هل تخترق الصحوة الثقافية في الأقاليم المصرية معاقل المتطرفين

نشطت وزارة الثقافة المصرية أخيرا على مستويات فنية مختلفة من خلال تنظيم عدد من المهرجانات الفنية والموسيقية في أقاليم ومحافظات بعيدة عن القاهرة، مع العودة لبعض الأنشطة والمسابقات الفنية التي تراجعت في السنوات الماضية، لنفض الغبار الذي غطى الكثير من قصور الثقافة التابعة لها بعد أن تراجع دورها بشكل ملحوظ. فهل نجحت في ذلك؟
القاهرة - تركزت تحركات وزارة الثقافة المصرية أخيرا على بؤر جغرافية خضعت لوقت طويل لأفكار تنظيمات متطرفة استغلت تراجع الدور الثقافي الرسمي في مناطق بالصعيد (جنوب مصر) وصارت الأرض رخوة ثقافيا واجتماعيا بما شكل تهديدا أمنيا، حيث أصبحت بيئة خصبة لاستقطاب وإيواء عناصر إرهابية فيها.
شارك الآلاف من مواطني محافظة سوهاج (جنوب) في مهرجان “أبيدوس” الأول للموسيقى الذي اختتم أعماله السبت الماضي ونظمته وزارة الثقافة بالتعاون مع جهات محلية ووزارة السياحة داخل معبد سيتي الأول بمنطقة أبيدوس، وهو أحد أقدم المعابد المصرية ويقع داخل مدينة كانت عاصمة مصر الأولى في نهاية عصر ما قبل الأسر، بحضور المطربين الكبار: مدحت صالح وهشام عباس وعلي الحجار.
اهتمام بالقوى الناعمة

يوسف القعيد: أوضاع الثقافة في الأقاليم المصرية آخذة في التغير
أكدت وزيرة الثقافة إيناس عبدالدايم أن ميلاد مهرجان أبيدوس للموسيقى والغناء، والذي يعد الأول من نوعه بمحافظة سوهاج، يعكس اهتمام الدولة بالقوى الناعمة كإحدى مفردات ومسارات التنمية وبناء الإنسان، وأن فعالياته تعزز جهود تحديث خطط تحقيق العدالة الثقافية والارتقاء بالوجدان وانتشار الفنون الجادة في أنحاء مصر.
وانتقلت مهرجانات الموسيقى التي نظمتها وزارة الثقافة إلى محافظتي أسوان وقنا (جنوب) عبر مهرجاني “أسوان للموسيقى الشعبية” و”دندرة”، والأخير كان شاهدا على مشاركة شعبية واسعة ورددوا أغاني هاني شاكر وريهام عبدالحكيم وعددا من فناني دار الأوبرا المصرية.
واللافت في صحوة وزارة الثقافة أنها أولت اهتماما بالأنشطة المسرحية والسينمائية التي غابت سنوات طويلة وفعلت مبادرة “المسارح المتنقلة” وتوزيعها على أقاليم، ودعم عودة عمل دور السينما المعطلة في بعض المحافظات.
ودعمت الوزارة إقامة أول معسكر سينمائي في محمية وادي الريان بالفيوم جنوب غرب القاهرة، بحضور الطلاب المتفوقين في الدراسات السينمائية، والاهتمام بعرض عدد من المسرحيات الفنية التي قدمها عدد من المواهب المكتشفة في محافظات مختلفة، كما هو الحال في محافظة الشرقية، في شمال القاهرة.
وحظيت التحركات الرسمية بترحيب دوائر ثقافية عديدة طالبت بضرورة أن تكون هناك خطة طويلة المدى تضعها وزارة الثقافة لاستعادة حضورها في الأقاليم مرة أخرى، لأن التعويل على فعاليات خاطفة وغير منتظمة لن يحقق مردودات إيجابية، فالمستهدف وجود أذرع ثقافية تسهم في مخاطبة عقول المواطنين وتضمن تفاعلا مباشرا بينهم وبين الأفكار المستنيرة التي تقدمها جهات حكومية ومثقفين.
مخاطبة البسطاء
يذكر الكاتب والروائي يوسف القعيد أن العامل الإيجابي في أدوار وزارة الثقافة أنها تحركت أخيرا، والمهم في الأمر أن أوضاع الثقافة في الأقاليم آخذة في التغير، ويعد ذلك من العوامل المهمة للغاية، لأن الأنشطة تتركز بشكل أكبر على محافظات الصعيد التي ظلت محرومة فترة طويلة من العمل الثقافي الجاد الذي يخاطب البسطاء.
ويضيف في تصريح لـ”العرب” أن وزارة الثقافة استطاعت العودة بأنشطة يتفاعل معها الجمهور بشكل كبير، مثلما الحال بالنسبة إلى حفلات الغناء والموسيقى، واستعانت بأسماء تملك شعبية كبيرة وحضورا واسعا في المجتمع المحلي لا يزال أفراده يرتبطون بالطرب الأصيل، وتوظف ذلك لأن يكون مدخلا مناسبا لمحارب التطرف والإرهاب، والتخلص من قضية الثأر كمرض مجتمعي قديم بحاجة للمزيد من الجهود للتغلب عليه.
ويوضح القعيد أن وجود أعمال مسرحية وغنائية عملية يجب تشجيعها بصرف النظر عن استمرارها من عدمه، لأن الفعاليات الأخيرة استطاعت أن تسلط الضوء على البنية الأساسية للهيئات الثقافية في مناطق لم تكن حاضرة على خارطة الحكومة، وتعد محاولة لاستعادة الهوية وتعريف المواطنين بمنجزات الحضارة في تلك المناطق.

إيهاب الحضري: لا بد من أنشطة حقيقية متواصلة تجذب الجمهور
وكشف الحضور الشعبي الواسع في الفعاليات الموسيقية والمسرحية عن وجود شغف لدى المواطنين في أقاليم مصر البعيدة عن القاهرة للفعاليات الثقافية، وثمة حالة من الفراغ بحاجة لشغلها بأدوات ثقافية متنوعة، وهناك حاجة لاستخدام الفن لتأكيد العودة للارتباط المباشر بالتراث المصري وتطوير دوره الرمزي بما يتناسب مع الحاضر.
وقالت وزيرة الثقافة إيناس عبدالدايم إن نقل الأنشطة الفنية إلى المواقع الأثرية والسياحية يعمل على مزج الإبداع المعاصر بعبقرية التاريخ ويؤكد استمرار التميز عبر العصور ويبرز الطابع الحضاري للمجتمع.
ومن المنتظر أن تشهد الفترة المقبلة المزيد من التنسيق بين وزارتي السياحة والثقافة لإقامة فعاليات في مختلف المواقع التاريخية والأثرية تدعم معركة الثقافة ضد الابتذال والتعصب، باعتبار أن الفكر والفن من العناصر المؤثرة في تنمية الوعي بمصر.
وتبدو المشكلة الأكبر التي تصطدم بالجهود الحكومية نحو تحقيق أهدافها أن تراجع دور المؤسسات التعليمية التي تشكل داعما رئيسيا لتثقيف المواطنين في الأقاليم لا يخدم الاستفادة من الفعاليات الثقافية بالشكل الأمثل، فغياب الثقافة والفنون عن الهيئات التعليمية يؤدي إلى صعوبة التأثير على العقل البشري في مجتمعات تتسم بتعقيد شديد وبحاجة لمعالجات ثقافية لا تتوقف على المهرجانات والمسرحيات وحفلات الموسيقى.
صحوة ثقافية ولكن يشير الكاتب والروائي إيهاب الحضري إلى أن الحديث عن وجود صحوة ثقافية لا يمكن الحكم عليه وفقا لتوالي أنشطة فنية الفترة الماضية، وقد تصبح صحوة ميتة دون أن تحقق المرجو منها، فالأمر يتطلب استمرارية وانتظاما وحرية حركة.
ويطالب الحضري في تصريح خاص لـ”العرب” بتطوير البنية الأساسية لمنشآت وزارة الثقافة وتفعيل دور القصور والبيوت المعنية بالثقافة عموما في جميع محافظات مصر، وتملك أنشطة حقيقية متواصلة تستطيع جذب الجمهور العادي إليها بدلا من جمهور المثقفين والصحافيين الذين يشكلون الجزء الأكبر من المتفاعلين مع أنشطتها.
ويوضح أن انجذاب المواطنين إلى مهرجانات الموسيقى وحفلات الفنون الشعبية وعزوفهم عن الأنشطة الثقافية مثل الأدب والشعر أو ما يجري وصفه بـ”الثقافة العميقة” يشي بأننا أمام خلل نوعي في كيفية إقناع الجمهور بالمحتوى، ما يعني أن اهتمام المواطنين بنمط واحد من الثقافة لن يحقق نتائج جيدة على مستوى التأثير في البيئة المحلية وما تحويه داخلها من أفكار يجب التخلص منها.
ويريد كتاب وأدباء ومعنيون بمستقبل الثقافة في مصر من الوزيرة عبدالدايم أن تقوم الهيئات التابعة لها بالتنقيب عن الكفاءات الفنية الموجودة في الأقاليم وتوظفهم بصورة إيجابية وتكون فعالياتها منبثقة من داخل جمهور المحافظة أو المدينة.
وزادوا على ذلك ضرورة أن تولي وزارة الثقافة اهتماما بالقوافل التي تعقد ندواتها وفعالياتها وسط المواطنين البسطاء في القرى والنجوع والتخلص من ثقافة المنصة والجمهور النخبوي وتجسير الفجوة النفسية بين المتلقين والقائمين على أمر الثقافة.
مصر تعزز جهود تحقيق العدالة الثقافية للارتقاء بالوجدان ونشر الفنون الجادة وإذاعة ثقافة التنوير ضد التطرف
وتتزايد شكاوى المثقفين من عدم وجود ميزانيات تجعلهم قادرين على تنفيذ العديد من المبادرات في مجالات اكتشاف مواهب الشعر والأدب والموسيقى.
وتعددت المطالب التي تحث وزارة الثقافة على تقديم دعم مادي في مقابل مراقبة ما يتوصل إليه هؤلاء ودراسة نتائجها على الأرض، فهناك قناعة بأن مخاطبة العقول لا يمكن أن تكون فوقية عبر الوزير أو المحافظ أو المسؤول، فالأكثر جدوى أن تكون نابعة من المواطنين أنفسهم والبيئة التي يعيشون فيها.
ويتشكك العديد من المثقفين في الفعاليات الثقافية التي ترفع شعار “تحت رعاية” هذه الوزارة أو هذا الوزير، فهي لن تحقق النتائج المرجوة منها وتحصرها في إطار دعائي لا يحقق نتائج ثقافية ملموسة، في ظل هواجس تدور في الأذهان، حيث يخشى كثيرون من ربط الفعاليات الثقافية بأهداف سياسية لا علاقة لها بالتوعية ومحاربة المتطرفين.
ويشدد الحضري لـ”العرب” على أهمية أن تستخدم الدوائر الثقافية الآليات التي تمكنت من خلالها التنظيمات المتطرفة من اختراق عقول البعض من المواطنين، وتكون الجهود الثقافية بنفس الشكل الذي اعتاد عليه الناس في تلك المناطق، ويقود المثقفون هذا الحراك وتكون وزارة الثقافة والجهات الحكومية داعمة لهم.