"نوم عميق".. فيلم سوري يُلامس الروح ويُطهّرها من أدران الواقع المأزوم

مخرج سينمائي متقاعد أضناه الفراغ فيختار الموت بديلا عن أحلامه.
الجمعة 2021/12/31
الزوج والكاهن في حضرة جلال الموت

تحفل الأفلام السينمائية بالكثير من الحكايات التي تقدّم مواجع إنسانية لجمهورها العريض، وكثيرا ما يتمسّك المشاهدون بهذه الأفلام كونها تعكس آلامهم وتلقي الضوء على أحلامهم التي يتوقون إلى تحقيقها. وفيلم “نوم عميق” محاولة سينمائية لمخرج سينمائي سوري شاب، يتقاطع مع حالات الألم ويقدّمها من منظور مختلف يجمع فيه الاجتماعي بالديني بالإنساني بطريقة خلاّقة.

دمشق - في أتون الحياة والألم يبدو الخلاص طريقا ملحا في الوصول إلى النجاة، وفي تشكيل سينمائي محكم يقدّم السينمائي السوري الشاب خالد عثمان فيلما روائيا قصيرا يحمل تكوينات تلقي الضوء على مكامن الألم لدى مجموعة من الناس أنهكتهم الحرب وجعلت مستقبلهم في مهب القلق.

“نوم عميق” فيلم سينمائي يذهب بعيدا وعميقا في قراءة الواقع السوري الحاضر المأزوم، ويقوم على تشخيصه من زاوية تحمل وجهات نظر جديدة، فعلى الرغم من كون موضوع الفيلم اجتماعيا بحتا، إلا أنه يقارب موضوعات سياسية بالغة الحساسية تتعلق بمطامع دول وكيانات كبرى وأساليبها في تنفيذ مخططات ذات تأثيرات على المجتمع السوري بتركيبته الاجتماعية وطيفه الغني والمتشعّب.

الحدث في الفيلم يكمن نظريا على مساحة بيت صغير لأسرة تسكن في مدينة دمشق، وكحال غيرها من الأسر تعاني من عواقب حرب ضروس تركت أثقالها الروحية والمادية على الجميع، فتبدو تحت ضربات القدر في عين العاصفة. ويتداخل الزمن في الفيلم في انزياحات متتالية، فتغدو الصورة البانورامية فيه شديدة التميّز والخصوصية.

رحيل حقيقي

خالد عثمان: الفيلم يهتم بإبراز التفاصيل التي تترك أثرا إيجابيا في المتلقي

راغب (عباس النوري) مخرج سينمائي متقاعد، لم يبق من تاريخه الفني إلاّ وميض من بعض الذكريات والهواجس التي تنتابه عن مسار حياته المهنية وقناعاته ببعض الجوائز التي تحصل عليها. وهو يمثل مزاج الماضي الذي يبحث عن مستقبل يحقّق له بعضا من الأمل الجديد.

ونتيجة لبعده عن العمل في زمنه المعاصر والفراغ الروحي الذي يعاني منه، يعيش في فوضى حياتية ترهقها مناوشات يومية تافهة مع زوجته عودة (وفاء موصلي) التي تعترض على معظم تصرفاته، كما يقوم هو بالشيء ذاته.

يبدو راغب السينمائي منهكا من الحياة الواقعية التي يعيشها، وكأنه ميت روحيا، بعد توقفه عن العمل وتوقف إبداعاته، إلى جانب سفر ابنه الوحيد جابر (همام رضا) خارج الوطن.

يضعنا الفيلم بصرامة أمام ازدواجية مؤلمة يعيشها راغب، تتعلق بموضوعة السفر عن الوطن الذي يرفضه والبقاء فيه الذي يوجعه. فهو في الوطن منته، ماض بلا مستقبل، لكنه يعرف على الأقل ذاته، وفي الغربة سيخسر حتى هذه الذات.

فيقول لزوجته في حوار صاخب “كم من الوقت سيلزمني هناك حتى أعرف نفسي”. هذا التيه يدفعه بجدية نحو تلمس موته ووضع حد لنهاية يراها محتومة،  فيتواصل مع الحانوتي ويبدأ باختيار الملابس والتابوت الذي سيخرج به من الحياة، ويسيران قدما في تحقيق تلك الحاجة، بينما تغالب الزوجة حالتها الصحية الصعبة وتتمسّك بتفاصيل الحياة اليومية، خاصة مع ابنها المسافر وحفيدها الصغير.

تظهر في الفيلم ثيمة الرحيل بما تحمله من أوجاع وآمال في بلد يحوطه الدمار والخراب والقلق، وصولا إلى الخلاص الذي هو أمنية دفينة في أرواحهم. فراغب يمثل الماضي وزوجته تمثل الحاضر، وهنا يبرز السؤال الصاعق: ماذا عن المستقبل؟

كلاهما خسر بسبب الظروف ابنه الوحيد الذي سافر إلى كندا وتزوّج من أجنبية، وحصل على الجنسية وصار له ولد، وهو الذي يشكّل لراغب مستقبل أحلامه، لذلك يبدو مصرا على أن يكون مفتاح الغرفة الخاصة به التي تحتوي مقتنيات وذكريات حياته الفنية مخصّصا له.

الفيلم يعزف على ثيمة الرحيل بما تحمله من أوجاع في بلد يحوطه الدمار، وصولا إلى الخلاص وإن موتا

فالزوجة تسمي غرفة السينمائي السابق “غرفة الكراكيب”، بينما تمثل الغرفة له مكمن الإبداع وكنز الغد. يقول الجد للابن عبر اتصال هاتفي مرئي “هذه المفاتيح ليست لك، ولا لأمك بل هي للحفيد الصغير”. إنها انتكاسة أحلام الحاضر ونظرة تفاؤل للغد الذي ربما يحمل المزيد من الأحلام الجميلة.

ورغم كل تفاصيل الحياة المؤلمة ما تزال الأسرة تعيش واقعها اليومي بين الأمل والألم بتقاطعات دينية كنسية من الكاهن الذي يحاول قدر المستطاع ومن خلال سلطته الدينية أن يقوم بفعل اجتماعي يخفّف عن تلك الأسرة بعضا من مواجعها. في الفيلم لغة سينمائية هادئة ورصينة، شكّلت بوجود قامات فنية كبيرة مثل عباس النوري وفايز قزق ووفاء موصلي حالة فنية تحمل معنى الجدية والمسؤولية لفيلم سينمائي قدّمه مخرج شاب يبحث عن فكر سينمائي جديد يمثّل طيفا من الطاقات السينمائية السورية الشابة التي يعوّل عليها لخلق حالة سينمائية عصرية تحمل معالم وجودها الخاصة.

في انعطافة مباغتة في سيرورة الحدث السينمائي، تخالف ما كان قد أوحى به الفيلم من حيث موت راغب الذي بدأ فعلا بالتواصل مع الحانوتي تحضيرا لذلك، يذهب الفيلم بنا إلى مفاجأة كبرى وهي وفاة الزوجة التي كانت تتشبّث بالكثير من تفاصيل الحياة، فترحل بشكل هادئ وسط حزن الزوج عليها.

تموت الأم فعليا وتنتقل إلى العالم الآخر، ويبقى هو الميت الحي الذي يعيش حالة موت نفسي في حطام حياته. وواضح أن موضوعة الموت وجدت في الفيلم تصريحا وتعريضا على التوازي. فمكياج الأم وتكوين وجهها يومئ بأن صاحبة هذا الوجه ميتة، فهو شاحب ضعيف وكئيب. وهي وإن كانت مازالت تحلم لكن خلاصها بعيد وهي أقرب للميت منه للحي.

والزوج يبحث عن موت فعلي بعد وصوله لحالة الموت النفسي، وبدأ بالتجهز له، لكن الزوجة هي من ترحل وتتركه في عزلة أكبر وموت نفسي أعمق. وبعد أن رحلت يشعر بفقدانها حتى من خلال صوت تنفسها وهي بجانبه على السرير، وفي لحظة ينفصل عن ماضيه فيوقف المسجل الصوتي لابنه، ويستسلم لحالة نوم عميق مسترجعا صوت نومها. ويظهر ثابتا بلا حراك في كينونة جامدة لا تختلف عن صورة الآثار التي تعلو رأسه في غرفة نومه، وكأنه صار جزءا جامدا بلا حراك في هذه المشهدية التي تصوّر مجموعة من الآثار الجامدة وقد صار جزءا منها، وهو كمن يغفو في نوم عميق.

تشكيل بصري

لم يبق من تاريخ المخرج بعد تقاعده إلاّ وميض من بعض الذكريات والجوائز التي تحصل عليها
لم يبق من تاريخ المخرج بعد تقاعده إلاّ وميض من بعض الذكريات والجوائز التي تحصل عليها 

كثيرا ما ترد فكرة الخلاص في المفهوم اللاهوتي المسيحي، وهي المعنى الذي قيل فيه إنه “الدخول في ملكوت السموات”. فالخلاص من الواقع المزري الذي آلت إليه أحوال الناس جدير بأن يضعهم على المحك في تلمّس طرق الخلاص. فخلاص الابن الغائب كان بالسفر إلى كندا وتأسيس حياة فيها، وهو خلاص فاقم حجم الألم عند والديه اللذين سارا بدوريهما للبحث عن خلاصهما. ولفكرة الخلاص مدلولات عميقة في متن الفكر اللاهوتي المسيحي، منها مفهوم الخروج من الألم. ومن هذه الخصوصية تناول الفيلم حياة هذه الأسرة المسيحية.

وهي الموضوعة التي حاولت بعض الجهات العالمية استغلالها لتسهيل حالة السفر لهم خارج وطنهم، عبر بعض البرامج الدولية الكنسية، الأمر الذي رفضوه بشدة متمسكين بوطنهم الذي يمتلكون فيه إرثا حضاريا كبيرا وعميقا يؤكّد يوما بعد آخر بأنهم أصحاب هذه البلاد الأقدم وأنهم بذلوا لأجلها دماء وجهدا عمره آلاف السنين. وهم بما يحملونه من قيم حضارية كبرى جزء أصيل وأكيد من الهوية الثقافية لأوطانهم.

قدّم الفيلم لغة بصرية عالية، فهو استفاد إلى أقصى درجة من التفاصيل الفنية التي توجد في الكنائس، والجماليات المتعلقة باللون والنحت والرسم، وواضح أن مخرج الفيلم خالد عثمان قد وضع بالتعاون مع مدير الإضاءة يزن شربتجي إضاءة وحركة للكاميرا شكّلت إضافة نوعية في تناول هذه التفاصيل بصريا. فمشاهد الكنيسة حملت مضمونا فكريا عاليا في حوارات مقتضبة، وكذلك حملت جهدا بصريا مشغولا عليه بعناية.

وفي ذلك يقول مخرج الفيلم “بعد دراسة سينمائية في مصر لمدة أربعة أعوام، تعلمنا فيها كيف نصنع كادرا سينمائيا بشكل متقن. كذلك تعلمنا كيف نقوم بالتوظيف الصحيح لهذا الكادر في مقولة الفيلم. هذه الصنعة التي تهتمّ بالتفاصيل والدلالات قد لا تهمّ المتلقي العادي للفيلم، لكنها بالتأكيد ستترك أثرها الإيجابي عنده في اللاوعي الذي يكوّنه عبر سنوات عمره”.

و”نوم عميق” فيلم من إنتاج المؤسسة العامة للسينما بسوريا، وهو من تأليف وإخراج خالد عثمان في أول تعاون له معها. وشارك بالتمثيل فيه كل من عباس النوري ووفاء موصلي وفايز قزق وجمال العلي وهمام رضا والطفل تاج عثمان.

15