هدية ترامب للسوريين

لقد أثبت السوريون أن بلدا دون أحزاب يمكن أن يُدار بطريقة أفضل من بلد تسيطر عليه الأحزاب وأن وجود التكنوقراط في إدارة البلاد أفضل بكثير من أن تكون بأيدي سياسيين ضيقي الأفق.
الخميس 2025/05/15
إعجاب لم يستطع ترامب إخفاءه

أقصى ما توقعه المتفائلون في سوريا وخارجها أن يتخذ الرئيس الأميركي دونالد ترامب، في زيارته التاريخية إلى المنطقة التي استهلها بالمملكة العربية السعودية، قرارا برفع العقوبات المفروضة على سوريا. استبعد الجميع حدوث لقاء بين أحمد الشرع وترامب حتى اللحظة الأخيرة، لكن ترامب فاجأ العالم بهذا اللقاء، بل وبما هو أكثر من ذلك؛ إعلان عودة العلاقات بين الولايات المتحدة وسوريا.

سيذكر التاريخ هذه اللحظة، التي ستشكل فاصلا تاريخيا، العالم بعدها لن يكون كما كان قبلها.

يبدو أن اللقاء المفاجئ كان متوقعا من قبل الشرع، الذي مهد له بوعود سُرّبت لتصل إلى الرئيس ترامب، من ضمنها بناء برج يحمل اسم ترامب في دمشق، وتهدئة التوتر مع إسرائيل، ومنح الولايات المتحدة حق الوصول إلى النفط والغاز السوريين، إضافة إلى فرص استثمارية أخرى في بلد 70 في المئة من مساحته هي مناطق لم يتم حتى اليوم استكشافها لمعرفة ما تضمّه من ثروات معدنية.

لم يكن قرار ترامب ارتجاليا أو متسرعا، سبق أن أكد في أكثر من مناسبة أنه سيعلن خلال زيارته إلى دول الخليج عن قرارات مفاجئة، ومن غير المستبعد أن فحوى هذه القرارات تمت مناقشتها مع قيادات الدول التي تشملها الجولة، وهي السعودية وقطر والإمارات.

◄ في سوريا متسع للجميع: سنة، علويون، مسيحيون، دروز، إسماعيليون، إيزيديون، يهود وملحدون، وفيها متسع للأكراد، والتركمان، والشركس، والأرمن، شرط أن يكون انتماؤهم الأول لسوريا

يمكننا التأكيد أن هذا القرار لم يكن عفويا، بل كان مدروسا بدقة من قبل ترامب وفريقه من المستشارين، حيث سبقته دراسة معمقة لشخصية الرئيس السوري أحمد الشرع، خلصت الدراسة إلى أن الشرع شخص يمكن الوثوق بوعوده.

لغة العيون ولغة الجسد التي أظهرها ترامب خلال اللقاء مع الشرع أكدت ذلك، أظهرت اللقطة إعجابا لم يحاول ترامب إخفاءه بهذا الشاب، الذي خاض نضالا ضد حكم بشار الأسد تحت غطاء عقائدي، إلا أن ذلك لم يمنعه من قراءة التحولات السياسية والتجاوب معها وفق مقتضيات كل مرحلة، حيث انفصل عن القاعدة وداعش ثم طوى صفحة هيئة تحرير الشام، وهو ما جعله شريكا سياسيا مقبولا في نظر الإدارة الأميركية وترامب شخصيا.

القرار لم يكن مجرد مكافأة لسوريا، بل كان اتفاقا مشروطا بمطالب، منها التوقيع على اتفاقيات أبراهام مع إسرائيل، وإبلاغ جميع الإرهابيين الأجانب بمغادرة سوريا، ومساعدة الولايات المتحدة في منع عودة تنظيم داعش، وتحمل مسؤولية مراكز احتجاز داعش شمال شرق سوريا.

رفع العقوبات سيكون له تأثير إيجابي على الاقتصاد السوري، حيث سيؤدي إلى تحسن التجارة والاستثمار، ما يسهل إعادة إعمار البنية التحتية المتضررة بشدة. كما أن القرار قد يمهد الطريق أمام تعزيز علاقات سوريا الدولية، خاصة مع الدول الأوروبية والخليجية.

لن يكون صعبا على السوريين مواجهة الديون الخارجية التي تصل إلى 30 مليار دولار، ولن يعيقهم غياب الاحتياطيات الأجنبية في البنك المركزي السوري، كما سيكون بمقدورهم مكافحة التضخم وحل مشكلة نقص الخدمات، وسينجحون في تجاوز مشكلة انتشار القواعد العسكرية الأجنبية داخل سوريا.

سيدخل الشرع سوريا، بعد زيارته إلى السعودية ولقائه مع ترامب للمرة الثانية، منتصرا، وسيخرج السوريون إلى الشوارع للاحتفال بنجاحه في إقناع ترامب برفع العقوبات عن بلدهم. لكن النصر لن يكون كاملا، بل سيكون منقوصا إن لم يقتنع السوريون بضرورة وأد النزعات الانفصالية، وتجاوز كل النعرات الطائفية.

لقد أثبت السوريون اليوم أن بلدا دون أحزاب يمكن أن يُدار بطريقة أفضل من بلد تسيطر عليه الأحزاب، وأن وجود التكنوقراط في إدارة البلاد أفضل بكثير من أن تكون بأيدي سياسيين ضيقي الأفق.

◄ قرار ترامب لم يكن ارتجاليا، سبق أن أكد في أكثر من مناسبة أنه سيعلن خلال زيارته إلى دول الخليج عن قرارات مفاجئة، ومن غير المستبعد أن فحوى هذه القرارات تمت مناقشتها مع قيادات الدول التي تشملها الجولة

في سوريا متسع للجميع: سنة، علويون، مسيحيون، دروز، إسماعيليون، إيزيديون، يهود وملحدون، فيها متسع للأكراد، والتركمان، والشركس، والأرمن، شرط أن يكون انتماؤهم الأول لسوريا.

السنوات الأخيرة شهدت ما يمكن تسميته بموت الأيديولوجيا، بكل تنوعاتها. العالم اليوم يواجه تحديات مختلفة، غذائية وبيئية وتكنولوجية، تتضاءل أمامها الخلافات الأيديولوجية والعقائدية، وكان من نتائج ذلك ابتعاد الأجيال الشابة عن السياسة وعن الأحزاب السياسية.

عودة ترامب إلى البيت الأبيض كانت آخر مسمار يُدق في نعش الأيديولوجيا، حيث أصبحت المصالح اليوم سيدة الموقف. ولا شيء يستحق التقديس بالنسبة إلى سيد البيت الأبيض سوى الاقتصاد.

سيُحسب للرئيس السوري أحمد الشرع، رغم خلفيته الأيديولوجية، أنه من الأوائل الذين تلقوا الرسالة وتجاوبوا معها.

نجح ترامب في أن يثبت للعالم المتشكك أن ما تحله الحروب يمكن أن يُحل بالضغوط الاقتصادية والوسائل السلمية، وسعى جاهدا إلى تجنب المواجهات العسكرية. وعندما جنح الحوثيون للسلم، جنح له أيضا. وهو في طريقه لإثبات نظريته هذه في الحالة الإيرانية، وفي الحرب الروسية – الأوكرانية، وفي غزة..

عندها سيكون ترامب قد استحق عن جدارة أن يكون مرشح أول لنيل جائزة نوبل للسلام، ومن يدري؟ ربما تقاسمها معه الرئيس السوري أحمد الشرع وراعي عملية السلام ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان. سننتظر ونرى.

8