هل تأخرت ألمانيا في تحركها لقيادة أوروبا بالشرق الأوسط

برلين تتحرر من الحياد الإيجابي المكبل لإرادتها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
الخميس 2019/10/24
مساع ألمانية لإعادة تشكيل المشهد في سوريا

الانسحاب الأميركي من شمال سوريا خلف صدمة وخيبة أمل في صفوف الأوروبيين الذين لطالما القوا بمسؤولية الدفاع عن المصالح والقيم الغربية على كاهل الولايات المتحدة، ويشعر الأوروبيون اليوم أنهم ارتكبوا خطأ استراتيجيا يستوجب تداركه بسرعة. ولعل ألمانيا الأكثر تأثرا من تغير العقيدة الأميركية وبدأت تتعالى أصوات داخلها تطالب بإعادة مسك زمام المبادرة في الملفات التي تلامس جوهر المصالح الأوروبية والمشاركة بفاعلية أكبر على المسرح الدولي، وسط وعي متزايد بأن الاستمرار في هكذا نهج سيؤدي إلى ضمور أوروبا أمام التحولات الدولية العاصفة وتوجه العالم نحو التعددية القطبية، مع بروز قوى مثل روسيا.

خرجت ألمانيا عن تحفّظاتها السابقة بشأن إرسال قوات إلى مناطق النزاع، بطرح مبادرة لإقامة منطقة آمنة مراقبة دوليا تكون أحد أطرافها في شمال شرق سوريا، وذلك بالتزامن مع تصاعد أصوات خاصة داخل حزب المستشارة أنجيلا ميركل تدفع باتجاه إرسال الآلاف من الجنود الأوروبيين، للحفاظ على مصالح القارة وصدّ التهديدات القادمة من هناك.

وعرضت وزيرة الدفاع الألمانية أنيجريت كرامب كارنباور الأربعاء، ملامح المبادرة المستلهمة من مهمة “مينوسما” الأممية لإحلال الاستقرار في مالي، أمام لجنة شؤون الدفاع في البرلمان الألماني (بوندستاغ).

وذكرت الوزيرة الألمانية أن المهمة يجب أن تكون الفصل بين أطراف النزاع في شمال سوريا، ومراقبة وقف إطلاق النار، ورصد الوضع هناك، ومراقبة المناطق، واتخاذ إجراءات في حال انتهاك القواعد السارية هناك، لافتة إلى أن تلك المنطقة الآمنة يمكن تقسيمها إلى قطاعات تتولّى ألمانيا مسؤولية أحدها.

وكانت كرامب كارنباور قد أعلنت الأحد الماضي أنها ستطرح المبادرة على هامش اجتماع وزراء دفاع حلف شمال الأطلسي (ناتو) في بروكسل الخميس والجمعة.

وحذّرت من أن الوضع في سوريا يؤثّر على المصالح الأمنية لأوروبا ولألمانيا بشكل كبير، منتقدة بشدّة السلبية التي طبعت سلوك ألمانيا والأوروبيين في القضية السورية قائلة “هم كالمتفرجين من وراء سياج”.

تخوفات برلين

معلوم أن ألمانيا، أحد أبرز المتأثرين غير المباشرين بالنزاع الدائر في الشمال السوري، خاصة مع احتضانها لنحو ثلاثة ملايين تركي وكردي، فضلا عن خشيتها من أن أي حرب قد تنتهي بموجة هجرة شبيهة بتلك التي عايشتها قبل نحو ثلاث سنوات، والتي شكّلت بالنسبة لها كارثة حينما نجح اليمين المتطرف في استثمارها لصالحه.

وقد يكون التحرّك الألماني متأخرا جدا، خاصة إذا ما نجحت روسيا في فرض تطبيق الاتفاق الذي تم التوصل إليه الثلاثاء في لقاء قمة بسوتشي بين الرئيسين الروسي فلاديمير بوتين والتركي رجب طيب أردوغان، والذي يقوم أساسا على تفعيل اتفاقية أضنة الموقّعة عام 1998 بين دمشق وأنقرة.

واشنطن انسحبت من شمال شرق سوريا دون تنسيق مع الأوروبيين رغم أنّ الطرفين منخرطان في تحالف ضد داعش في المنطقة، وهي النقطة التي أفاضت الكأس

وأبدى الأمين العام لحلف شمال الأطلسي ينس ستولتنبرغ الذي تواصل في وقت سابق مع وزيرة الدفاع الألمانية فتورا بشأن مقترحها لإنشاء منطقة آمنة بحماية دولية في شمال سوريا، معتبرا في تصريحات له الأربعاء أنّ الحل يجب أن يشمل الأطراف الفاعلة “على الأرض”.

وتشارك ألمانيا في التحالف الدولي ضد داعش في كل من سوريا والعراق عبر تقديم الدعم اللوجستي، بيد أنه ليست لديها عناصر مقاتلة على الأرض، رغم الضغوط الأميركية التي طالبتها على مدى الأشهر الماضية بأن تكون فاعلة أكثر، وتتحمّل جزءا من المسؤولية.

ولطالما كانت ألمانيا تتجنّب المشاركة العسكرية في النزاعات الدولية، بالنظر إلى التجربة المريرة التي عايشتها في الحربين العالمية الأولى، وخاصة الثانية التي خلّفت ندوبا عميقة في وجدان الألمان، بيد أن برلين بدأت تتخلّى تدريجيا عن سياسة “الحياد الإيجابي” وسط دعوات تطالب بضرورة التحرك بفاعلية أكبر على المسرح الدولي في ظل تحولات العالم.

وهناك وعي متنام من أنّ الاستمرار في ذات الإستراتيجية القائمة على بناء اقتصاد قويّ غير كاف، وأنه حان الوقت لألمانيا لإعلان قيادة قاطرة القارة العجوز ليس فقط على الصعيد الاقتصادي بل وحتى الدبلوماسي ولمَ لا الأمني، خاصة في ظل عدم وجود طرف أوروبي قادر على لعب هذا الدور، فبريطانيا تعاني من أزمة داخلية معقّدة في علاقة بمطبّ البريكست، وفرنسا، التي يحاول جاهدا رئيسها إيمانويل ماكرون إنعاش نفوذها، تبدو عاجزة في ظل الضغوط الاقتصادية التي تعانيها وتحركات “السترات الصفراء” وإن خفت.

ويشكّل التغيّر في العقيدة الخارجية لواشنطن المتوخاة منذ الحرب العالمية الثانية، وتوجّه الولايات المتحدة نحو التقوقع الذاتي حافزا كبيرا لألمانيا لمغادرة “الربوة”.

سوريا ما بعد الانسحاب الأميركي

ألمانيا تسعى إلى التحرّك بشكل أكبر في المسرح السوري بعد التراجع الأميركي
ألمانيا تسعى إلى التحرّك بشكل أكبر في المسرح السوري بعد التراجع الأميركي

مثّل تصدّر الولايات المتحدة الدفاع عن القيم والمصالح الغربية، محط ارتياح أوروبا واطمئنانها، بيد أنه ومنذ تولّي الرئيس دونالد ترامب السلطة ورفعه شعار “أميركا أولا” وما رافقه من خطوات مثيرة للجدل سواء على مستوى “السياسة الحمائية”، التي انتهجها على الصعيد الاقتصادي وانسحابه الأحادي من الاتفاق النووي مع إيران، بدأ العقل الأوروبي يستشعر التهديد.

وشكّل الانسحاب الأميركي من شمال شرق سوريا من دون تنسيق مع الأوروبيين رغم كون الطرفين منخرطين في تحالف ضد داعش في المنطقة، النقطة التي أفاضت الكأس وسط قناعة أوروبية بأنه حان الوقت لمسك زمام المبادرة وتولّي مهمة الدفاع عن مصالحهم وأمنهم القومي بأنفسهم وعدم رهن مصيرهم بتقلبات السياسة الأميركية.

وفيما تطرح وزيرة الدفاع الألمانية ضرورة أن يكون التحرّك ضمن إطار دولي أشمل، هناك أصوات من داخل حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي الذي تقوده المستشارة ميركل تضغط باتجاه إرسال قوة أوروبية وازنة مشكّلة من الآلاف من الجنود لسوريا، وإن كان مع التنسيق مع الدول الفاعلة في المنطقة.

ودعا خبير الشؤون الخارجية بالحزب المسيحي الديمقراطي، روديريش كيزه فيتر إلى تأسيس منطقة حماية إنسانية شمالي سوريا، والاستعانة في تنفيذ ذلك بما يتراوح بين 30 ألف و40 ألف جندي من دول الاتحاد الأوروبي. وحذّر من أنه “إذا لم نواصل، نحن الأوروبيين، بذل الجهود، سنصبح أُلعوبة… إذا لم تصبح لنا مشاركة هناك، سنستشعر التداعيات بشدة على الأراضي الأوروبية”.

وسبق وأن طرح رئيس لجنة الشؤون الخارجية في البرلمان الألماني الذي ينتمي أيضا إلى حزب ميركل، الأحد، ذات المقترح. وقال نوربرت روتغن في تصريحات لشبكة “إيه.آر.دي” الألمانية إنه يتعيّن اتخاذ مبادرة أن تكون السيطرة على الوضع الأمني في هذه المنطقة مسؤولية المجتمع الدولي، وليست تركيا وحدها، مضيفا أن دول بريطانيا وألمانيا وفرنسا مطالبة الآن بذلك. وقال “لن يقوم أحد بشيء بخلاف الأوروبيين”.

ويرى محللون أن الدعوات الألمانية إلى التحرّك بشكل أكبر في المسرح السوري، في ظل مخاوف حقيقية من عودة انتعاشة تنظيم الدولة الإسلامية، وموجة نزوح جديدة صوب القارة العجوز، وإحساس بالحاجة إلى إعادة الإشعاع الأوروبي في الشرق الأوسط بعد التراجع الأميركي، قد لا يجد طريقه إلى التطبيق لعدة أسباب، لعل من بينها تباين وجهات النظر بين أعضاء الاتحاد الأوروبي أنفسهم في المقاربة المفترض توخّيها، إلى جانب كون أن هناك لاعبين دوليين مثل روسيا وإقليميين مثل تركيا لن يتعاطوا بإيجابية مع هذه العودة.

ويشير المراقبون إلى أنّ روسيا تأمل في استثمار الانسحاب الأميركي لتكون اللاعب الأوحد في سوريا والناظم لخيوط الحل هناك، وسط إدراك منها أن النجاح في هذا الملف سيعزّز مكانتها ليس فقط في الشرق الأوسط بل ودوليا أيضا، أما تركيا فهي تنظر إلى القوات الأوروبية على أنها خصم قادم لحماية العدو الكردي، وهو غير مرحب به.

وصرّح المتحدث باسم الكرملين، دميتري بيسكوف، الثلاثاء، أن موسكو ليس لديها موقف خاص حتى الآن من مبادرة وزيرة الدفاع الألمانية، بخصوص إنشاء منطقة آمنة على الحدود السورية التركية، ليأتي الرد الفعلي مساء عبر إعلان موسكو وأنقرة الاتفاق على تقاسم مهمة المنطقة الآمنة بينهما.

ويبدو جليّا أن الأوروبيين أدركوا الخطر متأخرا جدا، وسط شكوك كبيرة في إمكانية إحداث الفارق وقلب الموازين الحالية، وأن أقصى ما قد يقدّمونه هو الضغط الدبلوماسي عبر منصة الأمم المتحدة سواء في القضية السورية كما في غيرها. وحتى ألمانيا نفسها فرغم وعي ساستها بضرورة التحرّك وتدارك الوضع إلا أنهم لم يبلوروا بعد استراتيجية واضحة لتحقيق الهدف المنشود، وإزاء هكذا حال فإن الخلاصة أنه ليس هناك طرف جاهز حاليا لقيادة القاطرة الأوروبية إلى الشرق الأوسط أو غيره من أجزاء العالم.

6