هكذا تبدو حلب اليوم في الواقع كما في الأدب

"كمنديل في الريح".. رواية تكشف تفاصيل حكم الفصائل المسلحة.
الاثنين 2024/12/09
استعادة لأهوال الصراع (لوحة للفنان تمام عزام)

كان الأدب ومازال أداة توثيق للواقع ضد النسيان واستشرافا للمستقبل عبر قراءة الوقائع والأحداث. الكثير من الروايات أرّخت بواقعية أو من خلال الخيال لما حدث في سوريا في العقد الأخير من أحداث كبرى مزلزلة، ولعل استعادتها اليوم باتت مهمة بعد ما شهدته البلاد وتشهده في الساعات الأخيرة، في استعانة بالأدب لفهم الواقع ومساراته.

ما أشبه اليوم بالبارحة، وما أقرب الخيال إلى الحقيقة. في هذه الدائرة ندور، كأنما لا نبرح المكان. هكذا استشعر السوريون أو أكثرهم عندما استيقظوا على أنباء سقوط مدينة حلب في أيدي الفصائل المسلحة، في ظل انسحاب مفاجئ لقوات الجيش، لتعود الصور القديمة الأليمة إلى صدارة المشهد. رجال بأزياء عسكرية ولحى وأسلحة يعلنون النصر من الميادين ومكاتب كبار المسؤولين.

بدا المشهد غريبا ومفاجئا، وداعيا إلى السخرية أيضا، فالمسلحون الذين جاؤوا من كل فج عميق في الأرض أمضوا أربع سنوات من القتال والكر والفر بين عامي 2012 و2016 حتى يتمكنوا من المحافظة على السيطرة على نصف المدينة فقط، لكنهم بعد سنوات من خروجهم منها وعودة مظاهر الهدوء إلى الشهباء، حلب، نجحوا خلال ساعات قليلة في بسط نفوذهم عليها، فما الذي جرى؟

مصائر الأبطال

بوكس

تقود محاولة الإجابة عن السؤال لمعرفة ما يمكن أن يحدث في المستقبل إلى العودة إلى الماضي، ليصير السؤال هو: ما الذي جرى؟ كيف عاشت المدينة الثانية في سوريا وأهلها سنوات سيطرة رجال أشداء عاثوا فيها فسادا ونهبوا مقدراتها، رافعين شعارات الدفاع عن الدين والحرية؟

الأدب في مثل هذه الحالات يكون خير مجيب عن التساؤلات، وهو ما تفعله رواية “كمنديل في الريح” للأديبة بهية كحيل، ابنة حلب التي عاشت فيها ومارست مهنتها طبيبة خلال سنوات سيطرة الفصائل المسلحة وما بعدها، بل إنها كانت تضطر إلى قطع المسافة بين نصفي المدينة؛ أحدهما تابع للقوات الحكومية والآخر للمسلحين، كي تصل إلى عيادتها وتعالج المرضى.

تستعرض الرواية عبر مسارات حيوات أبطالها، رجاء وميرفت وعلا وآمال وبشر، مسار حلب ذاتها، وطريق انتقالها من سنوات الونس والحياة الطبيعية قبل 2011 إلى مرحلة الأحلام الكبرى وصراع الأفكار والالتباس، وصولا إلى واقع جديد تشكلت ملامحه وانعكست على حياة الأبطال.

من جامعة حلب تبدأ أحداث الرواية، حيث “الهواء منعش تتخلله برودة لذيذة، وشمس حية مالت عن كبد السماء.. وفي السماء طيور، وبعض الغيوم السوداء، وعلى الأرض جماعات من الطلبة انطلقوا من كلية الطب التي تجاور المدخل الرئيسي، بعضهم نزل من كلية الاقتصاد والعلوم، وآخرون ظهروا من كلية الحقوق والآداب فرادى وجماعات. أحاديث شتى لا تشبه أحاديث الشباب عادة عن الحب والجنس الآخر، بل غلب عليها الحدث الذي طغى على حياتهم وعلى وسائل الإعلام المحلية والعربية والعالمية، لكن كلّ على طريقته.”

يكتشف القارئ سريعا أن الحدث المشار إليه هو اندلاع الأحداث في سوريا عام 2011، وتخبرنا الرواية التي تمضي بتقنية الراوي العليم، بأن حديث الشباب في الجامعة كان حديثا عاما، وأن هناك من تحمس وأحس بارتياح غامر لما هو آت، ومن شجبوا ونددوا، بينما بدا البعض حيران مرتبكا من الأفكار التي تراوده، وثلة آثرت الصمت فراحت تراقب وتنتظر، فكان صمتها ثقيلا كصمت مقبرة.

بعد عودة الفصائل المسلحة إلى حلب الآن، يبدو المشهد مشابها، فهناك من السوريين المنتمين فكريا على الأقل إلى تيارات بعينها، إسلامية أو ثورية، ممن هم خارج الوطن، من راح يهلل فرحا بما سماه “تحرير حلب”، وفي الداخل هناك من هتف متشنجا مؤكدا أن ما أقدمت عليه هذه الفصائل انتحار وأنها قادت نفسها إلى مقبرة، وإن هي إلا ساعات فاصلة.

وبعيدا عن هؤلاء وأولئك، يقف اليوم كثيرون من العقلاء المنتمين إلى سوريا فقط، إلى الوطن، في أعلى نقطة فوق جبل الترقب والقلق، يكسوهم صمت ثقيل، كصمت القبور، كما أشارت الرواية، فقد أدركوا حقيقة المسألة، بعد أن تجرعوا على مدى سنوات الألم والدم مرارة ما جرى، دون انحياز إلى طرف على حساب طرف، فالكل مسؤول ومدان، إنما هي الرغبة فقط في الحياة؛ الحياة الطبيعية الهادئة، لذا يقف هؤلاء عند نقطة فاصلة، نفس ما أخبرتنا به الرواية في حديثها عن تلك السنوات البعيدة.

بوكس

يقول الراوي العليم في رواية “كمنديل في الريح” إن هذا اليوم لم يكن كسائر أيام الربيع المعهودة.. “كان إشارة فاصلة لم يلتقطها إلا القلة القليلة جدا من الناس، فما جاء بعد هذا التاريخ من أيام لا تشبه ما قبلها. كان تاريخا حاسما أنهى فترة حياة بأكملها دون أن يشعر أحد أن ما رحل لن يعود أبدا، كانت كل دقيقة تأتي تجبُّ ما قبلها، الأيام الجميلة الآمنة تتسرب بساعاتها ودقائقها كما يتسرب الماء من ذرات الرمل في سراب صحراء.”

كانت أكثر المفردات تداولا، بين أبطال الرواية في زمانهم قبل ثلاثة عشر عاما هي “حرية، عدالة، مبادئ، تغيير”. واليوم بعد ما جرى إثر سقوط مدينة حلب وسقوط النظام السوري عادت هذه المفردات لتتردد على ألسنة كثيرين، من بينهم كُتَّاب ومفكرون، بسذاجة وسطحية ومراهقة سياسية، كأن دروسا لم تُستوعب وسنوات لم تمر، دونما لحظة تفكير فيما يمكن أن يأتي، وباستغراق في اللحظة الآنية، حالمين بأن إسقاط الدكتاتورية ستعم بعده العدالة والحرية على أيدي مسلحين ملتحين لا تعلم إلى أي بلد ينتمون، فهل فعلها هؤلاء من قبل خلال سنوات سيطرتهم؟

تجيبنا رواية الأديبة السورية بهية كحيل عن السؤال، إذ تفرقت مصائر الأبطال بعد ذلك اليوم الذي لم يكن كسائر أيام الربيع بالفعل، وحلقت في سمائه الطيور وسط الغيوم، فتنوعت مساراتهم في الحياة من هجرة غير شرعية عبر البحر إلى لجوء في مخيمات غامضة دامية على الحدود في تركيا، وصولا إلى الاغتصاب تحت مسمى جهاد النكاح.

يهتف أحد الأبطال بعد كل ما جرى “آه يا والدي! ماذا أخبرك عن مدينتنا التي عبث بها الظلم والظلام؟ عن فراق الأحبة، دروب الرحيل، صهيل الغياب. ما عادت مدينة.. هي أشلاء ذاكرة وطيف ذكرى أخرستها الأماكن الخالية، وأعمتْها رائحة الدم والنار، فباتت خالية من أسماء من فارقتهم.”

وفي البحر، حلما بالهجرة إلى أوروبا، ابتلعت المياه الكثيرين، فرُحنا، كما يقول بِشر بطل الرواية، نتعثر برؤوس الموج، بخطايا البشر. ندور، وندور في زوبعة الرياح العاتية الآتية غربا، نعبر تخوم المستحيل، نهيم على وجوهنا باحثين عن حياة بعد أن أصبح الموت يرافق رغيف خبزنا، كأس شاينا، تيننا، زيتوننا، الضحكات البريئة على شفاه صغارنا.

المركب بات أشلاء مبعثرة، ومئتا شخص مسفوحون تحت سماء غافية، وموج غاضب. بطانيات، حقائب، بعض الملابس وستر النجاة، وجوه شاخصة للسماء، طفل في الرابعة يطفو على بطنه، هل أنا على قيد اليقظة أم في لُجة كابوس؟ يتساءل بشر في فزع هاتفا: “أماه.. أية لعنة حلت بنا؟.”

مسكينة أيتها الفيافي

◄ بماذا يحلم الهاتفون؟
بماذا يحلم الهاتفون؟

نحن الآن أيضا لنا أن نتساءل معه، أي لعنة تلك التي ندور فيها وتدور بنا؟ لعنة تضع المواطن السوري بين مطرقة دكتاتورية بغيضة حرمته أبسط مقومات الحياة لبشر في القرن الواحد والعشرين وسندان جماعات متطرفة تتمسح بالدين اختارت في لحظة فاصلة أن تحرر حلب بينما غزة ولبنان تدكان بالنيران كل ليلة من قريب. وبماذا يحلم الهاتفون؟ أينشدون مصيرا كمصير علا بطلة “كمنديل في الريح”؟

تخبرنا الرواية بأن علا عندما وصلت مع زوجها إلى مخيم اللاجئين، كانت دائمة الحديث عن منزلها الذي تركته، عن ضيعتها الآمنة الجميلة، عن بستانها الصغير، كان ألمها بحجم الوطن الذي تركته، لم تدرِ لِمَ حدث كل هذا؟ ولِمَ كان عليها في ليلة من ليالي الربيع المرعبة أن تحمل القليل من اللباس والطعام، وتهرع خلف زوجها مع مجموعة من أبناء قريتها، يجتازون الحدود، ليقطنوا هذا الفضاء المريع؟

وتتساءل: أي جنون دعاهم ليتركوا ثمرة أيامهم، ذاكرة أرواحهم، مرابع الأمان، مسكبة النعناع، شجيرة الورد، خم الدجاج، حاكورة الدار؟

وتأتي إجابة تساؤلات الخيال، المغموسة في محبرة المرارة والألم، من الواقع اليوم في 2024، إنه الجنون العارم المزدوج؛ جنون الطمع في السلطة مهما بدت هشة ولا يسندها سوى وصاية قوى كبرى، وجنون جماعات اعتادت السير في الحياة كجرذان تتغذى على بقايا الأطعمة والدول مهما يكن طعامها لا يصب إلا في بطون ومصالح الأعداء، لتتحقق بذلك كلمات نزار في أصدق صورة: “يوجعني أن أسمع الأنباء في الصباح/ يوجعني.. أن أسمع النباح../ ما دخَلَ اليهود من حدودنا/ وإنما../ تسربوا كالنمل.. من عيوبنا.”

وهكذا.. بدت حلب اليوم في الواقع كما الأدب، بدت “كمنديل في الريح”، تتقاذفه الأهواء، ويتخاطفه الفرقاء، يعبثون به، يمزقونه، يحولونه إلى أشلاء، وإن يكن على حساب الوطن، وحياة الإنسان، ليصح بذلك قول بهية كحيل في روايتها “مسكينةٌ أيتها الفيافي، لا يليق بكِ إلا جدول عذب، وطاحونة قديمة، تعجز روحي عن الابتسام، فلا شيء هنا سوى محيط من جفاف، خراب يتكئ بعضه على بعض، ولوحة صدئة ملوثة بهباب ودم، تنحني بوجع وبالكاد تستطيع أن تُقرأ: حلب ترحب بكم.”

12