نورالدين بدوي عدم قول "لا" للسلطة لم يعد كافيا لإدارة التوازنات

ثالث رئيس وزراء يزج به في السجن بالجزائر.
الخميس 2022/09/01
قول "لا" لم يعفه من الملاحقة القضائية

ظل إلى سنوات ماضية يمثل رجل ثقة السلطة رغم الاهتزازات التي لحقتها، فلما كانت تعتقد أن تعيينه في منصب رئيس الوزراء سيطفئ الغضب الشعبي استعانت به، ولما كان اسمه من ضمن المطلوبين للرحيل من طرف احتجاجات الشارع تمسكت به السلطة العسكرية، لكن منطق التوازنات وسوء فهم التغيرات أحالاه إلى السجن.

أمر القضاء الجزائري بإحالة رئيس الوزراء السابق نورالدين بدوي إلى السجن المؤقت في انتظار استكمال التحقيقات المفتوحة ضده، ليكون بذلك ثالث رئيس حكومة من حكومات الرئيس الراحل عبدالعزيز بوتفليقة يقبع خلف القضبان، وتبدأ معه قصة جديدة من قصص الحرب على الفساد وتثبيت التوازنات المستجدة في هرم السلطة.

بدوي التكنوقراطي الذي تخرج كغيره من كبار مسؤولي وكوادر الدولة من المدرسة العليا للإدارة، تدرج في مختلف المسؤوليات إلى أن أمسك بمقاليد الحكومة والبلاد في ذروة أزمة سياسية خانقة بسبب فورة الشارع في 2019 ضد السلطة القائمة والمنظومة الحاكمة.

ويبقى الفساد وسوء الإدارة وتبديد المال العام الكلمات المفتاحية في أدبيات الموجة التي أطاحت بالعديد من رموز نظام بوتفليقة، ولذلك فإن السجن المؤقت سيكون فاتحة مرحلة من حياة الرجل تتعدد فيها التهم وتفرّخ الملفات والمحاكمات، لكن تبقى تصفية الحسابات السياسية بين الزمر الفاعلة هي الحبر السري الذي يدون تاريخ المرحلة.

وضمن السياق المذكور يقبع خلف سجون البلاد العشرات من المسؤولين السامين والوزراء ورجال السياسة ورجال المال وضباط الجيش ورؤساء الحكومات، والحالة غير المسبوقة في تاريخ البلاد، هي أول إدانة لإفلاس نظام سياسي ربى رموزه على الفساد إلى أن وصل إلى هذه النتيجة، فقد تدرج هؤلاء في سلم المسؤوليات إلى أن وصلوا إلى رتبة زعيم حزبي ورجال مال وجنرال ووزير ورئيس حكومة بصفة فاسد، وذلك وحده كاف ليكون ذريعة لدعاة كنس النظام برمته.

نزيف بشري في وعاء النظام

◙ التكنوقراطي الذي تدرج في مختلف المسؤوليات، أمسك بمقاليد الحكومة والبلاد في ذروة أزمة خانقة
◙ التكنوقراطي الذي تدرج في مختلف المسؤوليات، أمسك بمقاليد الحكومة والبلاد في ذروة أزمة خانقة

لما اشتدت الاحتجاجات الشعبية في الحراك الشعبي بداية من العام 2019، رأت السلطة بقيادة بوتفليقة والحلقة المقربة منه أن التضحية برئيس الحكومة السابق أحمد أويحيى واستخلافه ببدوي سيطفئ لهيب الغضب الشعبي اعتقادا منها أن خلفيته التكنوقراطية وابتعاده عن الممارسة السياسية والحزبية بإمكانهما إقناع المحتجين في الشوارع بالعودة إلى بيوتهم.

ولأن التطورات كانت متسارعة في البلاد آنذاك، فقد سقط بوتفليقة، وبقي بدوي في قصر سعدان بإيعاز من قيادة الجيش السابقة ممثلة في الجنرال الراحل أحمد قايد صالح، فكان اسمه يتردد وصورته ترفع في المظاهرات والاحتجاجات الأسبوعية إلى جانب رموز آخرين للسلطة من أجل رحيلهم، لكن السلطة الفعلية آنذاك كانت متمسكة بشكل غير مفهوم، رغم أنه لا يمثل أي ثقل في السلطة.

◙ بدوي لم يكن يملك مصادر دعم متعددة، لذلك وضع كل بيضه في سلة قايد صالح وجهله بقواعد اللعبة داخل المؤسسة العسكرية جعله يفهم أنها تدعم ميهوبي في الانتخابات الرئاسية

ويروى عن رئيس الوزراء الأسبق والمسجون بدوره عبدالمالك سلال، في حديث جانبي له حين سئل من طرف الرئيس بوتفليقة عن استقدام بدوي إلى الحكومة لشغل منصب وزير التكوين المهني في أول تجربة له داخل الحكومة لأنه لم يكن على معرفة شخصية به، فقال له "لا يقول لا".

وعدم قول "لا" قد يكون كلمة السر التي رقّت الرجل في مناصب المسؤولية من مجرد كادر محلي ومحافظ، إلى أن دخل الجهاز الحكومي من بوابة وزارة التكوين المهني ثم الداخلية وبعدها رئاسة الوزراء، وهي التي ضمنت له الوصول إلى أعلى المسؤوليات، لأن السلطة الفعلية مستعدة لتوزيع الريع إذا كان المستفيد غير مزعج لها.

وخلال شغله لمنصب وزير التكوين المهني والتمهين، كان وكيل الوزارة هو عبدالغني بوتفليقة شقيق الرئيس، ولذلك كان الكل يجمع بأن الوزير الفعلي كان عبدالغني وليس بدوي، رغم أنه أعلى درجة منه في سلم المسؤولية، لكنه كان يمثل ضمانا له للاستمرار في المنصب، لأن الوزير هو الذي يخدم الوكيل وليس العكس.

لكن هل كان عدم قول "لا" هو السر الوحيد في سيرة الرجل، أم هناك شيء آخر مكنه من كسب ثقة بوتفليقة أولا، ثم الجنرال أحمد قايد صالح ثانيا؟ وما هو لغز الاحتفاظ به في هرم السلطة وترجيح كفته على كفة الملايين الذين كانوا يصدحون برحيله في الشوارع، فهل كان استمراره ضروريا للسلطة العسكرية من أجل تمرير أجندتها، خاصة بعض القرارات المتسرعة المتخذة وقتها بشأن قانوني المحروقات والاستثمار، أم أن للرجل أسرارا أخرى غير معلنة؟

طموح وصل ذروته

◙ بدوي مثل التوازن الديموغرافي في السلطة باعتباره ينحدر من جنوب البلاد
◙ بدوي مثل التوازن الديموغرافي في السلطة باعتباره ينحدر من جنوب البلاد

يقول العارفون بشخص الرجل بأن طموحه في الوصول إلى أعلى مراتب المسؤولية وصل إلى ذروته ولم يكن ليرفض طلباً، لا من الذي استقدمه في أول الأمر، ولا الذي تمسك به في ذروة الثورة الشعبية، ولو أنه أدرك متأخرا أنه لم يفهم اللعبة جيدا، وأن خياراته التي استلهمها من إرادة فاعلين في الجيش كانت خاطئة تماما، ولذلك كان ينتظر المصير الأخير، يوم نصب عبدالمجيد تبون رئيسا للجمهورية في شهر ديسمبر 2019.

◙ الفساد وسوء الإدارة وتبديد المال العام كلمات مفتاحية في أدبيات الموجة التي أطاحت بالعديد من رموز نظام بوتفليقة بسبب فورة الشارع في 2019

لأنه لم يكن يملك مصادر دعم متعددة، فقد وضع كل بيضه في سلة قائد الجيش السابق أحمد قايد صالح، وجهله بالتوازنات داخل المؤسسة العسكرية، جعله يفهم أن المؤسسة تدعم المرشح عزالدين ميهوبي في الانتخابات الرئاسية، ولذلك كان من منصبه في رئاسة الوزراء يوجه الأحداث تجاه ذلك الخيار، قبل أن يكتشف أن أصحاب الرأي المذكور هم جناح داخل الجيش فقط، وليس هو رأي الرجل الأول في المؤسسة، وهو ما تأكد بتدخل أحمد قايد صالح، أياما قليلة قبل الانتخابات ويوجه أوامره للجيش بدعم تبون، وسقط بذلك كل من ذهب في اتجاه دعم ميهوبي.

سقط بذلك العديد من الضحايا تباعا بسبب دعمهم لترشيح ميهوبي، ومنهم مسؤولون مدنيون وسياسيون وضباط عسكريون، وتأخر سقوط بدوي إلى غاية الأيام الأخيرة، وهو يجد نفسه اليوم يدفع فاتورة سوء فهمه للتوازنات والحسابات، واجتهاده لنصرة مرشح حاز على ثقة جناح في السلطة وليس ثقة السلطة الحقيقية، فما عاشه تبون خلال حملته الانتخابية من انهيار ونزيف بشري من مقربيه وكوادر حملته بسبب ضغط الجناح المذكور، انقلب في نهاية المطاف ضد خصمه في الانتخابات وتساقطت الرؤوس الداعمة لميهوبي تباعا إلى أن وصلت إلى بدوي.

تعليمات سامية

◙ تبون وبدوي كانا زميلين في حكومتين، لكن لغة التوازنات جعلت واحداً في أعلى هرم السلطة والآخر خلف القضبان
◙ تبون وبدوي كانا زميلين في حكومتين، لكن لغة التوازنات جعلت واحداً في أعلى هرم السلطة والآخر خلف القضبان

كان بدوي زميلا للرئيس تبون في حكومتين واشتغل ضمن حكومته حين كان رئيسا للوزراء لأشهر معدودة، ومع ذلك فإن منطق المصلحة ولغة التوازنات لهما قواعدهما الخاصة، ولذلك نجد واحداً في أعلى هرم السلطة والآخر يقبع خلف القضبان.

ومع أن الأمر تأخر بالنسبة إلى نزيل سجن ضاحية الحراش بالعاصمة بتهم نسبت إليه حين كان يشغل منصب محافظ، فان محاكمة رئيس الوزراء المذكور ستجر لا محالة أسماء أخرى، خاصة على مستوى الجهاز الإداري، لأن العديد من الولاة ورؤساء الدوائر ساروا ضمن التوجيهات التي كان يصدرها بدوي لهم من أجل دعم ترشيح ميهوبي، وفق ما تلقاه هو من ضباط سامين مقربين من الجنرال أحمد قايد صالح، لكنها لم تكن تمثل موقف الرجل، ولو أن الرائج في بيانات القضاء لحد الآن هو الضلوع في قضايا الفساد لا غير.

◙ بدوي كان يمثل التوازن الديمغرافي في توزيع المسؤوليات باعتباره ينحدر من عائلة أصيلة جنوب البلاد وكان ينظر إلى لونه الأسمر على أنه ورقة لإسكات الأصوات المنددة بالتهميش والإقصاء

الرجل كان يتلقى تعليمات من مسؤولين عسكريين يظهر أنهم كانوا أقل منه رتبة وفق السلم الدستوري للمسؤوليات، لكن ذلك هو المنطق السائد في الأنظمة التي تدار فيها الواجهات السياسية من خلف الستار وتخضع لنفوذ ما يعرف بـ”السلطة الفعلية".

بدوي الذي كان يمثل التوازن الديموغرافي في توزيع المسؤوليات، باعتباره ينحدر من عائلة أصيلة جنوب البلاد، كان ينظر إلى لونه الأسمر على أنه ورقة لإسكات الأصوات المنددة بالتهميش والإقصاء لدى سكان الجنوب. لكن الامتيازات ومزايا الكرسي لها سحرها الخاص ما يجعل الأنانية تتغلغل في النفوس، فينغمس أصحابها في الملذات والمكاسب المادية والمصالح الضيقة.

 ورغم أنه كان في أوج سلطانه فقد لحقته شائعات حول مساره المهني والأخلاقي، ولو أن شهود عيان يؤكدون على أن والده ظل يشغل منصب سائق تاكسي في إحدى الضواحي الشرقية للعاصمة، وظل يتمنع عن قبول منحة شهرية من ابنه الذي كان آنذاك واليا على إحدى محافظات غرب البلاد، رغم أنه كان يلح عليه لترك وظيفة سائق التاكسي.

ومنذ استقلالها في 1962 لم تشهد البلاد حملة شديدة أطاحت بعشرات من المسؤولين الكبار وزجت بهم في السجون كالحملة التي تعيشها منذ العام 2018، حيث التبس فيها الفساد المالي والسياسي مع تصفية الحسابات، فاشتدت القبضة الحديدية بشكل غير مسبوق وأسقطت أجنحة وصعّدت أجنحة أخرى وعرّت الكثير من الحقائق والخفايا، فصار الضابط يمسي جنرالا ويصبح سجينا، ويصبح جنرالا ويمسي سجينا، وسيكون الأمر هينا لما يتعلق الأمر بمسؤول مدني مهما علت رتبته.

طموحه في الوصول إلى أعلى مراتب المسؤولية وصل إلى ذروته

 

12