هشام رستم تونسي تألق على شاشات العالم لإيصال "رسالة"

مبدع رأى الفن حرباً ضد الجهل وخشبة المسرح فضاء صوفياً
الخميس 2022/06/30
من الممثلين المخضرمين

“الفنان ليس لديه ما يسمى تقاعدا، الفنان يجب أن يعمل حتى آخر نفس، أمنيتي الكبيرة أن أموت على خشبة المسرح”، أمنية نبيلة ظلّت معلقة، فقد باغتت المنية صاحبها في منزله بعدما أثرى المسرح والتلفزيون والسينما بأعمال رسخت في وجدان المشاهد التونسي والعربي والأجنبي على حد السواء. وها هو الموت يغيب الممثل التونسي هشام رستم عن سن تناهز الـ75 عاما في بيته بضاحية المرسى في العاصمة تونس، مخلّفاً مسيرة طويلة من الإبداع والتألق.

رستم كان يملك كاريزما مختلفة عن جيله وعن الفنانين العرب عموما، قوة حضور على الساحة الفنية الوطنية والعالمية جعلته واحداً من الذين سيشعر الجمهور والساحة الفنية التونسية والعربية بالأثر الواضح لغيابهم.

انتهت تلك المسيرة الفنية بدوره كمحافظ شرطة في مسلسل “حياة وأماني” والتحقيق في ظروف وفاة رجل الأعمال هاشمي عبدالوارث، لتختتم اليوم بالتحقيق في ملابسات وفاة رستم ذاته التي لا تزال حتى الساعة مجهولة الأسباب ما عدا ما صرحت به عائلته بأنه توفي بعد صراع مع المرض. وكان أحد جيران رستم قد تفطن لوفاته وقام بإبلاغ السلطات الأمنية، وتفيد الأخبار الأولية أن الأطباء أكدوا أن الوفاة حصلت قبل يوم من اكتشاف الجثة.

الفنان العارف بالتاريخ

ويعدّ رستم من الممثلين المخضرمين الذين تركوا بصمة لا تمحى طوال نصف قرن من مشواره الفني على قطاع السينما والفن والمسرح في المهجر وفي تونس.

وقد نعت وزارة الشؤون الثقافية في تونس الممثّل الراحل، قائلة في بيان إنها “تنعى بكلّ حسرة وأسى الفنان والممثّل الكبير هشام رستم الذي يعتبر من أبرز الفنانين في مجال التمثيل في تونس، وله عدّة مشاركات محلية ودولية في عدد هام من الأعمال الدرامية والسينمائية”. وأشارت إلى أنه حصل على دكتوراه في الآداب وأخرى في تاريخ المسرح من فرنسا.

ولم يكن اكتشاف الموهبة التي غذاها رستم بعشق شديد للتمثيل وحلم أكبر للوصول عاديا، بل كان على يد الفنان والمخرج التونسي علي بن عياد الذي يعود إليه الفضل في إبراز العديد من المسرحيين التونسيين.

ويعود الفضل في منح رستم فرصة التتلمذ على يد بن عياد، إلى جده من والدته عبدالعزيز صاحب الطابع، مدير المدرسة الصادقية في ذلك الحين، حيث عرف بحبّه للمسرح فكان يأخذ حفيده لمشاهدة العروض المسرحية.

وسافر إلى فرنسا بعد حصوله على شهادة البكالوريا، وعاش فيها نحو سبع وعشرين سنة، درس كثيراً وتعلّم كثيراً من الحياة، وعمل ضمن المسرح الفرنسي والسينما والتلفزيون الفرنسي، ولديه في سجّله قرابة 70 مسرحية و10 أفلام ومسلسلات.

وقد أثرت فيه الثقافة التي تلقاها في فرنسا، لا من ناحية علمية فحسب بل وأيضا من الجانب الإنساني، وهو يقر بنفسه بذلك حين يقول “لقد أثَّرت فيّ فرنسا كثيرا؛ فهناك أتممت دراستي الفنية، وكذلك أيضا خطواتي الأولى باعتباري ممثلا ومخرجا، واليوم أذهب أربع أو خمس مرات في السنة إلى باريس. وهناك أتزود بالطاقة الفكرية، وأستطيع إشباع حاجتي إلى الإبداع والحرية”.

الخروج من ثوب الذات

◙ إرثه الفني ينفي عن صاحبه صفة التواضع التي كان يصرّ عليها، إذ تجاوز مشوار رستم الفني بأكمله الخمسين سنة، شارك خلالها في بطولة 32 فيلما وأكثر من 26 مسلسلا و80 مسرحية باللغات العربية والإنجليزية والفرنسية والإيطالية والألمانية

كان يمتلك طاقة لا حدود لها من العطاء، حاول استثمارها من خلال لعب أدوار تكسّر من تلك الشخصية التي تلبسته، الرجل الأرستقراطي، فكان دوره في مسلسل “مشاعر” بشخصية قريبة من الروحانيات، فرصة له، كما قال، للخروج من ثوب الأرستقراطي الشرير أو رجل الأعمال المتعالي، علما أنه أسّس في عالم الواقع لا في الدراما وحسب مهرجانا للموسيقى الصوفية باسم “روحانيات” في مدينة نفطة بولاية توزر في الجنوب التونسي.

آمن بأن الفنان آلة لتمرير رسالة، ورأى أن التمثيل “مهنة لكن قبل ذلك غرام وحلم كبيران، والإنسان إذا امتنع عن الحلم لا مبرّر لكي يعيش، ومن دون إرادة إنسانية لا يمكنك تقديم أي شيء”.

وعلى الرغم من أن رستم يعتبر من الأسماء الفنية المتميزة واللامعة وفي رصيده كم هائل من الأعمال الهامة، فإنه كان يقول “لا أحب أن أكون موجودا لمجرد الوجود، ولكن أحب أن أكون موجودا بجودة جيدة”.

وقد كشف مرّة أنه شارك في الفيلم الروائي التونسي الذي صُنّف ضمن قائمة أهم مئة فيلم في السينما العربية منذ تأسيسها “صفائح من ذهب”، بمقابل زهيد لأنه كان يدرك أن التمثيل حرب ضد الجهل والرداءة.

الفيلم الذي أنتج في العام 1988 للمخرج السينمائي نوري بوزيد لم يكن مجرد سيرة ذاتية لشخصية يسارية تجلد نفسها بعد رهانات خاسرة، وإنما هو إيغال نحو قراءات متشابكة للفرد والمجتمع والدولة جسدها بإتقان البطل يوسف سلطان الذي لعب دوره رستم. وقد تكرّر الأمر ذاته مع فيلم “السيدة” الذي أنتج في العام 1997.

قدّم رستم سجلا فنيا حافلا، وقد تنوّعت أعماله ما بين السينما والدراما التلفزيونية، لكن ذلك لم يمنعه من المحافظة على مستوى عال في الأداء دون السقوط في هاوية الأعمال التجارية التي تفرضها عادة آلة الإنتاج وسوقه.

المدرسة العظيمة

◙ رستم يعد من الممثلين الذين تركوا بصمة لا تمحى على صناعة السينما والفن في تونس والمهجر على حد سواء
رستم يعد من الممثلين الذين تركوا بصمة لا تمحى على صناعة السينما والفن في تونس والمهجر على حد سواء

وقد شارك في يونيو الجاري متابعيه على حسابه في موقع فيسبوك منشورا جاء فيه “الممثل عبارة عن صفحة فارغة نضع عليها الألوان. إنه متواضع جدا، حالة الممثل جان لوي ترينتينيان”.

لكن إرثه الفني ينفي عن صاحبه صفة التواضع، إذ تجاوز مشوار رستم الفني بأكمله الخمسين سنة، شارك خلالها في بطولة 32 فيلما وأكثر من 26 مسلسلا و80 مسرحية، باللغات العربية والإنجليزية والفرنسية والإيطالية والألمانية.

ومن بين أبرز الأعمال السينمائية التي شارك فيها فيلم “صمت القصور” للمخرجة مفيدة التلاتلي، و”التلفزة جاية” و”زهرة حلب” للمخرج رضا الباهي، و”مجنون ليلى” للمخرج الطيب الوحيشي و”همس الرمال” للمخرج ناصر خمير.

وعلى الشاشة الصغيرة أسهم في العديد من المسلسلات مثل “الناس حكاية” و”فج الرمل” و”حسابات وعقابات” و”قمرة سيدي محروس” و”يوميات امرأة” و”تاج الحاضرة” و”نجوم الليل” و”مكتوب” و”أولاد مفيدة” و”مشاعر”، بالإضافة إلى مشاركته في المسلسل المغربي “سر المرجان” ومسلسلات أجنبية متعدّدة.

◙ اكتشاف موهبة رستم التي غذاها بعشق شديد للتمثيل وحلم أكبر للوصول لم يكن عاديا، بل كان على يد الفنان والمخرج التونسي علي بن عياد الذي يعود إليه الفضل في إبراز العديد من المسرحيين التونسيين

حضر رستم في الأعمال الوثائقية والروائية الأجنبية على غرار فيلم “المريض الإنجليزي” عام 1996، كما كان له ظهور في فيديو كليب “لولاك” للمنشد اللبناني من أصل سويدي ماهر زين في العام 2019.

مهرجانات عديدة كرّمته وأشادت به، من بينها مهرجان القاهرة السينمائي الدولي لمشاركته في السينما العالمية، أما تونس فمنحته وسام الاستحقاق التونسي، وجائزة خاصة لجميع أعماله في مهرجان ليبرفيل السينمائي الدولي، وجائزة مهرجان وهران الدولي للسينما العربية.

إذا كان فنه لافتا للانتباه، فإن حياته كانت كذلك أيضا، حيث تزوج ثلاث مرات انتهت جميعها بالطلاق، وآخرها كانت من الممثلة وخبيرة التنمية الذاتية والعلاج بالطاقة سناء الزين، لكنه لم يكلل في زيجاته الثلاث بفرصة الحصول على أبناء.

واشتهر الفنان الذي حمل لقب “المدرسة العظيمة” كما وصفته الفنانة التونسية لطيفة في سنواته الأخيرة بالتفاته إلى البعد الروحي والأغاني الصوفية، وكانت له أنشطته الثقافية والخيرية في هذا المجال، فكان الطابع الصوفي طاغيا على إجاباته في عدد من الحوارات الإذاعية والتلفزيونية التي أجريت معه في السنوات الأخيرة، وكذلك على منشوراته في وسائل التواصل الاجتماعي، ومن بين العبارات التي شاركها من فترة قصيرة مع متابعيه “عندما أكون صامتًا، أقع في مكان كل شيء فيه موسيقى”.

لم يكن يعلم حين كتب ذلك أن ساعة الرحيل قد آنت وأن صمته سيطول، لكن كيف يموت من يترك أثرا عميقا في النفوس وزادا فنيا شاهدا على حضور لم يكن مجرد حضور شرفي على مسرح الحياة، بل ظلاً رائقاً جعل من صاحبه الأكثر بروزا من بين ممثلي الصف الأول الذين تزخر بهم تونس.

وقبل أن يغادر عالمنا، حرص رستم على التأكيد على أن أكبر ما يمكن أن نمرره للعالم هو السلام، لكن “لا بدّ أن يبدأ من داخل الإنسان، حتى ينجح في تمريره إلى الآخرين”، وبذلك لم يبق لمحبي الفنان التونسي القدير إلا أن يرددوا: لروحه السلام.

حضوره يتجاوز الإطلالة المعتادة للممثل، كما في مشاركته في فيلم "المريض الإنجليزي"

 

12