هجرة الكفاءات التونسية ليست شرا مطلقا

مصادر عديدة في تونس ركزت مؤخرا على بيانات حذرت من استمرار نزيف الكفاءات، ذُكر فيها أن 39 ألف مهندس من بين 90 ألفا مسجلين في عمادة المهندسين غادروا تونس، وأن العدد الإجمالي لخريجي أقسام الهندسة في الجامعات التونسية يتجاوز ثمانية آلاف سنويا، يغادر 20 مهندسا منهم البلاد يوميا.
ما ينطبق على المهندسين ينطبق على آلاف الكوادر الجامعية التي تغادر تونس سنويا، ومن بينهم عاملون بقطاعات الطب والهندسة الرقمية وباحثون، بسبب ضعف الأجور وظروف العمل أو البطالة القسرية.
في الطب، كما في الهندسة، يُقدر عدد الأطباء التونسيين المسجلين بعمادة الأطباء بحوالي 30 ألفا و400 طبيب، ولكن عدد الأطباء الذين يمارسون المهنة فعليا 20 ألف طبيب.
المصادر التي نقلت التحذيرات أشارت إلى إن كلفة تكوين المهندسين في تونس سنويا تقدر بنحو 650 مليون دينار (حوالي 215 مليون دولار). وبهذا تكون الخسارة السنوية المترتبة على هجرة المهندسين، فقط، حوالي 100 مليون دولار. ووفق الأرقام الرسمية، تنفق تونس على التعليم العالي بحدود 740 مليون دولار أميركي سنويا.
هل أخطأت تونس عندما راهنت على التعليم وهل أخطأ الزعيم التونسي الحبيب بورقيبة الذي كان يؤمن أن بناء الإنسان هو الأساس لبناء الدولة وبادر إلى جعل التعليم مجانيا وإلزاميا للجميع
جهات كثيرة، إعلامية وعلى مواقع التواصل الاجتماعي، تناقلت الأرقام ورأت فيها هدرا للإمكانيات البشرية والمادية للدولة.
إذا علمنا أن تأمين وظائف لهذا العدد من المهندسين وأيضا من الأطباء وخريجي المعاهد المهنية مهمة شبه مستحيلة على المدى القريب والمتوسط، حيث بلغت نسبة البطالة بين حاملي الشهادات العليا، والتي تشمل المهندسين، حوالي 23.7 في المئة خلال الثلاثي الثاني من سنة 2023، هل ننصح الحكومة التونسية بإقفال الجامعات، أو تقليل عدد المنتسبين إليها إلى النصف؟
هل أخطأت تونس عندما راهنت على التعليم، وهل أخطأ الزعيم التونسي الحبيب بورقيبة الذي كان يؤمن أن بناء الإنسان هو الأساس لبناء الدولة، وبادر إلى جعل التعليم مجانيا وإلزاميا للجميع بهدف مكافحة الفقر والجهل وتحقيق العدالة الاجتماعية؟
رهان تونس كان منذ البداية على التعليم الذي اعتبرته وسيلة لتطوير الاقتصاد من خلال إعداد كوادر مؤهلة ومدربة تستطيع تلبية احتياجات السوق والمساهمة في التنمية الاقتصادية. بورقيبة كان يدرك أن العالم يتغير بسرعة وأن تونس في حاجة إلى مواكبة هذه التغيرات من خلال تطوير نظام تعليمي حديث يمكّن الأجيال القادمة من مواجهة التحديات العالمية.
مقارنة بالتغييرات التي يشهدها العالم اليوم، العالم كان شبه ثابت عندما استلم بورقيبة مسؤولية الحكم في تونس. هناك تحولات عميقة تعصف بسوق العمل اليوم، حيث تحل الأتمتة والذكاء الاصطناعي محل العمالة اليدوية في الكثير من المجالات، بينما تفتح الأبواب أمام فرص جديدة في قطاعات التكنولوجيا.
نسبة كبيرة من الوظائف ستتغير بحلول عام 2030. وسيتم خلق 170 مليون وظيفة جديدة، مقابل إلغاء 92 مليون وظيفة نتيجة الأتمتة وسعي الشركات إلى إدماج الذكاء الاصطناعي في أعمالها. رغم الفرص الواعدة، تواجه الشركات تحديات كبيرة تتمثل بفجوة المهارات، وترى معظم الشركات في نقص المهارات أكبر عائق أمام التحول.
هذه التغيرات والمخاوف الناجمة عنها تثبت صحة الخيار التونسي الذي تبناه بورقيبة عندما راهن على التعليم. الاستثمار الحقيقي لأيّ دولة تريد أن تكون جزءا من الاقتصاد العالمي اليوم هو التعليم والتدريب المهني لسد حاجة السوق من الكفاءات والمهارات المطلوبة.
الخيار التونسي الذي تبناه بورقيبة ومن معه منذ اليوم الأول للاستقلال كان صحيحا على المستوى السياسي والاجتماعي، وعلى المستوى الاقتصادي أيضا. سياسيا واجتماعيا، برز ذلك بوضوح مع أحداث الربيع العربي وما تبعها من تطورات. ما كان للثورة التونسية أن توصف بثورة الياسمين، لولا المستوى التعليمي للمواطن التونسي. ولهذا الوصف أسبابه، خاصة إذا قارنا حجم العنف الذي رافق الأحداث في تونس مع دول أخرى جرت فيها ثورات مطالبة بالتغيير ذهب ضحيتها الآلاف.
اقتصاديا، واجهت تونس تحديات كبيرة قبل أحداث الربيع العربي وبعده، بدءا بالأزمة المالية العالمية عام 2008 وانتهاء بالحرب المستمرة في أوكرانيا وسنوات الجفاف. وخرجت نسبيا بأقل الأضرار. هنا أيضا كان دور التعليم حاضرا وبقوة.
الكفاءات التونسية في طليعة الكفاءات المطلوبة في سوق العمل، سواء كان ذلك في دول الخليج أو في الدول الأوروبية أو كندا. هذه الدول تراقب الوضع التعليمي في تونس عن قرب، وتعمل جاهدة على جذب الكفاءات التونسية
الحديث عن الخسائر التونسية بسبب هجرة الكفاءات دون ذكر الفوائد الناجمة عنها، كالمكتفي بالقول: لا تقربوا الصلاة.. دون أن يكمل.
ما تنفقه تونس على التعليم تبرره تحويلات التونسيين العاملين في الخارج.
المرصد الوطني التونسي للهجرة يقدر عدد التونسيين المغادرين سنويا ضمن الهجرة المنظمة، بأكثر من 35 ألفا. تمثل دول الاتحاد الأوروبي ودول الخليج وكندا وجهات رئيسية لهم.
هناك ما يقارب من 300 ألف تونسي يعملون في دول الخليج (السعودية والإمارات وقطر والكويت). ويتواجد عدد كبير من التونسيين في دول أوروبية في طليعتها فرنسا، حيث يُعتقد أن هناك حوالي 700 ألف تونسي. بالإضافة إلى ذلك، هناك جاليات أصغر في دول مثل إيطاليا، ألمانيا، وبلجيكا.
ولا يقتصر التواجد التونسي على أوروبا ودول الخليج، هم موجودون في العديد من الدول الأخرى، مثل كندا وأستراليا. ولكن لا توجد أرقام تقدر أعدادهم بدقة.
وأكاد أجزم أن الكفاءات التونسية في طليعة الكفاءات المطلوبة في سوق العمل، سواء كان ذلك في دول الخليج أو في الدول الأوروبية أو كندا. هذه الدول تراقب الوضع التعليمي في تونس عن قرب، وتعمل جاهدة على جذب الكفاءات التونسية لسد النقص في سوق العمل لديها.
ما كان للكفاءات التونسية أن تكون موضعا لهذه الثقة والترحاب في سوق العمل لولا سياسة التعليم المتبعة في تونس منذ اليوم الأول للاستقلال.
التونسيون العاملون في الخارج ليسوا كفاءات ضائعة كما يصور أصحاب “لا تقربوا الصلاة”. حجم التحويلات المالية التي يرسلونها يعتبر مصدرا مهما للعملة الصعبة في تونس، وعاملا رئيسيا في دعم الاقتصاد التونسي وتعزيز قيمة الدينار.
ذكرت منذ شهرين أن هجرة الكفاءات التونسية للعمل في الخارج ليست شرا مطلقا، فهي أفضل من أن تصطف هذه الكفاءات في طوابير الباحثين عن العمل. وأذهب الآن أبعد من ذلك لأقول إن تعطش العالم لكفاءات شابة تلبي احتياجات سوق العمل سيجعل من الاستثمار في التعليم أفضل استثمار يمكن أن تقوم به تونس مستقبلا.