إلى أن الوزير الجديد للخارجية، هو سفير تونس لدى الاتحاد الأوروبي، وتعيينه يهدف إلى إعطاء دفع جديد للدبلوماسية التونسية التي لم تحقق الاختراق الذي كان يبحث عنه سعيد بعد إجراءات الخامس والعشرين من يوليو التي قادت إلى تجميد البرلمان ثم حله وما تلا ذلك من خطوات انتهت بتجميع السلطات في يد الرئيس سعيد.
وما جرى منذ الخامس والعشرين من يوليو 2021 لم تنجح الدبلوماسية التونسية في الترويج له والحصول على تفهم أوروبي لقرارات سعيد، وعلى العكس فإن مواقف المعارضة تجد لها صدى لدى الاتحاد الأوروبي ما جعله مترددا في خطوات مساعدة تونس خاصة على المستوى الاقتصادي والمالي في الوقت الذي تحتاج فيه للدعم العاجل من شريكها الإستراتيجي.
وكان الوزير الجديد من المتحمسين لمسار الخامس والعشرين من يوليو وعبر في تصريحاته عن دعمه لسعيد من ذلك حواره مع يورونيوز الذي وصف فيه قرار حل البرلمان بأنه “خطوة حاسمة في تاريخنا، لكنها أيضا مهمة جدا للمنطقة وخارجها”.
وطالب الأوروبيين في هذا الحوار الذي صدر أسبوعا بعد إجراءات الخامس والعشرين من يوليو بالوقوف إلى جانب تونس، قائلا “يجب أن نساعد تونس التي تطرق أبواب الديمقراطيات الناضجة، ديمقراطيات من الدرجة الأولى، ديمقراطيات حقيقية. وليست ديمقراطيات الواجهة”.
الأجندة الجديدة التي تقوم على تحرك للحساب الخاص تحتاج إلى وزير جديد للخارجية، وأن الجرندي قد يكون دفع ثمن الدبلوماسية الهلامية
ويعرف سعيد أن نجاح مساره مرتبط بالدعم الأوروبي بصفة خاصة، في ظل مسار الشراكة المرسوم بين الطرفين منذ ما قبل 2010، والذي استفادت منه تونس على مستويات متعددة. ولأجل ذلك، فهو يبحث عن وزير لديه علاقات يمكن أن تقوده إلى التأثير وكسب صداقات لتونس في مؤسسات الاتحاد الأوروبي، والدوائر المؤثرة المحيطة به، وهو ما لم يحققه الجرندي.
والوزير الجديد مرشح لهذا خاصة أنه سبق أن عمل سفيرا في بريطانيا خلال الفترة الممتدة بين 2012 و2017، ونجح فيها في أزمة السياحة بين البلدين التي نتجت عن هجوم إرهابي في المنطقة السياحية بالساحل التونسي أودى بحياة 30 سائحا بريطانيا في 2015.
وبعد ذلك، تم تعيين نبيل عضوا في المديرية العامة للاتحاد الأوروبي التابعة لوزارة الخارجية التونسية، حيث ترأس لجنة الشؤون السياسية والاقتصادية والتعاونية مع الاتحاد الأوروبي.
ولعل أولى الخطوات التي على الوزير قطعها هي ملء الفراغات الدبلوماسية على مستوى السفراء والقناصل في عدة بلدان والرهان على الكفاءات الدبلوماسية، والاعتماد على أبناء السلك الدبلوماسي، وليس على المجاملات بمن في ذلك المحسوبون على الرئيس سعيد.