هتلر والسينما.. حين تصنع السياسة الدكتاتورية أفلامها

أخذ أدولف هتلر زعيم ألمانيا النازية الأفلام على محمل الجد كأداة مهمة للدعاية السياسية، فكان يستهلك الأفلام بشراهة ودون حياد ويوجهها نحو تخليد الحاضر بصفته تاريخا، انطلاقا من إيمانه بأن السينما قادرة على تغيير العالم، لكنه لم يسمح للإعلام سوى بترويج صورة رسمية لحضوره عبر أفلام نازية مهيبة، رغم أنه كان محبا للسينما ومطلعا على كل الأفلام حتى تلك الممنوعة من العرض في بلاده.
افتتن أدولف هتلر بحب مشاهدة الأفلام وفهم قوة السينما كدعاية سياسية جماهيرية ومن ثم وسيلة لتعزيز أجندته النازية، فقام من خلال حضوره في سينما الرايخ الثالث بتمويل مشاريع الأفلام والنشرات الإخبارية والوثائقية، كما شارك في علاقات معقدة مع كتابها ونجومها ومخرجيها.
وهذا ما يحاول كشفه كتاب “هتلر والسينما.. هوية الفوهرر المجهولة”، للمؤرخ السينمائي بيل نيفن الذي يستكشف شغف هتلر بالفيلم وتأثيره بشكل كامل في صناعته، مستدعيا مجموعة واسعة من المصادر الأرشيفية التي تؤكد أن هتلر كان متعصبا للأفلام وشاهد كثيرا أفلاما متعددة بل وانتقدها من بينها أفلام المخرجين والممثلين اليهود.
ويوضح الكتاب أن ذوق الزعيم الألماني كان انتقائيا إلى حد ما، فالأفلام التي اختار مشاهدتها تكشف عن جانب من دكتاتوريته. كما شاهد أفلام فايمار، والكوميديا الأميركية والمسرحيات الموسيقية.
مستهلك غير محايد

كتاب يستكشف شغف هتلر بالفيلم وتأثيره بشكل كامل في صناعته، مستدعيا مجموعة واسعة من المصادر الأرشيفية
يرى بيفن في كتابه الذي ترجمه هيثم لمع وصدر عن دار المدى أن اهتمام هتلر بالفنون في كثير من نواحيها شكل موضوعا للتوثيق الشامل؛ إذ نجد مثلا الدراسات حول الكتب التي قرأها هتلر وحول اهتمامه بالهندسة المعمارية، وحول شغفه بمؤلفات فاغنر الأوبرالية، كما قرأنا عن تدخله في المعارض الفنية الألمانية الكبيرة بين العالمين 1937 و1944، ونعرف أيضا ذوقه الشخصي في الفنون معرفة وافية.
كذلك ظهرت أبحاث متخصصة في هندسة ديكورات الأماكن التي أقام فيها هتلر. غير أنه ليس هناك الكثير من المعلومات حول اهتمام هتلر بالأفلام السينمائية. ويمكن مثلا تكوين فكرة نموذجية عن ذلك الاهتمام عبر دراسة كلاسيكية وضعها فريدريك سبوتس عن موقف هتلر من الفنون بصورة عامة، حيث يعلمنا أنه بينما كان هتلر يستمتع بمشاهدة الأفلام لم يكن يهتم بالسينما كفن وأنه ترك لجوزيف غوبلز أمر استخدام السينما لأهداف الدعاية السياسية، وهي نقطة ظهرت بشكل غير مباشر في دراسات عديدة عن السينما في الرايخ الثالث.
وقد أفرد الباحثون حيزا مهما للدور الحاسم الذي أداه وزير الأفلام والدعاية غوبلز، ووزارة الدعاية السياسية بصورة عامة. وفي هذا الإطار نشرت نصوص مهمة عن صناعة الأفلام الأميركية وردود فعلها تجاه النازية، وكلها تعرج على اهتمام هتلر بالأفلام، غير أن الانطباع الذي يتكون لدى المرء من أغلب الكتب المهتمة بصناعة الأفلام في الرايخ الثالث هو أنه لا يوجد الكثير كي نتعلمه عبر التفحص عن قرب في تدخل هتلر. أما هذا الكتاب فيظهر بالعكس أنه يمكن في الواقع لهذا التمعن أن يعلمنا الكثير.
ويؤكد الكتاب أن هتلر كان أكثر من مستهلك محايد للأفلام السينمائية والتي كان يشاهدها ليلة بعد ليلة في مقره الجبلي، البرجهوف. وقام أكثر من مرة في خلال سنوات الرايخ الثالث بصورة مباشرة أو غير مباشرة بتشجيع إنتاج الأفلام النازية التي روجت لرؤاه وبرامجه السياسية.
لقد أدرك قدرة الأفلام على إقناع المشاهدين، وذكر في كتابه “كفاحي” “في وقت أقل بكثير، ودفعة واحدة برأيي، يفهم المشاهد تصويرا لفكرة ما قد يتطلب استيعابها مجهودا متعبا وطويلا من القراءة”.
وأكثر من غوبلز اعتبر هتلر أنه من الضروري أن يعطي مخرجو الأفلام الروائية الفرصة لإخراج أفلام وثائقية، إذ كان من المطلوب تصوير الأحداث الواقعية ليس بالقدر الصحيح من الدعاية السياسية وحسب، بل أيضا بالتقنيات الجمالية والدرامية التي لدى الأفلام الروائية كي تصل الرسالة السياسية بأكبر وقع ممكن.
ويقول بيفن “تدخل هتلر في عدة مناسبات لمنع بعض الأفلام، أو للسماح بعرضها إذا ما لاح ظل الرقابة لمنعها أو لطلب تغييرات فيها. كانت تدخلات متقطعة ولا شك، تحصل على العموم عندما كان غوبلز يستشير هتلر في الأفلام المثيرة للجدل، غير أن حصولها يعني أن القرار النهائي في مجال الأفلام، من الملاحم التاريخية إلى القصص العادية وليس الألمانية منها فقط. أما في العلن، فأقله في معظم الأوقات كان يريد لصورته أن ترتبط بأفلام تحمل رسائل سياسية جادة. كانت عروض الأفلام في جلساته الخاصة ترضي الناحية الكسولة لديه، ويغذي حضوره الأفلام أمام الناس صورة الأيديولوجي”.
ويوضح أن هناك دليلا على أن هتلر كان يشاهد أفلاما أخرجها يهود، أو شارك فيها ممثلون يهود، أو كلا الأمرين، على الأقل في مرحلة ما قبل الحرب. وفي أحيان، حرص هتلر على أن يحظى بعض الممثلين المتزوجين من يهوديات أو من ذوي خلفية يهودية، ممثلين كان يعجب بأدائهم، على حمايتهم إلى حد ما من تأثيرات معاداة النازية للسامية، حتى بينما كان يطلب من غوبلز العمل على إنتاج المزيد من الأفلام المعادية للسامية. وفيما هتلر يستمتع في جلساته الخاصة بمشاهدة الأفلام الأميركية، مثل “ذهب مع الريح” 1939، على الأغلب بعد منع عرض الأفلام الأميركية في صالات السينما الألمانية، كان يظهر في التجمعات العامة احتقارا واضحا للثقافة الأميركية. كانت الأفلام بالنسبة إلى هتلر ترفيها خفيفا من جهة، ومن جهة ثانية وسيلة لدعم الأيديولوجية النازية.
ويشير بيفن إلى أنه بين عام 1933 وشهر سبتمبر من العام 1939، استغرقت مشاهدة الأفلام حيزا لا يستهان به من وقت هتلر، كان يشاهد الأفلام في مستشارية الرايخ في برلين، ولكن أكثر الأحيان في منزله الخاص، البرجهوف، مقر إقامته في بافاريا.
هتلر كان يعتقد أن أقوى الأفلام السينمائية تأثيرا هي تلك التي تعتمد على الصورة أكثر من اعتمادها على الصوت
وهناك أدلة واضحة على أن هتلر كان ينوي أن يطلب من شركة تليفنكن أن تركب في سيارته وحدة عرض للأفلام. وقد وصف حارسه الشخصي وساعي بريده بأنه كان “مدمن أفلام”. كان يشاهد أفلام المغامرات والجرائم المشوقة والدراما والملاحم التاريخية، والعروض الموسيقية، والسينما الترفيهية والكوميديا والأفلام الرومانسية، وأفلام الغرب الأميركي، وأفلام الكرتون، أي أنه كان يشاهد أي شيء. وإن كان بعض أفلامه المفضلة يبدو خيارا منطقيا بالإمكان توقعه، فإن بعضها الآخر قد يفاجئنا.
وعبر مشاهدة الأفلام في جلساته الخاصة كان هتلر من ناحية يستسلم لطبيعة فيه مسترخية كسولة، ولكن أيضا ينمي ذائقته للسينما العالمية. طبعا كانت ردود فعله الأيديولوجية تحدد أحيانا خياراته، لكنه غالبا ما كان يسمح لنفسه بتقدير الأفلام كأفلام، وهذا هو هتلر الذي لم يكن الجمهور الألماني العريض يعرفه.
ويضيف بيفن “كان هتلر وغوبلز في أكثر الأحيان يشاهدان أفلاما ألمانية معاصرة، ولكن كذلك أفلاما أميركية. مثلا في شهر مارس 1934 شاهدا فيلم ‘الموكب’ للمخرج فرانك لويد (الولايات المتحدة 1933) وهو ملحمة تاريخية كبيرة تمتد على الفترة 1899 ـ 1933 وتتناول أحداثا مثل حرب البوير وغرق التيتانيك. ويبدو أن هتلر وغوبلز استمتعا به، إذ عادا وشاهداه في مايو 1934. وفي أبريل 1934 شاهدا فيلم ‘جبرائيل فوق البيت الأبيض’ 1933 للمخرج غريغوري لا كافا”.
ويتوقع المرء أن يعجب هتلر بفيلم عن حل الكونغرس وإقامة دكتاتورية ظاهرية في الولايات المتحدة. ويقول متخصص في الأفلام إن فيلم “جبرائيل فوق البيت الأبيض” كان أول الأفلام الكبيرة عن الفاشية. لكن غوبلز ينقل أن هتلر لم يعرف تماما كيف يحكم عليه؛ فقد وجده مبالغا في النظرية والحداثة. وربما تكون هذه إشارة إلى أن هتلر كان يعتقد أن أقوى الأفلام السينمائية تأثيرا هي تلك التي تعتمد على الصورة أكثر من اعتمادها على الصوت.
ويلفت إلى أنه كان معروفا عن هتلر نبذه الأفكار الباطنية والمبهمة من صفوف الاشتراكية، لكن هذا لم يمنعه من الإعجاب بفيلم “كلب آل باسكرفيل” أو الفيلم الذي أخرجه هانس ديبي سنة 1939 “راكب الحصان الأبيض” وهو فيلم آخر من محفوظات البرجهوف. من الواضح أن الطابع فوق الطبيعي والسوداوي في كلا الفيلمين كان العامل الذي جذب هتلر إليهما.
أداة للدعاية السياسية

يقول بيفن “تدلنا قوائم الأفلام المحفوظة في البرجهوف على ذوق هتلر السينمائي الذي، كما يظهر من الدليل، كان متوقعا ومفاجئا في آن واحد. تتوافق بعض الأفلام المدرجة تماما مع المعرفة العامة لأيديولوجية هتلر. في ديسمبر 1937 قدم غوبلز لهتلر هدية هي عبارة عن 32 فيلما ‘من السنوات الأربع الأخيرة’ من إنتاج السينما الألمانية والنمساوية. إذا كان هناك من يعرف جيدا ما يفضله هتلر من الأفلام فهو غوبلز، ولا شك في أنه تأكد من أن الأفلام التي أراد تقديمها إلى هتلر ستكون محط إعجابه”.
لقد أدرجت تلك العناوين في قائمة أفلام الأرشيف. ومنها “السيادة العليا” 1935 إخراج جيرهارد لامبريشت، عن محاولة إنجليزي صياغة معاهدة بين النمسا وإنجلترا وبولندا، ضد فرنسا نابوليون. وبالإمكان فهمه على أنه يقدم دعما تاريخيا لدبلوماسية هتلر بعد 1933، التي كانت تعمد إلى عزل فرنسا وتشكيل التحالفات. كذلك قدم غوبلز لهتلر نسخة من فيلم فيت هارلان “الحاكم” 1937 الذي يحتفي بصناعي استبدادي، ونسخة من دراما أستاذ المدرسة “الحالم” إخراج كارل فروهليش 1935، وينتهي “الحالم” بنداء للشباب كي يتسلحوا بالصلابة ويتفوقوا على أنفسهم استعدادا للمستقبل، رسالة نالت في ما بعد ثناء هتلر.
ويتابع بيفن “تحتوي القائمة الثانية من الأفلام المحفوظة في البرجهوف، ‘قائمة المخزون الثابت’ من عام 1935 عددا من الأفلام عن فريدريك العظيم، منها فيلم هانس شتاينهوف ‘الملك الكهل والشاب’ 1936 الذي أيضا كان على قائمة غوبلز. وابتداء من منتصف ثلاثينات القرن الماضي، كان بإمكان هتلر أن يعمد، في منزله، إلى عرض أفلام عن فريدريك كلما أحس بالحاجة إلى تعزيز تشبهه به. في مثل تلك اللحظات كان يبدو لهتلر بلا شك وكأن تلك الأفلام صنعت فقط لاستهلاكه الخاص، ومنحته ميزة حصرية للدخول إلى التاريخ. كما أن ‘قائمة المخزون الثابت’ تضمنت أفلاما نازية كلاسيكية مثل فيلم فرانز سايتز ‘أفلام الميليشيا النازية’ 1933 الذي تناول قتال الميليشيات النازية ضد الشيوعية، وفيلم هانس شتاينهوف ‘الأم والطفل’ 1934 الذي يركز على انتصار الروابط مع الأم”.
ويرى بيفن أن مخزون البرجهوف يشمل أيضا أفلاما تظهر وجه هتلر الأكثر استرخاء. عندما قدم له غوبلز هديته من الأفلام سنة 1937، أكملها باثنى عشر من أفلام “ميكي ماوس” إنتاج والت ديزني، وكتب غوبلز في مذكراته قائلا عن هتلر “إنه مسرور جدا وسعيد بهذا الكنز الذي آمل أن يفرحه دائما ويساعده على الاسترخاء”. كذلك ضم غوبلز إلى قائمته فيلم ويلي فورست “الحفلة التنكرية” 1934 وكان يعلم أن هتلر سيحبه، والفيلمان الصامتان الكلاسيكيان اللذان أخرجهما ف.و.مورناو “فاوست” 1926 و”تابو” 1931، وفيلم شبه وثائقي يدور في جزيرة بورا بورا في بحر الجنوب.
أما فيلم ليونتين ساغان من عام 1931 “فتيات في الزي الموحد” فهو المفاجأة الكبرى. هذا الفيلم الذي تدور أحداثه في مدرسة داخلية تسير بنظام صارم، تسببت تلميحاته المثلية السحاقية وانتقاده النظام التربوي البروسي في منعه في الرايخ الثالث، ولكن ليس في البرجهوف. كان هتلر يقدر الأفلام التي تدور حول فريدريك العظيم، ومع ذلك يمكن أن يعجب بفيلم “فتيات الزي الموحد” الذي بدا واضحا أن مديرة المدرسة الثقيلة الاستبدادية بعصاها العكاز، كان المقصود منها صورة نسائية عن فريدريك.
ومن الأفلام التي شاهدها هتلر ومنها الرومانسي والكوميدي والموسيقي والملحمي، والتي تطرق لها بيفن في الكتاب، أفلام “نجوم المنوعات” للمخرج جوزف فون باكي، و”سأعود بعد دقيقة” للمخرج بيتر بول براور، و”سيدات وراء العجلة” للمخرج بول مارتن، و”محتلو الازدهار” للمخرج فريتز كامبر، و”أحبك” للمخرج هربوت سيلبن، و”انعطافات نحو السعادة” للمخرج فريتز بيتر بوخ، و”نيران على الحدود” للمخرج ألويس ليبل، و”ليالي في الأندلس” للمخرج هربرت ميش، و”هللو جانين” للمخرج كارل بوز، وأفلام “انتصار في الغرب” و”انتصار الإرادة”، و”جامبيني الكبير”، و”الآنسة السويسرية”.
ويخلص بيفن إلى أن هتلر حرص على أن تكون الصورة الرسمية لما يشاهد من أفلام هي حضوره أفلاما نازية مهيبة. في المشهد العام أخذ هتلر الأفلام على محمل الجد كأداة مهمة للدعاية السياسية، إذ نسب إلى الأفلام والشرائط الإخبارية قدرة على الإقناع سواء أكانت تحتفي بالنازية أم تروج لمعاداة البولشفية، أم لتحسين النسل أم لمعاداة السامية أم للحملات العسكرية النازية؛ وقد قال لريفنشتال في العام 1940 إن بإمكان الأفلام أن تغير العالم.
لقد تخيل للأفلام قدرات تعمل حتى إلى ما بعد حاضرها. وقلما أعطى هتلر لموضوع الأفلام بعدا فلسفيا، لكن كان عندما ينظر يستنبط رؤى كبيرة. لقد كان ينظر إلى الحاضر كأنه التاريخ، والأفلام كتسجيلات عن وجوده تصمد أمام مرور الوقت. وقد صرح في الرابع من فبراير 1942 بأن على عاتق السينما الألمانية مهمة هائلة وهي تصوير تاريخ الأباطرة الألمان “لقد حكموا العالم 500 سنة”. كانت توقعاته من السينما والرسم والنحت بالقدر ذاته من البطولية، لكنه كان يريد من السينما تلك الرؤى التاريخية للقوة الإمبريالية.