هالة الفيصل ترى الفن حلما ملونا في فكرة الجسد

الكثير من الرسامين والفنانين استعمل الجسد محملا لأفكاره وهواجسه وتصوراته، فكان الجيد مثل المرآة التي يعلق عليها ما يعتمل في نفسه وما يتحرك من أفكاره، ولكن ذلك قد لا يمنح الجسد إلا دورا وظيفيا بسيطا، لا يدخل بنا إلى حقائقه، وإلى حركاته الحية، وهذا ما دفع الفنانة السورية هالة الفيصل إلى إعادة ترسيم حدود أكثر حيوية للجسد.
مناخات الفراغ وصراعات الواقع، بقايا التحولات وتفاصيل المرور من لحظة التجلي الأولى إلى التعبير عن المشاعر والانطلاق الفلسفي بها عبر البصر والبصيرة، تلك الرؤية الجادة والطامحة والشموخ المندفع كثيرا ما يُثير الأسئلة باختلافاتها العابرة لأدمغة السطحيين وعقول الطامحين وأذهان الحالمين، عن تجربة هالة الفيصل التشكيلية السورية المختلفة تمردا وإبداعا.
في كل ما تقدمه الفيصل في أعمالها الفنية بشمولية تفاصيلها الحسية ووعيها العاقل وجنون يدها التي تشتغل بحرية في تكوين بصيرة العمى المُنار باللون في ملامح شخوصها ويدها الأخرى التي تدفع بالرائي إلى اتساع الظلمة في الهواء، تستحيل يداها إلى جناحين تحلق بهما نحو النور.
الجسد اللوحة
هالة الفيصل الجسد الذي سبق الاسم والاسم الذي احتوى الفن بشمولية الثقافة وتنوع النهل من عوالم الإبداع المسكونة بالطبيعة بتمرد يكسر حواجز الواقع وتابوهات الضيق المحدودة لفلسفة الفكرة والوجود والتعبير عن الرفض والظلم بتفاصيل مختلفة غير متوقعة.
قد تبدو الشخوص في لوحاتها مُبهمة وقلقة لها حيرة البحث عن الذات، سر في بئر الوجود العميق المُوحي بالمجهول في تفاصيل مبنية على وقع الكوابيس، انعكاس بين نقيضين يلتقيان على تفاصيل المعنى وعلاماته.
تقول الذاكرة المحمولة على وجعها في توصيف اللغة التعبيرية وأسلوبها الأنثوي الطاغي على ملامح اليقين ما دلني أحد عليّ أعود إليّ إلى وطني إلى مساحتي الحرة أكثر شغفا وحرية لم تجرؤ عليها أيّ فنانة أخرى اعتلت جسدها، تحدت عائلتها ومنطقتها وشرقها المحافظ الذي خطته رفضا للحرب، اعتبرت أرضها الضعيفة المستضعفة انتماءها القدسي الذي تجاوزت عبره حدود المألوف منها ونحوها لتقول “لا”، لا للظلم والمهانة لا لتمزيق الشرق لا للتلاعب بالإنسان لا لتفكيك العراق بعد فلسطين لا لتمزيق سوريا لا لنبذ الإنسان الشرقي الملعون بأرضه المقدسة في وجود تختلف فيه القيم والمعايير وتتغير فيه الملامح وتزداد فيه الفوضى.
لا تخلو هذه المشهدية التي خاضتها في الثمانينات مع المخرج سمير ذكري من خيال واقعي واستشراف حقيقي في قصة سبق حاضرها الماضي، حملته الفيصل وهي تخوض صراعاتها مع الجمود مع العقليات مع الفن وما تطمح إليه لتطبع بصمتها الحائرة التي لا تخلو من الأمل، تبتعد بها إلى مراتب القلقين بالإنسانية والمتعبين بفرح في انعكاسها بين نقيضين يلتقيان على أنقاض المعنى وعلاماته، العطاء السخي والتلقي النبيل، وقد كان التعثر بمجموعة لوحاتها المتنوعة التي اقتناها المتحف اللبناني الأميركي الفن من أجل الإنسانية Farhat Art Museum، يحمل بعضا من تفاصيل الغوص في ملامحها لدرجة اللاتفريق بين شخوص نسائها وبينها وكل ما يحيط بها فنا وكتابة، خربشات وهمسات، وشوشات تعكس وطنها وتنعكس على هوسها الجمالي، طموحها واندفاعها وراء أحلامها التي تتصادم مع الكوابيس وتنجو في رحلة عنيدة.
توقفك الفنانة أمام حيرتك لأن ما تراه قد لا تتسع له الكلمات، وما تريد أن تعبّر عنه لا تعبّر به اللغة وحدها، بل الحواس التي تندفع بها نحو حرية الوجود ومعانيه، أن يكون لك موقف يعني أن يكون لك صفة إنسان بتجليات الأرض التي انطلقت منها بهواجس وحكايات، بحرب وتهجير، بقمع ومنع، بظروف معيشية تبنتها كقضايا حقيقية فيها الأمل في التغيير، تحملتها منذ طفولتها في عائلتها التي ساعدت على توجيه أفكارها السياسية وإثراء أفكارها في اجتماعاتها الحوارية وتفاصيلها التفكيكية لأيديولوجيا تطوف حول الإنسان وانعتاقه ورغباته الحرة في السلام والأمان.
التشهير بالخراب
لا تكف هالة الفيصل عن تكوين بلاغتها البصرية والركض خلفها بحيرة حسية وتفاعل قلق مع الوجود تتعايش معه بحكمة في تفاصيلها الأنثوية، تكلم بها نساءها اللاتي تسرد قصصهن وعوالمهن وحكاياتهن المعلنة والسرية، لتمنح التكوين إيقاعا إنسانيا حقيقي الحضور مع تفاصيلها ووقعها مهما اشتد الألم بها، وهي ترى اختلافات العقليات وصراع الأرض في منطقتها وتماوجات الوجود واللاموجود بين تفاصيل معتمة، مهما بالغت السيطرة في درجات عنفوانها الحر بالقيود.
رؤية مغامرة هو الفن، حلم ملون تراه الفيصل في فكرة الجسد بكل ما يتحمله من تفاصيل رمزية العري، ذلك المحمل العاري الذي تقول إنها لا تقدمه لغايات الإثارة، بل للتعبير لسرد الفكرة لتحرير الذات من مصيرها المتحكم فيه والذي يقوده إلى المجهول رغم عتمة الظلال وتفاصيل الوجوم المتفرق على الملامح، تعبيرية الأسلوب عندها تحمل حسياتها المفرطة، تقول “العري هو حقيقة الإنسان فلماذا نخجل من أنفسنا، كل ما أفعله بالفن هو سرد الروح، تحريض العقل.”
تبدو التفاصيل بين اللون والشخوص مثل حركة فراغية ممتلئة تحاول أن تتصادم وتتشاكس وتنبعث وهي تقول كل شيء في حدود اللاشيء، حتى لا يلتهمها العبث تصمد، وصمودها انبعاث رؤية تعيد تفكيكها مرارا وهي تجرب الخامة واللون في تماس حي وتجريب يخترق الجمود، حتى لا يستحيل الجسد المثبت على مرايا الفن مثل زجاج ينعكس داخله الخراب بكوابيسه، فقد اختارت الطريق الأصعب لتثبت ذاتها وتفجر صرخاتها وتنتصر لنسائها لأنها بكل الجرأة التي تُرى في ذلك الجسد العاري لا تقدم إلا رؤيتها ودورها البصري في التشهير بالخراب وفضح الفوضى وكشفها فاللون يضاعف المعنى والتماسك يبني الموقف.