هل تستطيع السينما كتابة التاريخ البشري.. الإجابة نعم ولا

السينمائي العراقي نزار شهيد الفدعم يبرز مساحات التجريب في الفن السينمائي.
الأحد 2022/05/08
السينما تشبه اللوحات وتختلف عنها

ليست السينما فنا يقدم التسلية فحسب، بل هي فن يتيح مساحة للحوار والفكر والتجريب الإبداعي. وكثيرا ما قدمت السينما أفكارا جريئة محفوفة بالمخاطر، كانت فيها سبّاقة نحو إحداث ثورة في الأفكار والتعامل العصري معها. عن السينما بين التجريب والتأويل والتأريخ صدر كتاب جديد بين عاصمتين عربيتين هما بغداد ودمشق للسينمائي نزار شهيد الفدعم، مقدما العديد من الآراء في هذا التوجه.

يتناول السينمائي العراقي نزار شهيد الفدعم في كتابه الجديد “الفيلم السينمائي بين التجريب والتأويل” ملامح من قدرة السينما على التأريخ والتجريب، مؤكدا أن وضع تعريف دقيق لمصطلح السينما التجريبية يعد أمرا ملتبسا صعب التحديد.

فالتجريب في رأي المؤلف السينمائي ارتبط بها مجدولا بعامل تقني بحت، وجد بنشوء فن السينما والعديد من المهن والاختصاصات المرافقة له، مثل عمليات الكتابة والتصوير والتمثيل والمونتاج وتركيب الصوت والتحميض ثم الطباعة والعرض، وكانت الفترة المزدهرة له في بدايات القرن الماضي، وهي الفترة التي شهدت تثبيت قواعد العمل السينمائي من قبل بعض المنظرين الكبار الذين تصارعت رؤاهم في تكوين القواعد الأساسية لفن السينما ومن ثم علومها.

يبيّن المؤلف كيف راج مفهوم السينما التجريبية مجددا ودخل متاهات الالتباس مرة أخرى من خلال التطور التقني الكبير الذي وجد، وصار في خدمة فن السينما، مما شجع طاقات سينمائية شابة على ولوج أبواب سينمائية جديدة لا تحقق شرطية الفيلم السينمائي الكلاسيكية القائمة على قواعد منضبطة وصارمة، لكنها تحقق لهؤلاء رؤاهم الفنية المبتكرة. والبعض يطلق مفهوم السينما التجريبية على طبيعة المعالجة التي تم طرح الأفكار من خلالها، عندما يكسر الفيلم القواعد الأساسية في أسلوب السرد أو التكوين السينمائي، خاصة من السينمائيين الطليعيين المتمكنين من صنعة السينما.

نزار شهيد الفدعم: دراما السينما اليوم هي مزيج من الفن والشعر والعلم والخيال

ويقدم مؤلف الكتاب، الصادر بالتزامن عن دار العراب بدمشق ودار الصحيفة العربية في بغداد، على أن التجريب هو حالة طبيعية في حياة المبدع السينمائي، وهي حالة متجددة. فهو يرى أن السينما “شهدت طفرة تقنية كبيرة وأصبحت رقمية، منذ لحظة الشروع بالتصوير وحتى عرض الفيلم، وهذا منحها فرصة أن تحاول وتجرب في الأفكار والتقنيات والمواضيع، وإنتاج السينما لن يرسو على مرسى وسوف يظل يتغير ويتطور ما دام هناك مبدع يرفد إنتاج الأفلام بأفكاره”.

وتناول الكتاب في عرضه مواضيع أدرجها في أقسام متتالية، الأول منها تحدث عن السينما والتشكيل وعرض لتجارب فان كوخ وثلاثية الحياة والموت والخلود عنده، ثم كتب عن رودان في بوابة الجحيم. وفي القسم الثاني قدم مفهوم سينما الحرب من خلال استعراض العديد من الأفلام والتجارب السينمائية (فيلم الحرب مدخل لرؤية تحليلية والحرب الفيتنامية زلزال سينمائي يهز العالم بأحداثه والتاريخ يجذب منتجي السينما والفيلم السينمائي “دنكيرك”).

 ثم انتقل المؤلف إلى مواضيع جديدة منطلقا من التساؤل هل يحق للمخرج ما لا يحق للمؤرخ؟ ثم قدم لفيلم كود كيل وصراع ما بعد الصدمة ثم فيلم نفذان النفط في بلد النفط وفيلم النمر والثلج وعرج على فيلم أمينة للمخرج أيمن زيدان شهادة للمرأة المقاومة، ليختم الكاتب الحديث عن الإرهاب في السينما من خلال فيلم زهرة حلب وفانية وتتبدد.

ويتابع المؤلف في القسم الثالث في موضوع الشخصية السينمائية فيقدم تبيانا لما يحدد بين سلطة الممثل وسلطة المخرج. ثم يتحدث عن الشخصية السينمائية ويعرض لثلاثة أفلام هي حب والرجل الأول والفيلم العربي نورة. فيما يذهب في رابع أقسام الكتاب نحو تحديد الصلة بين التأويل والتجريب مقدما أفكارا سياسية في الغلاسنونست والسينما السوفيتية ثم في مادة بعنوان العودة إلى الماضي برؤيا معاصرة ليختتم كتابه بعنوان الفيلم السينمائي نحو التجريب نحو التأصيل.

يتصدى الكتاب لموضوع التشكيل بفهم عميق، حيث قدم رؤيته في اعتباره فن السينما بصريا سمعيا معا. وهو الفن الذي تلعب الصورة فيه دورا هاما معتمدة على تقنيات خاصة بها مثل: التكوين واللون والضوء والظلال، وما يتعلق بها من مكملات مثل التباين والتوافق والنسب والتكوينات.

وفي هذا المقام يتابع من يعتبر أن السينما هي أم الفنون لأنها تجمع الفنون الستة السابقة لها. ويقدم رأي من يعارض هذه الفكرة منهم المخرج السوفيتي الكبير أندريه تاركوفسكي، الذي كان يرى أن السينما فن قائم بذاته، وهي في طور البحث عن لغتها، والزمن عنده هو الأساس في الفيلم مثل الصوت في الموسيقى والشخصية في الدراما واللون في الرسم.

ويساير الفدعم تاركوفسكي في ذلك كما يؤكد أن المخرج الإيطالي الشهير مايكل أنجلو أنطونيوني الذي كان يعتد باللون في السينما كان يقول “أستطيع بواسطة اللون أن أطلع المتفرج على ما يجيش في صدر الممثل من دون حوار أو كلمات”.

وفي متابعة لتحديد معرفة المناطق المشتركة بين اللقطة السينمائية واللوحة التشكيلية يضيف “هي في المنظور والإضاءة والعمق واللون والمسافة بينها وبين الناظر إليها، ولكنهما تختلفان في الزمن والثبات، فاللوحة التشكيلية ثابتة أشبه بواجهة رخامية تعرض حدثا واحدا يجري في زمن محدد، غالبا ما يكون سرديا، بينما زمن اللقطة السينمائية ممتد، يعرض متوالية أحداث تسرد وتتحرك في الزمن وتسفر عن تحولات”.

◙ الأفلام تقدم رؤية منتجيها للتاريخ
◙ الأفلام تقدم رؤية منتجيها للتاريخ

يطرح الفدعم في كتابه سؤالا إشكاليا مضمونه: هل تستطيع السينما كفن أن تكتب التاريخ البشري بما فيه من حروب وثورات شعبية وحركات تحرر؟ ويجيب على هذا السؤال الكبير بنعم ولا، لأن السينما كما يراها منزلة بين المنزلتين وليست ناتجا عن تصور بل وعي ومراقبة من قبل منتجي السينما.

ويرى في متابعة شرح هذه الفكرة أن قوى الإنتاج السينمائي لا تخرج عن أحد شكلين، الأول هو التصور الرأسمالي الذي تهيمن فيه شركات مرتبطة مع السياسات العليا للدول، وتمثل هذا الشكل هوليوود وغيرها. بينما يكمن الشكل الثاني في مؤسسات حكومية رسمية، تمثلها تجارب الدول الاشتراكية في العالم أو التي يقودها حزب أو شخص.

ويشدد على أنه بمقدار ما يكون الفيلم خاضعا لضغوط الإملاءات من أجل تسييسه سيكون متفاعلا مع موضوعة رواية التأريخ.

اللوحة التشكيلية ثابتة أشبه بواجهة رخامية تعرض حدثا واحدا في زمن محدد بينما زمن اللقطة السينمائية ممتد

وفي هذا السياق يورد الكتاب مقولة للسينمائي الإيطالي الشهير فرانسيسكو روزي “السينما هي تعبير عن استمرار الصراع بوسائل أخرى”. ويتابع الكاتب “من هذا المنطلق أرادت هوليوود أن تخوض الصراع من خلال استعراض مظاهر القوة وإعادة كتابة التاريخ بما يضمن للولايات المتحدة الدور الرئيسي في تقويض الحكم النازي… التي كان بعضها مجافيا للحقيقة”.

وحسب ما يرى المؤلف، فإن هذا الأسلوب في تعامل السينما الأميركية مع التاريخ دفع بالكثير من السينمائيين إلى الصمت أو الهجرة من الولايات المتحدة، لكن ظهور الحقيقة بشكل قوي وضغوط الرأي العام وانفضاح سياسات الدول الكبرى برغبتها في الهيمنة على مقدرات الأمم الضعيفة جعلت بعض المخرجين يقدمون أفلاما تفضح زيف هذه السياسات، منها الفيلم الشهير القيامة الآن لفرانسيس فورد كوبولا المأخوذ عن قصة جوزيف كونراد قلب الظلام.

 يقدم الكتاب موضوعا إشكاليا آخر، هو الفرق بين الشخصية الإنسانية والسينمائية فيبين أن “الشخصية السينمائية تحاول أن تجسد لنا أحداثا واقعية، زمانية ومكانية، وتحاول أن تتقمص الشخصية المناط بها أن تؤديها في أكمل صورة. وهنا يحضر الممثل جاك نيكلسون عندما كلف بدور في فيلم التحليق فوق عش الوقواق فقد ذهب إلى مستشفى الأمراض العقلية وعاش فيه فترة طويلة قبل أن يبدأ التصوير، وخلال هذه الفترة تمكن من مراقبة حركات وتصرفات وردود أفعال المرضى وطريقة كلامهم، لذلك امتزج أداؤه بقدر من الواقعية والتفرد”.

◙ كل المواضيع يمكنها التحول إلى سينما
◙ كل المواضيع يمكنها التحول إلى سينما

ويختم المؤلف كتابه بإطلاق صرخة تخص الحياة السينمائية في العراق يقول “إن دراما السينما اليوم هي مزيج من الفن والشعر والعلم والخيال وعلى السينمائي شحذ همته بهذا الخليط ليقدم لنا فيلما قادرا على أن يقف في شباك التذاكر ويحقق نتائج جيدة في المهرجانات السينمائية، وإلا فإن أفلامنا سوف تظل قصصا معادة ومكررة. وعلى الإنتاج أن يفتح باب الاجتهاد أمام كل الاتجاهات السينمائية المعاصرة”.

ويذكر أن نزار شهيد الفدعم مخرج سينمائي، درس السينما في جمهورية مصر العربية في المعهد العالي للسينما وتخرج فيه عام 1980. قدم أول أفلامه الطويلة عام 1985 الذي حمل عنوان العملية 911. ثم قدم مجموعة من الأفلام الطويلة والقصيرة في السينما الروائية والوثائقية، منها: الباب وأغنية الطين والجزاء ونوري الراوي الشاهد الأخير وقدم فيلمه الروائي الطويل الثاني قطار 2001 عام 1994. كما عمل في الدراما التلفزيونية وأنجز عددا من المسلسلات: أمال والآلام والشطرنج ونفوس مهشمة وأزاهير.

ونال عددا من الجوائز والتكريمات منها جائزة أفضل عمل فني درامي من مهرجان الغدير الدولي للإعلام عام 2011 عن فيلم (حنين) وجائزة الدولة في الإخراج التلفزيوني من وزارة الثقافة العراقية عام 1998 وجائزة أفضل فيلم وثائقي من المهرجان الأول للفيلم الوثائقي العراقي عن فيلم  (أغنية الطين) عام 1998 نال تكريما رئاسيا عن الفيلم الروائي السينمائي الطويل (العملية 911) عام 1987. وعمل مخرجا في التلفزيون العراقي وفي سلطنة عمان كما درس في معهد المسرح والموسيقى والسينما في ليبيا. وأسس مهرجان العراق السينمائي الذي انعقدت منه دورة واحدة وهو الآن رئيس مهرجان سومر السينمائي. ويكتب النقد في العديد من المجلات والمواقع المختصة.

◙ الشخصية السينمائية لها سلطة
◙ الشخصية السينمائية لها سلطة

14