نقوش على الضريح

توجعت المسافات في حياة الشاعر، حتى باغته عدو جديد، يسرق الأرواح لا الأوطان، فأسلم الروح تاركاً توقيعاته نقوشاً على الضريح.
الأحد 2021/04/11
كثيرة هي عناصر الإدهاش في تجربة الشاعر عزالدين مناصرة

كثيرة هي عناصر الإدهاش في تجربة الشاعر عزالدين مناصرة. فهي في تنوعها تتجاوز درويش، قيثارة الفلسطينيين، أما التجربة نفسها، بمعزل عن عناصر الإدهاش فيها، فقد أسست لمرحلة شعرية فلسطينية جديدة بعد تلك الشجية التي أسسها إبراهيم وفدوى طوقان وعبدالرحيم محمود وهارون هاشم رشيد وغيرهم. فقد استفاد مناصرة من ثقافته وترحاله، فتنوع واسعاً خارج جغرافيا وطنه الذي مكث فيه الأسبقون طويلاً وأبدعوا!

يروق لي التركيز على ملمح واحد من عناصر تجربة عزالدين الذي رحل عن الدنيا منذ أيام قليلة. ربما ذلك لصلتي المبكرة بشيء يتعلق بالخط العربي الذي كان من هواياتي صغيراً. فقد ظلت مخيلتي تتقصى أشكال هذا الخط بأنواعه. كنت أعرف من هو المتفنن المميز في خط الرقعة، والضعيف في خطي الثُلث والكوفي، أو الارتجالي في الخط الفارسي. ولم أكن أعرف بالطبع أن النقوش المحفورة على الحجر والرخام بالخط البديع قد أنتجت شعراً، وتأسست عليها آداب أطلق عليها الأوروبيون “إبيجراما” وهذا مصطلح قديم باللغة اليونانية معناه “الكتابة على شيء” (غير الورق بالطبع). وكان طه حسين ـ الضرير كما نعلم ـ هو أول من أشار إلى النقوش التي تكتب على الحجارة وقواعد التماثيل والآنية وأضرحة القبور والنُصب التذكارية، وقال إن كلاً منها يعبر عن فكرة أو حكمة أو يعرض قولاً مُكثفاً ترتسم من خلاله مفارقة ترمي إلى تحقيق معنى أو تشكيل رؤية.

ففي شعره عرض عزالدين مناصرة المفارقات في إهاب “توقيعات” لكي يقدم صورة عن صراعه في الحياة مع الذباب الذي يمر في فمه، وأجبر الفلسطيني على الرحيل عن أرضه وأهله، فاضطر إلى التشكي أو الاستغاثة، صارخاً في صيغة سؤال يستحضر المفردات الغائبة ويستحث الأرواح المسكونة بالألم، لكي تدافع عن حقوقها “من يمنع الذباب أن يمر في فمي.. من يمنع الذباب؟” فـ”في قلبي آلاف الأشياء. لا أحكيها إلا للحيطان الصمّاء. أحكيها لحَمام الأسرار على الهضبة. أرفض أن أحكيها للسيف المسلول على الرقبة. أرفض أن أحكيها للغول. ذلك أن لساني يا أحبابي مشلول!”.

قصيدة الإبيجرام فيها تكثيف يؤثر في من يتلقاها كونها شكلاً تعبيرياً ممزوجاً بالحكمة وأحياناً بالفكاهة أو السخرية، وتتسم بالإيجاز الشديد، كما العبارات المنقوشة على الحجر. وفي النصوص النثرية هناك مقولات جديرة بالنقش سرعان ما تصبح متداولة على الألسن وتعيش مع الناس حتى دون تعرف قائليها.

أصدر كتاباً بعنوان “توقيعات عزالدين مناصرة.. إبيجرامات شعرية مختارة” جمع فيه ومضاته التعبيرية فبدت كل واحدة منها موجزة ومشحونة بالمفارقات. قال في إحداها، كأنما يعبّر عن دواخل كثيرين “رجعت من المنفى.. في كَفّي خُفُ حُنيْن.. حين وصلت إلى المنفى الثاني، سرقوا مني الخُفين”. وفي هذه التوقيعة يتندر الشاعر على حال الفلسطيني المشتت، وفي توقيعة أخرى يسخر من تعدد الأمراء، ومن اضطراب الرعايا “أنت أمير، وأنا أمير، فمن يا تُرى يقود هذا الفيلق الكبير”!

ربما يجد كُتّاب النصوص النثرية في سهولة المفردات وامتناعها كتركيب شعري ما يحثهم على استخدام الإيبجرام لقفلات نصوصهم لكي يختموها بجمل موجزة وبليغة وآسرة، بعد عرض الصعب، دون إغفال عنصر الأمل، كقول عزالدين مناصرة وهو يصف مظلومية شعبه “زرعوا الأحجار السوداء.. أكلوا ذهب الغُيَّاب.. فزرعنا عنباً وهضاب.. فلقينا موت الأحباب”!

توجعت المسافات في حياة الشاعر، حتى باغته عدو جديد، يسرق الأرواح لا الأوطان، فأسلم الروح تاركاً توقيعاته نقوشاً على الضريح.

24