"هابيل سانتشيث.. قصة شغف" رواية عن آثار الحسد المدمرة

تتشابك عواطف الناس تجاه بعضهم البعض، يظهر جزء منها للعيان، ويختفي جزء آخر. كثيرا ما يضمر الناس عواطفهم تجاه بعضهم البعض، ويعلنون عكس ما يضمرونه، ورواية “هابيل سانتشيث.. قصة شغف” مثال على ذلك. إنها رواية أدبية لقامة فكرية وأدبية كبرى تجيب عما يمكن أن يفعله إنسان نتيجة اشتعال قلبه بعاطفة الحسد.
تتخذ رواية “هابيل سانتشيث – قصة شغف” للكاتب الإسباني ميغيل دي أونامونو، من قصة قابيل وهابيل خلفية تاريخية لها، وتحكي عن الحسد وما يمكن أن يولده في النفس البشرية. بطلاها تجسيد معاصر لقابيل وهابيل الحقيقيين بشكل أو بآخر.
صدرت الرواية عن دار ميتافيرس برس للنشر والطباعة والتوزيع في الإمارات ونقلها إلى العربية المترجم أكرم سعيد وهي الترجمة الأولى للرواية إلى العربية. ونتابع في فصولها قصة رجلين عرفا بعضهما البعض منذ سنوات الطفولة الأولى هما: خواكين مونيغرو وهابيل سانتشيث. كان خواكين مجدا في دروسه ويهدف لتحقيق الجوائز الدراسية، واستطاع بمثابرته أن يحصل على ذلك، واتجه بعدها لدراسة الطب وصار طبيبا ناجحا. بينما كان هابيل أقل ميلا للدراسة وأقل التزاما بالعلم، بل كان يهرب من صفه.
جدية خواكين وصلابته في طرح الآراء جعلتاه بعيدا عن الناس، على عكس هابيل الذي كان مرحا شغوفا بالحياة ومحبا للرسم، وكثيرا ما يعمد إلى رسم لوحات كاريكاتورية لبعض المحيطين به موجدا مجالا للسرور، يدرس هابيل الفن ويصبح رساما شهيرا يقيم معارض كثيرة تحضرها العامة والخاصة.
ما يتركه الكره
لا ينظر خواكين لمنزلته بين الناس بارتياح في ظل وجود هابيل، ويضمر له كثيرا من الحسد، كونه يحظى باهتمام أكبر وشهرة أوسع، وينمو الحسد في داخله مع الأيام، يحب خواكين ابنة عمه هيلينا، ويعرفها على هابيل، الذي يبادر إلى رسمها فتقبل فورا، وتصبح اللوحة ذات شهرة كبيرة في المدينة، ولا تلبث أن تتطور علاقة هابيل وهيلينا من صداقة إلى حب ومن ثم إلى زواج، الأمر الذي يسَعر نار الحسد في قلب خواكين المحب الخاسر، والذي يهزم في جولة جديدة أمام خصمه هابيل.
كتب خواكين عند زواج هابيل وهيلينا “شعرت كما أن روحي قد تجمدت والجليد يضغط على قلبي، كان ذلك كلهب من الجليد ويصعب عليّ التنفس، لقد اكتسب كرهي لهيلينا صلابة وقساوة وبشكل خاص لهابيل لأنه في الحقيقة كان كرها باردا تمتد جذوره في النفس بأكملها”. وقام بإهدائهما مسدسين مذهبين. ويتزوج خواكين من فتاة يعرفها ويؤسس أسرة.
تنجب هيلينا ابنها من هابيل فيصاب خواكين بنوبة جنون ويتمنى لو أنه قتل خلسة هذا الرضيع. كتب خواكين “عند الولادة شعرت أنني أتأجج كرها، لقد أرسل في طلبي للعناية بهيلينا أثناء الولادة، ولكني اعتذرت لأنني لا أقدم الرعاية في عمليات الولادة، وهذا صحيح، ولأني لست قادرا على البقاء بدم بارد وبالأحرى بدم متجمد أمام ابنة عمي في حال تعرضها للخطر، ولكن الشيطان أغواني بشدة للذهاب بمعاينتها وخنق الرضيع خلسة، تغلبت على تلك الفكرة المثيرة للاشمئزاز”.
◙ جدية خواكين وصلابته في طرح الآراء جعلتاه بعيدا عن الناس، على عكس هابيل الذي كان مرحا شغوفا بالحياة ومحبا للرسم
وفي مكاشفة مع نفسه يكتب “لماذا كنت حاسدا وسيئا جدا؟ ما الذي فعلته لأكون هكذا؟ وأي حليب قد رضعت؟ هل كان سحرا مشروبا للكره؟ هل كان سحرا مشروبا من الدم؟ ولماذا ولدت في أرض الكراهية؟… أكره الجميع كما تكره نفسك لأني قد عشت أكره نفسي لأننا هنا جميعا نعيش كارهين لبعضنا البعض”. وتتابع مسارات حياتهما بالتقاطع حتى تصل إلى مراحل خطرة تخص حياة حفيد مشترك بينهما وتنتهي بجريمة غير معلنة وسط أزمة ضمير يعيشها مرتكبها.
تنجب زوجته بنتا بعد فترة، ويربيها بشكل متفان. يتجه ابن هابيل لدراسة الطب ويصبح طالبا لخواكين الذي يجد أن الفرصة ملائمة للانتقام من هابيل وهيلينا من خلال تزويج ابنهما من ابنته والاستحواذ عليه، وتبدأ سلسلة من الأحداث العنيفة نفسيا وحياتيا حتى تصل إلى جريمة غير معلنة تنهي مسارات صراعات حياتية جمعت حياة الأسرتين وعلى امتداد أجيال. وتقدم الرواية عوالم نفسية عميقة عما يمكن أن يقوم به الإنسان عندما يكون مشوها نفسيا، وفي توجه نحو تقديم عالم السيكولوجيا والهندسة النفسية والاجتماعية للإنسان في أي زمان ومكان.
تكرس دار ميتافيرس برس التوجه بهذا الإصدار لهذه الرواية التي نشرت للمرة الأولى عام 1917 في إسبانيا وهي التي كتبها مؤلفها في أشد الأزمنة مرارة التي عاش فيها. لم تنل نصيبا جيدا من الشهرة والانتشار أولا، لكنها ترجمت إلى عدة لغات أوروبية واشتهرت فيها، فعادت للواجهة مجددا واشتهرت في إسبانيا وكل أنحاء أوروبا. كتب ميغيل الرواية على شكل رسائل أو اعترافات وجهها لابنته بيّن من خلالها ما كان يتولد في قلبه من مشاعر تجاه شخوص بيئته وخاصة هابيل.
حجب جائزة نوبل
كان عام 1935 حاسما لنيل ميغيل دي أونامونو جائزة نوبل في الآداب، حيث رشح لها من قبل العديد من الجهات الأكاديمية والفكرية في إسبانيا وأوروبا، وكان حينها رئيسا لجامعة سلاميكا، لكن النتيجة كانت حجب جائزة نوبل للآداب حينها ولم تمنح له. ولم تفصح هيئة الجائزة عن السبب في حجبها عنه، لكن وثائق كشفت بعد سنوات بينت أن دولة ألمانيا، في زمن تمدد النازية، هي من عارض ذلك احتجاجا منها على عدائه لها، وقد بينت وثيقة رسمية للخارجية الألمانية ذلك “ألمانيا يجب أن ترفض دعم طلب أونامونو للحصول على جائزة نوبل لأسباب وطنية وسياسية ثقافية، فهو المتحدث الروحي ضد ألمانيا في الأوساط الفكرية الإسبانية”.
ينتمي ميغيل دي أونامونو (1864 – 1936) إلى مرحلة سياسية وفكرية عامرة بالأحداث في أوروبا، عانت فيها إسبانيا من تراجع كبير أمام دول ناشئة كبيرة، أهمها الولايات المتحدة، وباتت بعد خسائرها لكل مستعمراتها في العالم على شفير حرب أهلية بين القوميين وتيارات يسارية. درس الآداب وصار أستاذا جامعيا ثم رئيسا لجامعة سلاميكا، نفي إلى فرنسا في عهد الجنرال ريفيرا ولم يعد إلا بعد سقوط النظام العسكري، أيد الجنرال فرانكو في مستهل حركته، لكنه تراجع عن دعمه وعارضه لما قام به من تنكيل وقتل بحق مناهضيه. وكاد يعدم في عهده بعد أن طلب ذلك أحد أعوان فرانكو نتيجة مساجلة كلامية في حفل خطابي عام، قال فيه جملته الشهيرة: “قد تنتصرون لكنكم لن تكونوا مقنعين”.
لكن فرانكو رفض الفكرة وأمر بعزله في إقامة جبرية، مات بعدها بثلاثة أشهر. ألف أونامونو في الفلسفة والأدب والمقالات والمسرح والشعر منها: رواية “السلام في الحرب” و”الخالة تولا” و”الشعور المأساوي بالحياة” و”الضباب”، وأصدر كتابا ضمنه مجموعة مقالات سماه “الطهارة”، كتب فيه فكرة صارت شعارا سياسيا في وطنه هي “إسبانيا تؤلمني”، كما قدم كتاب دون كيشوت وسانشو عن ثربانتس.