نهايات مفارقة للبدايات

كم موهبة في كل مجال قتلها الاستخفاف، وقد تؤدي إهانة موهوب ناشئ إلى انتقامه من الجميع، فتحفر الموهبة غير المتحققة مجرى إجراميا محليا أو كونيا، بدلا من أن تكون مصدر فرح.
الأحد 2018/09/23
محمد صلاح موهبة استخفوا بها فصنع لنفسه مجدا

منذ سنين بعيدة، قرأت أن بيرم التونسي في لقائه الأول بشعر صلاح جاهين سخر منهما، من الشعر والشاعر معا. نسيت أين قرأت ذلك، وتعاندني الذاكرة، ولا أستطيع معرفة المصدر، وتكفيني دلالة الاستهانة بمن لديه بذرة موهبة، استعداد فطري سيكتمل غدا بمدّ الخيط باتساع الخيال، وإتاحة موانع الإحباط، وإشاعة أجواء تساعد على النضج، فتستوي الموهبة وتصبح شجرة لا تخطئها عين. ففي زمن قياسي تفجرت ملكات صلاح جاهين، وزهد في دراسة الحقوق، فاعترف بيرم بأن رباعياته “غير مسبوقة”.

ولم يستوعب الشعر طاقات المارد، فعمل صحافيا فرئيس تحرير، وممثلا ورساما وكاتب سيناريو، وفي عام 1956 كتب “نشيد السلاح” المشهور بعنوان “والله زمان يا سلاحي”، ولحنه كمال الطويل وغنته أم كلثوم، واختير نشيدا وطنيا، حتى استبدل به أنور السادات “بلادي بلادي” عام 1979، مراعاة لمشاعر العدو الإسرائيلي. وكان “والله زمان يا سلاحي” هو السلام الوطني العراقي بين عام 1963 و1981.

تزامنا مع صعود جاهين، كان يوسف إدريس ينشر قصصا أسقطها وهو ينتقي قصص مجموعته الأولى “أرخص ليالي”. ولم يكن بين الأعمال الأولى “ما ينبئ أو يبشر بميلاد القاص المدهش يوسف إدريس″، في تقدير سليمان فياض الذي داعب إدريس، وقال إنه بحث في الدوريات عن قصصه غير المنشورة في كتب، وعثر على إحدى عشرة قصة، وأولها “أنشودة الغرباء” في مجلة “الهلال”، وذكّره بجملة البداية “كانت ليلة قارسة البرد مثل عجوز شمطاء”، واستأذنها في نشر القصص، فلم تعجبه المزحة “الثقيلة”، وأصابه وجوم وقال لسليمان “انت فعلا شرير، أدبحك بسكينة تلمة في ميدان التحرير”. وكان إدريس قد حقق قفزات بعيدة عن بداياته، وتمكن من إبداع قصة قصيرة مصرية، ولا ينافسه في ذلك مصري إلى الآن.

بدايات إدريس لا تختلف عن مثيلاتها لدى نجيب محفوظ، ومن يقرأ الآن المجموعة القصصية الأولى، “همس الجنون”، ستصيبه دهشة؛ فالسرد تقليدي يخلو من ملمح لافت يقول إنه سيحلّق في فضاء رحب، وإذا لم يجد هذا الفضاء فسيصنعه، ويصير مؤسسة تؤرخ مراحلها لتطور الرواية العربية. ويضع ناشرا محفوظ (مكتبة مصر، ودار الشروق) عام 1938 تاريخا لصدور “همس الجنون”، وهو تصرف ماكر من مؤلف أراد أن ينسب النشر والكتابة إلى ذلك التاريخ المبكر. ولكن الدكتور علي الراعي أثبت أن قصصا في المجموعة كتبت في أربعينات القرن العشرين؛ إذ تتناول جوانب من آثار الحرب العالمية الثانية.

رسّخ محفوظ مكانته، منذ نشر الثلاثية، واستقطب نقاد اليسار واليمين، ولم يركن إلى هذا الإجماع، ونشطت حواسه في التقاط إيقاع العصر، روحه وتحولاته ورياحه العاصفة، فخاض تجربة جديدة، ما بعد الواقعية، بداية من “أولاد حارتنا”. ورغم حصوله على جائزة نوبل للآداب (1988) فلم ينس المرارة القديمة، وقال لغالي شكري إنه انفعل بأول مقال كتب عنه؛ “الصمت لا يطاق”. صمت النقاد نحو خمسة عشر عاما، وتجاهلهم لأعماله قبل “الثلاثية”.

كم موهبة في كل مجال قتلها الاستخفاف، وقد تؤدي إهانة موهوب ناشئ إلى انتقامه من الجميع، فتحفر الموهبة غير المتحققة مجرى إجراميا محليا أو كونيا، بدلا من أن تكون مصدر فرح، مثل ذلك عم البلاد مساء الأحد، 8 أكتوبر2017، في مباراة ومصر والكونغو، إذ تعلقت العيون والقلوب بقدم محمد صلاح، وهو يتصدى في الدقيقة 94 لضربة جزاء، في الوقت بدل الضائع. هذا اللاعب رفضه ناد مصري، ولم يقتنع به مدرب تشيلسي الإنكليزي عام 2014، فكان فيورنتينا الإيطالي جسرا إلى نادي روما، ومنه إلى حيث هو الآن.

10