هاشم شفيق يطلق أعماله الشعرية الكاملة مؤكدا: الشعر علّمني فنّ الحياة

الشعر الرفيق الوحيد للشاعر في الحياة بكل تجلياتها وأشكالها ومذاهبها.
الجمعة 2024/02/02
أخلصت للشعر ولم أحبّ أحدا سواه

الشعر هو الرفيق الأوحد في الحل والترحال، وهو البوصلة التي يتحرك في اتجاهها الشاعر العراقي هاشم شفيق، وهو التجربة الحياتية العميقة والحكاية التي قرر أن يسردها في مجلدين يجمعان قصائده كاملة أصدره في معرض القاهرة للكتاب لهذا العام.

تحفل تجربة الشاعر العراقي هاشم شفيق بغزارة وثراء رؤاها وتمرد مراحلها وقدرتها على تجاوز ذاتها، الأمر الذي مكنها من عدم الوقوع في التكرار، وقد تشكلت عبر ست عشرة مجموعة شعرية على مدار ما يقارب نصف قرن، حيث انطلقت عام 1978 بديوان “قصائد أليفة” ولا تزال تواصل عطاءها.

وجنبا إلى جنب التجربة الشعرية قدم هاشم شفيق المولود عام 1950، الذي يعد واحدا من أبرز شعراء السبعينات من القرن الماضي في العراق، أعمالا روائية وترجمات لمختارات شعرية لعدد من كبار الشعراء العالميين، فضلا عن العديد من القراءات النقدية.

ولد شفيق في بغداد ودرس فيها. غادر العراق في عام 1978. عمل مذيعًا في إذاعة المقاومة الفلسطينية في بيروت. ثم عمل في الصحافة العربية لسنوات طويلة. وهو يقيم في العاصمة البريطانية لندن بعد ترحال طويل في دول المنافي.

واحتفل شفيق في معرض القاهرة الدولي للكتاب بدورته الخامسة والخمسين بصدور مجلدين من أعماله الشعرية الكاملة، عن مؤسسة أروقة، حمل أولهما مجموعاته: قصائد أليفة، أقمار منزلية، شموس مختلفة، نوافذنا.. نوافذهم، أوراق لنشيد ضائع، طيف من خزف، صباح الخير… بريطانيا، وحمل الثاني مجموعات: إعادة نظر، ورد الحناء، غزل عربي، مئة قصيدة وقصيدة، مشاهد صامتة.

f

يقدم شفيق لأعماله قائلا “منذ تفتّحتْ عيناي على الحياة ورأيتُ الدنيا، رأيت الشعر، لم أرَ أحدًا سواه، رأيته في قطرات الحليب التي كانت تنزل في فمي من الأم، رأيته في قبلات رعاية الأب، وحنوّه وشقائه، وسيره نحو النهايات، رأيته في عيون الأطفال والأمهات والنساء المتلفّعات بالسواد، رأيته في عيون البنات العاشقات، وفي قلوب المُحبّين، رأيته يسير معي في حي فقير، ويداري شقائي وفاقتي، ويعدني بأنّ الأحوال لا بدّ وأن تتغيّر، ولا بدّ وأن أشبّ وأقوى، لأشق الطريق، مهما كان صعبًا”.

ويتابع “الشعر قد يساعد ويخفف العبء، ولذلك سرت معه، كحبيب دائمي، وأنا صبي في الرابعة عشرة، كنت أختلي به في الغرف المتقشّفة، والسطوح المشمسة، والزوايا الظليلة، لكي أمنح منه، دون كلل، ودون ملل، فهو الشيء الوحيد الذي ظللتُ معه طوال حياتي ولم أفترق عنه، أو أملّه كشريك لي، أو كرفيق ورديف ونظير لي في حياتي أبدًا، بل كلما تقدّمتُ في السن كلما زاد تعلقي به أكثر، لقد أخلصتُ له، ولم أحب أحدًا سواه، بل سرت معه ومشيت، فخاطرنا معًا، وتجاوزنا الصعاب، عبرنا أسلاكًا وأسوارًا وحدودًا، واخترقنا الممنوع، وتمرّدنا على كلّ وصية ومسلك وسبيل، لم نرغب السير فيه، فتعدّيناه، إلى ما نبتغي ونريد ونُحبّ كلانا، لقد جعنا وبردنا وتشرّدنا، وسهرنا ونمنا معًا في سرير واحد، وأكلنا من صحن واحد، وشربنا من كأس واحدة، ولم نملّ من بعضنا، كان أكبر من اقتران وزواج وحب عابر أو مؤقت، كان هو العشق ذاته، والوجدان ذاته، والمشاعر ذاتها، وهو كان كل الأحاسيس والشهوات واللذات”.

ويضيف “كان الشعر في الحقيقة حبًا كبيرًا وعظيمًا، فاق كل تصوّر، فهو تارة يتشبه بحبيبة، بابنة، بابن، بزوجة، بعاشقة، بأمٍّ وبأبٍ وجَدٍّ، فهو كل هذه التسميات، وهو أكبر من أن يوصف أحيانًا، ولهذا ذهبت معه إلى آخر الأشواط، سافرنا وتشرّدنا وتسكّعنا، وجلنا في كل مكان، هاجرنا وطوردنا ومُنعنا، ولكننا لم نتخلّ عن بعضنا، كون الشعر بالنسبة إلى صاحبه هو القدر نفسه، لا بل هو الحياة ذاتها، بكل تجلياتها ومذاهبها وأشكالها وطبيعتها، فهو علّمني فنّ الحياة، علّمني كيف أُحبّ الحب، كيف أُحب الطبيعة والبشر، وكيف أميّز بين الشر والخير، بين الموبقات والحسنات، بين التافه والنافع، بين الحجر والخبز”.

الشعر مذهبي وديني وإلهي الخاص، من هنا كنت أنحاز للإنسانية، للصحيح والجميل، ومنه هنا كنت مع الله

ويكمل “الشعر ولا أريد أن أكفّر نفسي، هو مذهبي وديني وإلهي الخاص، من هنا كنت أنحاز للإنسانية، للصحيح والجميل والحسّي، ومنه هنا كنت مع الله، وأرأف أحيانًا بالشيطان، مهما تشيطن معي، فالشعر هو أكثر دهاء وحنكة منه، وأكثر لمعانًا من الأوصياء، ومن يدّعون احتكار الحقائق، ومن يتسيّدون على البشرية، دون مشورة منهم، ومن يستغلون الحياة ويجرحونها، ومن يقتلون تحت اليافطات، ويسجنون تحت أسباب واهية، وغير منطقية وظالمة، ومن يتصوّرون أنهم خُلقوا ليكونوا أسيادًا على الآخرين، لاعقين الوهم والخراقة ومحولينها إلى تراب”.

ويضيف شفيق “لهذه الأسباب كلها دخلني الشعر ودخلته، لأكون هو ويكون أنا، في بيت شعري لي، من إحدى قصائدي أقول ‘أنا الشعر’ ليس تبجّحًا، ولا مراءاة، أو نرجسية، بل إني مجرد عاشق له، وهناك مثلي مئات من الشعراء، لهم التصوّرات ذاتها، والمفاهيم ذاتها، وحتى النظريات ذاتها، وأقصد الأنسقة، والرؤى والتشكيل والأساليب والمعاني، هي تطاردهم ويطاردونها، في كلّ زمان ومكان، وفي كل بلدة وقرية ومعمورة من هذا العالم. هناك شعراء، يدارون الحياة ويحنون عليها، يشفون جروحها، حادبين على مسارها، لكي يستمرّ الشعر مع النبض والنفَس والشهقة للإنسان، مع النظرة الأولى التي تقع على الشجرة، على نجمة في السماء، على شامة لفتاة، وخلخال لسيدة، له رنّة الشعر وإيقاعه على الأرض، حين يدقّ ويسير ويُصدر الخلخلة، الشعر خلخلة للوجود، وللكون، ولا أريد أن أبالغ لأقول إنه الكون ذاته”.

ويؤكد “لأنني محب لهذا الفن، فلقد حباني الله بنتاج غزير منه، لا بل راح يفيض عليّ، وليس ثمة من إيقاف لهذا الينبوع، فهو خير من الله، ولهذا قررت أن أشرك ‘مؤسسة أروقة للدراسات والنشر’ في هذا الفيض الجمالي، فهي خير من يتفهم هذا الأمر، فمؤسسها شاعر قدير، وله علم بكل هذه المزايا، وله دراية قصوى بهذا الفن العظيم، وله مساعدون، وعاملون يقدّرون الإبداع وأهله. لذا قررت أن أصدّر كل شعري، عن مؤسسة أروقة، بمجلدات خفيفة، قابلة للاقتناء، لغرض القراءة أو الدراسة والبحث والتدوين”.

ويقول شفيق “آمل في النهاية أن يتحقق حلمي هذا، ويصدر كل شعري، وهو مجهود العمر كله، أي حصاد حياة كاملة. إنه مجهود نصف قرن بالتمام والكمال، نصف قرن من الانغماس بالشعر، كتابة وقراءة ونقدًا وترجمة، خمسون عامًا من كتابة الشعر، دون توقف لسبب معيّن، رغم أني عشت حياة غير مستقرة وصعبة، ما خلا سنواتي الأخيرة في العاصمة البريطانية لندن، حيث ذقت نوعًا من الهدوء، ولكن ثمة توق قلق يطاردني هو العراق، ومواقع الطفولة حيث الهواء الأول”.

نماذج من قصائد هاشم شفيق

طيران

خلعتْ أثوابَ الأشجارِ

وأدلتْ ساقيها في الطستِ الذهبي الممتلئ

بماءٍ شذريٍّ – القدمُ محنّاةٌ

الأخرى فيها وشمٌ كحليٌّ وطواطمُ قرويَّة

اغتسلت بضياءٍ شفافٍ

غسلتْ ذاكرةً صدئة

فركتْ تاريخًا مغبرًا

وخيالًا معطوبًا

دلكتْ ركبتها بالأعشابِ

وساعدها بالريشِ

وحين اكتملتْ

طارتْ وسط سماءٍ مرئيَّة.

***

المغزل

في يدها تضطربُ الريحُ،

لكَمْ جلستْ في باب الحوش،

لتغزلَ أيام طفولتها فوق العتباتِ

وبين نساءِ الجيرانْ.

كم هَدَرَتْ من وقتٍ؟

وهي تفكِّرُ في فتنتها المغزولةِ في خيطٍ

يتعدّى الأفق الشاحبَ،

كم كانت ملأى بالنمش القرويِّ

ومثقلةً بالكحلِ

بزينتها البريَةِ

بسوِاكِ الأسنانِ

وبالديرمِ،

بلبان المَسْتَكِ؟

كم كانت ثكلى بالخيطانِ

بصوف المرعى المتكدِّس في الحضنِ؟

يدي حول الطرفِ الآخرِ

من خيطِ نهايتها

والمغزلُ ما زال يدورْ!

***

وهم

خذوني إلى بابل المستريحةِ

تحت سماء الرمادِ

خذوني لأسواقها والدكاكينِ

ألثُمُ ذا المبتغى

وأُقبّل ذاك الجدارا

أمشط بالمسكِ

شعر القرى

وأُهيلُ على الشاطئ الخزفيِّ

دمي جلّنارا

لعلِّي أنام على السّورِ

مثل اليمامِ

وأبني عليها

من الوهمِ دارا.

***

النحّات

بيدي

أعتصرُ الزمنَ المتكلّسَ،

علّي أعثرُ فيه على ماءٍ

منتثرٍ في اللغزْ.

إنّي نحّاتُ الميقاتِ

فسوف أُشذَّبُ هذا الضوءَ

لكي أُبرزَ ذاك الرمزْ،

علّي أكتشفَ البعدَ الخامسَ

في النيرانِ،

وأصداءَ الصوتِ الغامضِ في النايِ

وعلَّ البحرَ

يجيءُ إلى بيتي

محمولاً في رائحة اللوزْ.

 

14