نوعان من القراء يعرقلان المتعة العظيمة لقراءة الرواية وكتابتها

تسحب الرواية الجيدة قراءها إلى عوالمها إلى درجة أن توهمهم بأن ما تقدمه لهم هو الواقع، ويصل الأمر بالبعض أحيانا إلى الربط بين شخصية الكاتب والشخصية الروائية حد التطابق، بينما هناك قراء يتعاملون مع الأثر الروائي كأنه مجرد خيال وصنعة فحسب. والقارئان يضران بالعمل الروائي في قراءته وكتابته كما يبين الكاتب التركي أورهان باموك.
ماذا يجري في عقولنا، أو في أرواحنا، عندما نقرأ الرواية؟ كيف تختلف هذه الأحاسيس الداخلية عما نشعر به عندما نشاهد فيلما، أو ننظر إلى لوحة، أو نصغي إلى الشعر، حتى لو كان شعرا ملحميا؟ من هو القارئ الساذج ومن هو القارئ الحساس؟ بماذا يفكر الروائي أثناء عملية الكتابة؟ ماذا يعتقد حول القارئ؟ كيف يخطط لروايته؟ وكيف يختار محورها وموضوعها وفكرتها؟ وعلى أي أساس؟
هذه التساؤلات وغيرها فيما يخص الرواية وعلاقة الكاتب بها أثارها الكاتب التركي أورهان باموك في كتابه “الروائي الساذج والحساس” الذي يضم محاضرات تشارلز إليوت نورتون التي قدمها في جامعة هارفرد عام 2009. وأجاب عنها متناولا رؤاه وأفكاره حول الرواية وكاتبها وقارئها وتوقف عند العشرات من الروايات العالمية فضلا عن رواياته.
سائق السيارة
يقول باموك حول طبيعة محاضراته “أردت الحديث عن رحلتي الروائية، عن الوقفات التي صنعتها على طول الطريق، ماذا علمني أسلوب وشكل الرواية، عن القيود التي فرضوها علي، أردت أن تكون محاضراتي توضيحا وتأملا في فن الرواية، بدلا من أن تكون رحلة في ممر الذكريات أو بحثا في نجاحي الشخصي”.
ويضيف “هذا الكتاب هو كل متكامل يضم معظم الأشياء المهمة التي عرفتها وتعلمتها عن الرواية. كما هو واضح من حجمه، هذا الكتاب بالطبع ليس عن تاريخ الرواية، رغم محاولاتي فهم فن الرواية، كنت أشير بين الحين والآخر إلى تطور الأنواع الأدبية. لكن هدفي الرئيسي هو كشف تأثيرات الروايات على قرائها، كيف يعمل الروائيون، كيف تكتب الروايات. تجاربي كقارئ رواية وكاتب مرتبطة مع بعضها البعض بقوة، أفضل طريقة لدراسة الرواية هي قراءة روايات عظيمة والرغبة في كتابة شيء مشابه لها. أحيانا أشعر بصدق كلمات نيتشه ‘قبل أن تتحدث عن الفن، يجب أن نحاول ابتكار عمل فني'”.
ينطلق الكتاب الذي ترجمته ميادة خليل وصدر عن منشورات الجمل من تساؤل: كيف تعمل عقولنا عندما نقرأ رواية؟، حيث يقول باموك الفائز بجائزة نوبل للآداب عام 2006 “الروايات حياة ثانية، مثل الأحلام التي تحدث عنها الشاعر الفرنسي جيرارد نيرفال، تكشف لنا الروايات الألوان والتعقيدات في حياتنا وهي مليئة بالناس، الوجوه والأشياء التي نشعر بها بأننا نعرفها من قبل. تماما كما يحدث في الأحلام، عندما نقرأ الروايات نتأثر أحيانا بقوة الطبيعة الخارقة للأشياء التي تصادفنا والتي تجعلنا ننسى أين نحن ونتصور أنفسنا في وسط الأحداث الخيالية والشخصيات التي نشهدها”.
ويتابع “في مثل هذه اللحظات نشعر بأن عالم الرواية الذي نلتقي ونستمتع به هو أكثر واقعية من الواقع، غالبا ما يعني هذا أننا نستعيض بالروايات عن الواقع، أو على الأقل نحن نخلط بين الروايات والواقع. ولكننا لا نتذمر من هذا الوهم، هذه السذاجة. في المقابل تماما كما يحدث في بعض الأحلام، نحن نريد للرواية التي نقرأها أن تستمر ونأمل في أن هذه الحياة الثانية تظل تستحضر فينا مشاعر متناغمة مع الواقع والحقيقة. بصرف النظر عن وعينا بالدور الذي يلعبه الخيال في الرواية، إلا أننا ننزعج إذا فشلت الرواية في تعزيز تصورنا بأنها حياة حقيقية بالفعل”.
ويرى باموك أن عقولنا تعمل بكل نشاط كلما تعمقنا في الرواية، نتأرجح باستمرار بين المشاهد؛ الأشجار، الشخصيات، أفكار الشخصيات والأشياء التي يلمسونها، من الأشياء إلى الذكريات التي يستحضرونها، إلى شخصيات أخرى، ومن ثم إلى أفكار عامة. عقلنا وإدراكنا يعملان باهتمام وسرعة وتركيز، وينفذان العديد من العمليات في نفس الوقت، لكن أغلبنا لم يعد يدرك حتى أننا ننفذ كل هذه العمليات، تماما مثل شخص يقود السيارة، يدفع من دون وعي كل أزرار التشكيل، يضغط برجله على الدواسات، يدير بكل دقة السيارة تبعا للعديد من القواعد، يقرأ إشارة المرور ويفسرها، ويراقب حركة المرور بينما يقود السيارة.
التشابه مع سائق السيارة لا ينطبق على القارئ فحسب وإنما على الروائي أيضا، بعض الروائيين لا يدركون الأساليب التي يستخدمونها، هم يكتبون بعفوية، كأنهم يقومون بعمل طبيعي تماما، من دون وعي بالعمليات والحسابات التي ينفذونها في رؤوسهم وبحقيقة أنهم يستخدمون العتلات والفرامل والأزرار التي زودهم بها الأسلوب الروائي. دعونا نستخدم كلمة ساذج لوصف هذا النوع من الإحساس، هذا النوع من الروائيين وقراء الرواية، أولئك الذين لا يشغلون أنفسهم بالجوانب الفنية لكتابة الرواية وقراءتها. ودعونا نستخدم كلمة حساس لوصف الإحساس المعاكس تماما؛ بكلام آخر، القراء والكتاب المفتونون بتصنع النص وعجزه عن تحقيق الواقع، والذين يولون اهتمام كبيرا للأساليب التي يستخدمونها في كتابة الروايات والطريقة التي تعمل بها عقولنا عندما نقرأ. أن تكون روائيا هو الإبداع في أن تكون ساذجا وحساسا في الوقت نفسه.
الرواية والحياة
قارئان يعترضان متعة الكتابة والقراءة؛ القارئ الساذج تماما الذي يرى النص سيرة ذاتية والقارئ الحساس والمتأمل
يقول باموك إن “تغذية حب الروايات وتطوير سلوك قراءة الروايات يشيران إلى وجود رغبة في الهروب إلى منطق العالم الديكارتي ذي المحور الأحادي حيث الجسم والعقل، والمنطق والتخيل، توضع في منافسة مع بعضها البعض. الرواية بناء فريد يسمح لنا بالاحتفاظ بالأفكار المتناقضة في ذاكرتنا دون قلق، وفي نفس الوقت فهم وجهات النظر المختلفة. وأريد الآن أن أكشف لكم عن اثنين من معتقداتي، معتقدين ثابتين وقويين، وفي نفس الوقت متناقضين. لكن سوف أقوم أولا بتوضيح السياق”.
ويتابع “في عام 2008 صدرت في تركيا روايتي ‘متحف البراءة’. هذه الرواية تدور أحداثها حول سلوك ومشاعر رجل يدعى كمال، وهو رجل غارق وموسوس بالحب. في وقت قصير تلقيت السؤال التالي من عدد من القراء الذين من الواضح أنهم اعتقدوا أن قصة حبه وصفت بطريقة واقعية جدا. السؤال هو ‘سيد باموك، هل أن كل هذا يحدث معك بالفعل؟ سيد باموك هل أنت كمال؟’. الآن اسمح لي بأن أعطي إجابتين متناقضتين لهذا السؤال، وفي كلتيهما كنت صادقا جدا: أولا لا، أنا لست بطل الرواية كمال. ثانيا لكن من المستحيل إقناع قراء روايتي بأني لست كمال”.
ويضيف باموك “الجواب الثاني يعني أنه من الصعب بالنسبة إلي -وهذا يصح على الكثير من الروائيين- إقناع قرائي بعدم مقارنتي مع بطل روايتي، يشير الجواب إلى أني لا أنوي بذل مجهود لإثبات أني لست كمال. في الحقيقة عرفت جيدا أثناء كتابتي للرواية أن قرائي -يمكننا أن نعتبرهم ساذجين، قراء متواضعين- سوف يعتقدون بأن كمال هو أنا. بكلام آخر كنت أريد أن ينظر إلى روايتي على أنها عمل خيالي، على أنها نتاج المخيلة، لكن أردت أيضا لقرائي أن يفترضوا بأن الشخصية الرئيسية والقصة حقيقيتان. ولم أشعر مطلقا بأني منافق أو محتال بسبب إخفاء مثل هذه الرغبات المتناقضة. لقد تعلمت من خلال التجربة أن فن كتابة الرواية هو أن تشعر بتلك الرغبات المتناقضة بعمق، لكن الكتابة تستمر بسلام، برباطة جأش”.
الكتاب يضم محاضرات باموك توضيحا وتأملا في فن الرواية وليس رحلة في ذكرياته أو بحثا في نجاحه الشخصي
ويؤكد باموك أن الكتاب والقراء كلاهما يعرفان ومتفقان على حقيقة أن الروايات ليست خيالية بالكامل، كما أنها ليست حقيقية بالكامل، لكن عندما نقرأ رواية، كلمة بعد كلمة، جملة بعد جملة، هذا الوعي يتحول إلى استجواب، إلى فضول قوي ومركز. الكاتب يجب أن يكون قد جرب شيئا من هذا القبيل، يعتقد القارئ، لكن ربما بالغ أو ألف جزءا منه. أو على العكس، يفترض القارئ أن الكتّاب فقط يستطيعون الكتابة حول تجارب حدثت معهم فعلا، يبدأ عندها القارئ بتخيل حقيقة حول الكاتب. بغض النظر عن سذاجتهم ومشاعرهم نحو الكتاب، قد يمتلك القراء أفكارا متناقضة حول مزج الواقع والخيال في الرواية التي يمسكونها بأيديهم. في الحقيقة عندما يقرأون نفس الرواية في زمنين مختلفين، قد تتعارض آراؤهم فيما يتعلق بحجم الحقيقة أو، من جانب آخر، الخيال في النص.
ويوضح أن الغموض حول أيّ أجزاء الرواية اعتمد على تجربة حقيقية وأيها تأليف، يضع الكاتب والقارئ في وضع متشابه. مع أي حدث، يعتقد الكاتب أن القارئ سوف يعتقد بأن هذا الحدث هو تجربة حقيقية، والقارئ يعتقد أن الكاتب قد كتب هذا التفصيل لظنه أن القارئ سوف يعتقد أن التجارب حقيقية. الكاتب بدوره يعتقد أن القارئ سوف يعتقد أنه قد كتب هذا الحدث لاعتقاده أن القارئ سوف يعتقد هذا أيضا. لعبة المرايا هذه تصلح كذلك لمخيلة الكاتب. عندما يصيغ الكاتب جملة، فإنه يفترض أن القارئ (بصورة مباشرة وغير مباشرة) سوف يعتقد أنه قد لفق هذا الحدث. القارئ يفترض هذا أيضا، ويعتقد أن الكاتب يفترض أنه سوف يعتقد بطريقة مماثلة أن هذا الحدث كان متخيلا. وبنفس الطريقة، يفترض الكاتب… وإلخ.
ويواصل باموك أن الطريقة التي نقرأ بها الروايات مزينة بالشك الناتج عن لعبة المرايا. تماما مثلما لا نستطيع أن نتفق على أي جزء من الرواية اعتمد على تجربة شخصية وأيها خيال، فإن القارئ والروائي لا يمكنهما الاتفاق على خيال الرواية. ولشرح هذا الخلاف نعود إلى التراث، والاختلاف بين فهم قارئ وكاتب الرواية. نحن نشتكي منذ حوالي ثلاث مئة سنة، منذ روبنسون كروزو، من أن الفهم المشترك للخيال بين الروائيين والقراء ظل غائبا. لكن شكوتنا ليست صادقة تماما. شكوانا تنقصها الحقيقة، تذكرنا بسوء نية. لأننا في زاوية من عقلنا نعرف أن هذا النقص للاتفاق الكامل بين القارئ والروائي هو القوة الموجهة للرواية.
الكتاب ينطلق من تساؤل: كيف تعمل عقولنا عندما نقرأ رواية؟
ويقرر باموك أن هناك نوعين من القراء يعرقلان أو يعترضان المتعة العظيمة لقراءة الرواية وكتابتها، أولهما القارئ الساذج تماما، وهو الذي يقرأ النص دائما على أنه سيرة ذاتية، أو على أنه نوع من الوقائع المقنعة من تجارب واقعية، مهما حاولت أن تقنعه بأن ما يقرأه هو رواية. ثانيهما القارئ الحساس، المتأمل تماما، وهو الذي يعتقد بأن كل النصوص، على أي حال، هي بنيات وخيال، مهما حاولت إقناعه بأن معظم ما يقرأه هو سيرة ذاتية صريحة. والآن، يجب أن أحذرك، ابتعد عن مثل هؤلاء الناس، لأنهم محصنون من متعة قراءة الروايات.
ويلفت إلى أن تصوره عن العالم ينسجم تماما مع فهمه الحالي للرواية، ويقول “عندما بدأت كنت في الثانية والعشرين من عمري، أعلنت أمام أهلي، أصدقائي ومعارفي ‘لن أكون رساما، سأكون روائيا’، وبدأت بجدية في كتابة روايتي الأولى، الجميع حذروني، ربما ليجنبوني مستقبلا مظلما ‘أن تكرس حياة كاملة لكتابة الروايات في بلد عدد القراء فيه قليل’، ‘أورهان، لا أحد يفهم الحياة في سن الثانية والعشرين! انتظر حتى تكبر وتعرف شيئا عن الحياة، الناس، والعالم، وبعد ذلك يمكنك كتابة روايتك’. كانوا يعتقدون بأني أريد أن أكتب رواية واحدة فقط. كنت أغضب من هذه الكلمات، وأردت أن يسمع الجميع ردي: نحن لا نكتب الروايات لأننا نفهم الحياة والناس، ولكن لأننا نشعر بفهم روايات أخرى وفهم فن الرواية، ولأننا نرغب في الكتابة بنفس الطريقة”.
ويؤكد باموك أن واحدة من أقوى قناعاته هي أن “الروايات في جوهرها هي خيال أدبي بصري. الرواية تمارس تأثيرها علينا بصورة خاصة من خلال محاكاة ذكائنا البصري، قدرتنا على رؤية الأشياء في مخيلتنا وتحويل الكلمات إلى صور ذهنية. جميعنا يعرف هذا، بالمقارنة مع الأنواع الأدبية الأخرى، الروايات تعتمد على ذاكرتنا من التجارب الحياتية اليومية والمشاعر الحسية، التي لا نلاحظها أحيانا. بالإضافة إلى أن الروايات تصور العالم، هي تصفه أيضا، مع ثراء لا يضاهيه أي نوع أدبي آخر، تستحضر مشاعرنا من خلال الرائحة والصوت والذوق واللمس. مشهد الرواية العام يصبح حيا، إلى أبعد مما تراه الشخصيات، مع أصوات هذا العالم والروائح والأذواق ولحظات التواصل. ولكن من بين تجارب الحياة التي يشعر بها كل واحد منا من لحظة إلى أخرى بطريقته الخاصة، تبقى الرؤية هي الأهم دون شك. كتابة الرواية تعني الرسم بالكلمات، وقراءة الرواية تعني تخيل الصور من خلال كلمات شخص آخر.