هروب المسؤولين من مواجهة الصحافة يكرس انعدام الثقة بالإعلام المصري

تعالي السياسيين على الإعلام يوفر أرضية خصبة لنشر الشائعات.
الجمعة 2021/08/20
تواصل باتجاه واحد دون تفاعل

يرفض الكثير من المسؤولين والسياسيين في مصر الظهور الإعلامي أو اللقاءات الصحافية للإجابة على الأسئلة التي تشغل اهتمام الناس. ويصعب فصل ذلك عن اهتزاز صورة الإعلام في الشارع، فالناس لا يثقون في أدائه ورسائله والحكومة لا تعول عليه بعدما كان أيّ مسؤول سابقا يسعى لاسترضاء الصحف والبرامج بإجراء لقاءات معها.

القاهرة - لم يفلح الاصطفاف الإعلامي خلف الحكومة المصرية في خلق حالة من التقارب بين وسائل الإعلام وكبار المسؤولين، وصار إجراء صحيفة أو برنامج تلفزيوني لقاء مع رئيس الجمهورية أو وزير أو مسؤول بارز حدثا نادرا، يتم التفاخر به بسبب الرفض المتكرر من المسؤولين إجراء لقاءات دورية مع الإعلام للرد على الاستفسارات التي تؤرق الناس حول بعض القضايا الحيوية.

وباستثناء رئيس الجمهورية في بعض اللقاءات الخارجية، ووزير الخارجية المصرية لا تعقد تقريبا مؤتمرات صحافية، فالرئيس والوزير بحكم منصبيهما واللقاءات مع نظرائهما الأجانب في حضور وسائل الإعلام الدولية التي تتابع الحدث – اللقاء بات كلاهما مضطرا إلى هذا التقليد الذي يفتقر له كل الوزراء في مصر تقريبا.

ويصبح الحوار أو اللقاء المنفرد صعبا مع المسؤول المصري عندما تكون وسيلة الإعلام أجنبية، وكأن هناك “محرمات” من الحديث معها، وتعتمد غالبية التصريحات المستقاة من هؤلاء على العلاقة الشخصية أو عدم الإشارة إلى اسم المسؤول، وهي معضلة تؤثر على مصداقية وسائل الإعلام عند كثافة الإشارة إلى مصادر غير معلومة.

ويختار أغلب المسؤولين حاليا القطيعة مع الإعلام لأسباب مختلفة، بعضها يرتبط بأن الكثير من الصحافيين ومقدمي البرامج الحوارية يتعمدون توجيه أسئلة استفزازية ومثيرة أحيانا، قد تتسبب في وضع المسؤول في مواقف حرجة وتجعله عرضة للتنمر على منصات التواصل الاجتماعي التي أصبحت تتصيد كل هفوة أو تصريح غريب للنيل من هذا المسؤول ومنصبه، ما يؤدي إلى اتساع نطاق السخرية من مهامه.

وحتى وقت قريب كان هناك مسؤولون كبار يختارون الظهور الإعلامي في منابر بعينها، بحكم أن هذا الصحافي أو الإعلامي الذي يحاوره لديه قدر من الحكمة في طرح الأسئلة، ولا يجر المسؤول إلى قضايا مثيرة للجدل، ويكاد يندثر ظهور الوزراء في وسائل الإعلام، وفضلوا التعامل عبر بيانات رسمية روتينية.

صفوت العالم: ليس مطلوبا من الصحافي أن يكون مجرد متلق للبيانات

حساسية مواقع التواصل

وما زالت معضلة الإعلام المصري أن كل منبر يتحدث إلى مسؤول كبير يسأله عما أثير على منصات التواصل الاجتماعي، مع أن الغالبية لديها حساسية مفرطة من الشبكات الاجتماعية، وتتعامل معها باعتبارها بوقا لترويج الشائعات ولا يجب وضع المسؤول في مواجهة إعلامية معها لتجنب الدخول في معركة مع روادها.

وقال مسؤول حكومي بارز لـ“العرب” إنه اتخذ قرارا بالتعامل مع الصحافيين المعنيين بتغطية أنشطة وزارته بالرد عليهم عبر تطبيق واتس آب فقط، دون أن يرد على مكالماتهم الهاتفية، بعدما تبين له تحريف حديثه التلفوني أكثر من مرة وكتابة عبارات لم يتفوه بها، ما خلق حالة من عدم الثقة في التعامل مع الإعلام من خلال التحدث إليه.

وأضاف أن الكثير من المسؤولين صاروا يتعرضون لأسئلة بالغة الحرج ويتم جرهم إلى قضايا جانبية وموضوعات شائكة يضطرون إلى الرد عليها، خاصة إن كان السؤال مطروحا في برنامج تلفزيوني يتم بثه على الهواء، بما يضعهم في مواجهة مع الشارع، وصاروا يشترطون إجراء اللقاء التلفزيوني مسجلا مع فلترة بعض الأجزاء التي قد تحدث مشكلة للوزير أو يمكن أن يساء فهمها.

ولفت المسؤول نفسه إلى أن شريحة ليست بالقليلة من الصحافيين ومقدمي البرامج الحوارية التلفزيونية يفتقرون إلى خبرة العمل الإعلامي، وهذه مشكلة كبيرة تدفع كل مسؤول إلى التخوف منهم، وشخصية بحجم وزير في الحكومة تحتاج إلى محاور فاهم يحاورها بمعلومات وليس بتجميع أسئلة من تصريحات سابقة للوزير أو منصات التواصل.

ويرى خبراء في الإعلام أن تحجج أي مسؤول بطبيعة الأسئلة المثيرة للهروب من الظهور الإعلامي يعكس غياب الحس السياسي عنه وأنه غير مؤهل لتولي منصبه، لأن القطيعة مع الإعلام بسبب دفعه إلى الرد على موضوعات جدلية ليست منطقية، والإعلامي من ضمن مهامه أن يحصل من المسؤول على إجابات قاطعة لكل الاستفسارات المطروحة.

ويعتقد هؤلاء أن حالة عدم الثقة بين المسؤولين والإعلام في مصر مشكلة خطيرة ومعقدة ومطلوب حلها، لأن تباعد المسافات بين الطرفين ليس في صالح كليهما، فالحكومة بابتعادها عن الإعلام تخسر الوسيط الذي ينقل رسائلها إلى الشارع ويقنع الناس بأن هناك إجراءات إيجابية تحدث على الأرض، وقرارات وإنجازات تستحق الإشادة.

والإعلام نفسه عندما يكون عبارة عن منابر لبث البيانات الرسمية فقط دون توفير المعلومات والإجابات التي يبحث عنها الناس، يفقد قيمته وأهميته والدور الذي وُجد من أجله، ووقتها قد تصبح مطالعة صحيفة  أو نشاهد برنامجا واحدا كافيين للحصول على الرواية الرسمية طالما أن ما ينشر ويبث على كل المنابر بذات الصيغة.

وإن تحققت المعجزة وجرى عقد لقاءات بين مسؤولين ووسائل إعلام فإنها تخلو من التعمق في طرح الأسئلة وتلقي الإجابات، أي لا يشعر المتلقي بأن الصحافي أو المذيع اشتبك مع المسؤول لإخراج المعلومة التي يبحث عنها الناس، وهي نوعية من الحوارات التقليدية التي تفيد المتحدث وحده، لأنه يستغلها للترويج لنفسه ليس أكثر.

هناك مسؤولون كبار يختارون الظهور الإعلامي في منابر بعينها، بحكم أن هذا الصحافي أو الإعلامي الذي يحاوره لديه قدر من الحكمة في طرح الأسئلة، ولا يجر المسؤول إلى قضايا مثيرة للجدل

وترتب على هذا الواقع أن أغلب وسائل الإعلام في مصر فقدت ميزة التفرد بنشر معلومات حصرية، لأن المسؤولين بطبيعة الحال صاروا يفضلون الصمت، وحتى لو تم إقناعهم بأن الحوار الصحافي أو التلفزيوني هدفه الترويج للإنجازات وتحسين الصورة وإحساس الناس بأن هناك إيجابيات تحدث على الأرض، تأتي الردود بالرفض لأسباب واهية.

ويصعب فصل كل ذلك عن اهتزاز صورة الإعلام في الشارع وامتعاض أغلب الشرائح من أدائه وتأثيره، فالناس لا يثقون في أدائه ورسائله والحكومة مقتنعة بأنه أصبح بلا أنياب، بعدما كان أيّ مسؤول في فترات سابقة يسعى لاسترضاء الصحف والبرامج بإجراء لقاءات دورية معها لتجنب الهجوم عليه أو إظهار سلبياته وانتقاد قراراته وسياساته.

ورأى صفوت العالم، أستاذ الإعلام السياسي بجامعة القاهرة، أن علاقة الإعلام والمسؤول يجب أن تكون قائمة على التوازن والندية أحيانا لا الاصطفاف خلفه طوال الوقت، والمشكلة أن غياب المخالب عن الصحف والقنوات بعد سيطرة جهات حكومية عليها جعل كل مسؤول على قناعة بأنه آمن من النقد والمساءلة الإعلامية وتحديد شكل العلاقة مع الإعلام.

وأضاف لـ“العرب” أن أزمة بعض المسؤولين تكمن في عدم امتلاكهم الاحترافية والحس السياسي في التعامل مع الإعلام، وكثيرا ما يقعون في هفوات وسقطات كلامية تثير الناس على الحكومة، وما زالت معضلة العاملين في مهنة الإعلام أنهم يهتمون بالتركيز على الموضوعات المثيرة لزيادة نسب المتابعة، مع أن الناس يبحثون عن الحقيقة وليس الإثارة.

ولفت إلى أن اهتزاز صورة رجل الإعلام في نظر المسؤول مشكلة خطيرة يتحمل تبعاتها الطرفان معا، فليس مطلوبا من الصحافي أو مقدم البرنامج أن يكون مجرد متلق للبيانات الرسمية، بل يبحث عن الكواليس ويناقشها باحترافية وليس بطريقة هامشية، والمسؤول أيضا عليه أن يقتنع بأن الإعلامي ينقل وجهة نظر الشارع، وليس رؤيته الشخصية، ويكون سياسيا في الرد.

تباعد المسافات

أرضية خصبة لنشر الشائعات
اتساع الهوة بين الإعلامي والسياسي

ويعتقد أغلب العاملين في الإعلام أن تباعد المسافات مع المسؤولين الحكوميين، أصبح يوفر أرضية خصبة لنشر الشائعات بشكل يصعب السيطرة عليها، والمعضلة أنه يتم اتهام الإعلام بأنه من يصنع ويردد المعلومات المغلوطة، مع أنه عندما يلجأ إلى المصادر الرسمية للحصول على الحقيقة يخفق في الوصول إليها، حتى من المصادر المجهولة.

والمعضلة الأكبر أن الكثير من المسؤولين صاروا على قناعة بأن الإعلام يدافع عنهم من تلقاء نفسه، وليس ضروريا الخروج لإجراء حوارات مع منابر تبادر بتلميع الصورة وتركز على الإنجازات، ومن الأفضل مدها ببيانات رسمية بعيدا عن الحديث المباشر، الذي قد يكون مدخلا لاجتزاء لقطات معينة تثير البلبلة والسخط على الحكومة.

18