هل تفكك أميركا النظام الأممي لصالح إسرائيل

المدقق في القرارات الأميركية بالانسحاب من المؤسسات الأممية المستقرة منذ ظهور عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية، سيجد أن هذه المؤسسات تعارضت مع خطة ترامب لتمرير صفقة القرن.
الاثنين 2018/09/17
دعم أميركي لا متناهي

اتخذت أميركا عدة خطوات متتابعة وصادمة خلال عام واحد فقط، تفتقد لأدنى حدود اللياقة الدبلوماسية تجاه مجموعة المؤسسات الدولية الأممية التي منها؛ اليونسكو والأونروا ومجلس حقوق الإنسان والمحكمة الجنائية الدولية، ومن المفترض أن هذه المؤسسات من الأعمدة الرئيسية للنظام القانوني الأممي الذي استقر بعد الحرب العالمية الثانية، متمثلا في منظمة الأمم المتحدة والمؤسسات التي تتبعها وتتخذ الطابع الدولي، وتبرر أميركا كل هذا صراحة بالعمل لصالح إسرائيل وحمايتها متى وقعت تحت طائلة القانون والأعراف المعنية، والمبرر الأكثر تحديدا في الواقع هو تعارض هذه المؤسسات الأممية مع مشروع تمرير صفقة القرن الأميركية المزعومة، ومتطلبات فرض الأمر الواقع على العرب والفلسطينيين.

لنبدأ من آخر هذه الخطوات، بتصريح أميركي هذا الأسبوع يخص المحكمة الجنائية الدولية يكاد لا يكون قد مر بينه وبين سلفه الذي يخص الأونروا سوى أيام معدودة، فقد أعلنت واشنطن عزمها الوقوف ضد إجراءات المحكمة الجنائية الدولية التي مقرها لاهاي، حال اتخاذها إجراءات بفتح تحقيقات في جرائم حرب قد تمس أميركا أو إسرائيل أو أي من حلفائها، وذلك على لسان جون بولتون مستشار الأمن القومي في البيت الأبيض.

بل تمادى مستشار الأمن القومي الأميركي ولم يقف عند حد الاعتراض على المؤسسة الدولية التي صادقت عليها 123 دولة حتى الآن، وإنما قام بتهديد قضاتها باستهدافهم من خلال النظام القضائي الأميركي وتوقيع عقوبات اقتصادية تستهدف أملاكهم من خلال النظام المالي الأميركي أيضا، وكأن أميركا تؤسس لتفكيك النظام العالمي المستقر منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية، وتهدف إلى تفكيك الأعراف والمؤسسات القائمة كلما مسها الأمر أو مس إسرائيل، هذا وقد أُنشئت المحكمة الجنائية الدولية استنادا لمعاهدة روما التي وقعتها الدول الأوروبية في أجواء ما بعد الحرب العالمية الثانية عام 1957، ونصت من ضمن ما نصت عليه على إنشاء محكمة عدل أوروبية على صلة بمنظمة الأمم المتحدة، وقد دخلت المحكمة حيز الواقع عام 2002.

وقبل أيام كانت الولايات المتحدة قد أعلنت وقف تمويل الأونروا، وخطورة الأمر تكمن في أن بروتوكول عمل الوكالة التي أنشأتها الأمم المتحدة عام 1949 إثر حالة التهجير بعد حرب عام 1948 لرعاية اللاجئين في الأردن ولبنان وسوريا والضفة الغربية وقطاع غزة إلى أن يتم إيجاد حل لمعاناتهم، ينص على أنها تمول بالكامل تقريبا من تبرعات الدول الأعضاء في المنظمة، ولا تمول مباشرة من ميزانية ثابتة تستقطع من المخصصات العامة للمنظمة الأممية، وبما أن أميركا هي أكبر المتبرعين لميزانية الأونروا، فإن انسحابها من تمويل عملها يعد ضربة في مقتل لنشاط واحدة من أقدم المؤسسات العاملة ضمن المظلة الأممية.

ومنذ ثلاثة أشهر، وفي يونيو الماضي تحديدا، كانت الولايات المتحدة قد أعلنت انسحابها من مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة بسبب ما قالت في حينه إنه انحياز ضد إسرائيل، هذا وقد أنشأت الجمعية العامة للأمم المتحدة المجلس عام 2006، ليشمل في عضويته 47 دولة من الدول الأعضاء في الجمعية العامة، تُنتخب وفق التوزيع الجغرافي المحدد في بروتوكول المجلس.

 ويهتم المجلس بتعزيز حقوق الإنسان وحمايتها من التجاوزات في كافة أرجاء العالم وتحت المظلة الأممية، لكن في سياق الاعتداءات الإسرائيلية هذا الصيف كان المجلس قد عقد جلسة خاصة لمناقشة التدهور في وضع حقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية بعدما قتلت القوات الإسرائيلية 60 فلسطينيا، خلال احتجاجات عند الحدود مع غزة في شهر مايو، بما جعل الأمر يصل في نهاية المطاف إلى أن تعلن الولايات المتحدة الانسحاب في يونيو، مفككة قطعة أخرى من النظام الأممي لصالح إسرائيل.

وفي أكتوبر 2017 كانت الولايات المتحدة قد أعلنت انسحابها من اليونسكو، والتي تأسّست عام 1945 بهدف المساهمة بإحلال السلام والأمن عن طريق رفع مستوى التعاون بين دول العالم في مجالات التربية والتعليم والثقافة لإحلال الاحترام العالمي للعدالة ولسيادة القانون ولحقوق الإنسان ومبادئ الحرية الأساسية.

 وقالت الخارجية الأميركية في بيان لها في حينه إن القرار يعكس قلق الولايات المتحدة تجاه ضرورة إجراء إصلاحات جذرية في المنظمة، وتجاه استمرار الانحياز ضد إسرائيل في اليونسكو. ويرجع السبب المباشر لقرار أميركا بالانسحاب من منظمة اليونسكو إلى القرار الذي اتخذته المنظمة عام 2017 باعتبار القدس مدينة فلسطينية محتلة، ووضعها الخليل والحرم الإبراهيمي على لائحة التراث العالمي.

المدقق في القرارات الأميركية الأربعة بالانسحاب من المؤسسات الأممية المستقرة منذ ظهور عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية، سيجد أن هذه المؤسسات وبروتوكولاتها المنظمة تعارضت مع خطة الرئيس دونالد ترامب لتمرير صفقة القرن، وما تتطلبه لفرض الأمر الواقع بالقوة والإرهاب على العرب والفلسطينيين، والأمر يدفع إلى النقاش في مدى قدرة النظام الأممي على الحفاظ على مقدار من العدالة بين أعضائه، فمنذ سقوط الاتحاد السوفييتي وانفراد أميركا بالسيطرة على العالم، لم يصل العنفوان ووهم الهيمنة والاستخفاف بالأعراف الدولية إلى هذا الحد.

والإشكالية أن القوى الدولية لم تتطور بعد لمستوى طرح نظام أممي بديل؛ يكفل الحد الأدنى من الاحترام المتبادل لأعضائه تجاه مبادئه، الصين لم تصل بعد إلى مرحلة نضج المشروع حضاريا لتحدد شكل علاقاتها مع دول العالم، على أساس قيمي حضاري وليس على أساس اقتصادي بحت.

وروسيا لم تطور مشروعا يتجاوز سقوط الاتحاد السوفييتي سوى محاولات التماسك واستعادة بعض النفوذ، وأوروبا تتحرك على استحياء في مواجهة مشروع الهيمنة الأميركية لكنها لم تطور فكرة مركزية لمواجهته بشكل جذري، والدول الصاعدة كالهند والبرازيل وجنوب أفريقيا لم تصل إلى مرحلة تجاوز سياقها الخاص وأزماتها التاريخية، لتتحرك بقوة في محاولة البحث عن نظام أممي أكثر عدالة.

ويبقى للدول العربية طموحها الخاص، فرغم إرهاصات المشروع الحضاري الجديد المرتبط بطموح التغيير منذ مطلع العقد الثاني في هذا القرن الذي لم تتضح سماته بعد، ليساهم في تشكل حلم أممي جديد، إلا أنه يجب على الدول العربية توظيف قواها الدبلوماسية لدعم المؤسسات الأممية لصالح القضية الفلسطينية، فعلى الدول العربية مثلا أن تغطي تمويل الأونروا وتعوض غياب المساهمة الأميركية، وعليها المساهمة في نشاطات اليونسكو وحفظ وتسجيل التراث الثقافي الفلسطيني. وعلى المستوى الحقوقي يجب أن تستمر الدول العربية في إعداد التقارير المبينة لحجم التجاوزات الصهيونية و فضح الدعم الأميركي.

8