نقمة الميكروفون.. قريبا من التنفير والتبشير

أفقد انسياق بعض الشعائر الدينية الإسلامية وراء التطور التكنولوجي، كاستعمال مكبرّ الصوت “الميكروفون” عند رفع الأذان زخم تقاليد متجذرة في مجتمعات مسلمة، اعتادت قبل عقود غير بعيدة الاستمتاع والخشوع بسماع الأذان من فوق المآذن بأصوات طبيعية وجميلة. ورغم أن التخلي عن “الميكروفون” لا يسيء للإسلام وشعائره في شيء، فإن المسؤولين لم يجرؤوا بعد على إزالته والعودة إلى الأصل الكامن في أصوات يرفعها المؤذنون بطريقة مباشرة من فوق المآذن.
منذ نحو 1400 عام، ومن دون الحاجة إلى ميكروفون، بلغ الإسلام مشارف الصين في أقصى الشرق، ومضى غربا وجنوبا إلى العمق الأفريقي، محمولا على سلوك حميد لمسلمين لم يكونوا مقاتلين أو “مبشّرين” بالمفهوم التقليدي، وإنما أهل تجارة جذبت أمانتهم إلى الإسلام أتباعا مسّت أخلاق الدين الجديد وترا في قلوبهم. ثم تولى الأتباع حمل البشارة إلى أقوام وأجيال رطّبت ألسنتها بذكر الله “تضرعا وخيفة ودون الجهر من القول بالغدو والآصال”، وأعفاهم الله من الابتلاء بهوس تبشير المسلمين بالإسلام في أرضه، بإلحاح يدعو إلى الضجر، ولا يثمر إلا تنفيرا، ويشوّه جلال الصوم، العبادة الوحيدة التي جعلها الله له، فهي سرّ بين العبد وربه.
طمس الموروث
منذ نحو 140 عاما اخترع رجل غير مسلم مكبر الصوت، وسمّاه “ميكروفون”. وفي بدايات القرن العشرين دخل “الميكروفون” ديار الإسلام. وكان الفقر نعمة، فلم يجد هذا الغازي الحديدي كهرباء تساعده على الجهر، وتمدّه بأسباب الحياة. ومع الغنى والتطاول في البنيان ارتفعت المآذن، وأنهت الميكروفونات عمل مؤذنين كانوا يصعدون المآذن خمس مرات في اليوم، واستأثرت الميكروفونات بسماء الله، وبأناس رفعوها مكانا عليا، فمن ينتقد الميكروفون كأنه يصدّ عن سبيل الله. واستحوذ الميكروفون على المجال العام استحواذا “شرعيا”، وآذى الأسماع بصخب لا يزيد إيمان المؤمنين، ولا يمنح أحدا خشوعا في الصلاة، وإنما يجعل من شهر رمضان، على سبيل المثال، مباراة في التظاهر بالتقوى.
ومنذ نحو 40 عاما، يتعرض شهر رمضان المصري لحملة تستهدف طمس ملامحه. ورمضان مصري بامتياز، يُستقبل بحفاوة، لا فرق في الترحيب به بين ملتزم بشعائر الدين ومتساهل، فمكانته بين العبادات بمثابة آل البيت في قلوب المصريين الذين لا يعرفون هل هم سنة أم شيعة؟ وليس مستغربا أن يطرق بابك صبي لا تعرفه، يجمع من الجيران أموالا لعمل “زينة رمضان”، في الشارع والشرفات، وهو تقليد تتحدى به الأحياء الشعبية بالقاهرة محاولات آلة طمسٍ عنوانها ميكروفونات تتبارى في رفع الصوت في الصلوات، وفي دعاء مسجوع منغّم يتخلل صلاة التراويح حتى الفجر الصادق، وكذلك في الفجر الكاذب المتبوع بقول المؤذن “فاضل على الفجر ساعة”.
وأسهمت التكنولوجيا، التي لا فضل للمسلمين في اختراعها، في تحوّل الأدعية الصاخبة إلى أسطوانات تنافس الأغاني، في وسائل المواصلات ومواقع التواصل الاجتماعي، بالمخالفة لروح النص القرآني في آية “ادعوا ربكم تضرّعا وخُفية إنه لا يحب المعتدين”.
ومن حق كل إنسان أن يصلي، وأن يدعو ربه، متى وأين شاء، على ألاّ يجبر الآخرين من اللاهين أو المنشغلين بكسب أرزاقهم على سماع صلاته ودعائه الخالي من التضرّع والخشوع، إذ يخالف فيه نهيْ النبي صلى اللـه عليه وسلم عن رفع الصوت بالدعاء، في حديث “أربعوا على أنفسكم؛ إنكم لا تدعون أصم ولا غائبا، ولكنكم تدعون سميعا قريبا، فالله أقرب إلى العبد من حبل الوريد”.
وإذا كان الميكروفون عنوانا، فلا بدّ أن متونه هي الأرصفة ومساحات من الشوارع المحيطة بالمساجد والزوايا المقامة على جزء من الدور الأرضي للبنايات. وقد لا تعثر عيناك على زوايا صغيرة يستبد كل منها بعدد من الميكروفونات التي اعتبرها الشيخ محمد متولي الشعراوي “غوغائية تديّن، حُكمها في الدين باطلة، باطلة. من ينام طوال النهار ثم يأتي قبل الفجر بساعة يهبْهب”، ولا يراعي أحوال المرضى والنائمين. وقال أيضا “الميكروفون أكبر نقمة منيت بها الأمة الحديثة”، مستنكرا تشغيله بتلاوة القرآن في متجر ينشغل صاحبه بالبيع وغيره بالشراء. وبمدّ الخط على استقامته ستجد سائق سيارة حريصا على تشغيل القرآن، وهو يسب الدين ويخالف قواعد القيادة.
أبي كان شاهدا على أن الميكروفون، الذي يذيع أذان الفجر الكاذب ثم القرآن والابتهالات قبل أذان الفجر ثم يذيع إقامة الصلاة، لم يؤثر في زيادة أعداد المصلين. كان أبي حريصا على صلاة الفجر، لا يحول دون ذلك برد شديد، أو مطر تزلّ بسببه الأقدام، يصحو قبل الأذان مهما تكن ساعات نومه. سألته: هل تنقص أعداد المصلين في ليال ممطرة تنقطع فيها الكهرباء، ويتعطل الميكروفون تماما؟ فأجاب بأنهم لا يزيدون ولا ينقصون. ولم أجرؤ على مصارحته بضرورة أن يكون الميكروفون للأذان فقط، حرصا على المرضى والنيام والطلاب، لأنه من ضحايا مدّ سلفي رسّخ أذانين للفجر، في تقليد حرْفي خارج سياقه الزمني والحضاري.
مسايرة السلفية
لم يجرؤ مسؤول مصري على إعلان الشروع في إلغاء بدعة الميكروفونات غير الآدمية، والعودة إلى الأذان من فوق المآذن بأصوات طبيعية جميلة. وكان صوت الشيخ عثمان عذبا، يرتل القرآن ترتيلا، ويؤذن للصلوات من فوق مئذنة جامع المتولي في قريتنا، فنسمعه في الغيطان، على بعد أكثر من ألفيْ متر، قبل أن تضيق المآذن بالمؤذنين حَسني الصوت، وتتسع لآلات معدنية يزرعها الكثيرون ممن لا تعرف مصادر أموالهم. ولن تسيء إزالة الميكروفونات إلى الإسلام، أو تمنع شعائره، ولكنها اختبار للقدرة على تحدي التنطّع والنفاق. وفي أسوأ الأحوال يمكن الاكتفاء بميكروفون واحد لكل مسجد، بشرط أن يكون مسجدا حقيقيا بمئذنة، وليس زاوية صغيرة أسفل بناية.
يسعى مسلمون، من ضعاف الإيمان بحكمة الله في خلق الناس مختلفين، إلى افتعال التحدي مع غير المسلمين، فيعايرونهم وينذرونهم بسوء المنقلب. وكذلك يميل مسلمون إلى الزهو، على غيرهم من المسلمين، بأنهم جنود الله المدافعون عن ذاته، ووكلاؤه في تنفيذ إرادته، وحماية سير أنبيائه، والذود عما يسمونه شريعته. وبدلا من أن يحمدوا الله الذي هداهم، فهم عابسون وكارهون للحياة، يريدون الانتقام ولو من ضريح خشي منه سلفيون، بعد ثورة 25 يناير 2011، على عقيدتهم، فأرادوا هدمه. وبعد زوال دولة الإخوان المسلمين في 30 يونيو 2013، تحالف السلفيون مع السلطة، في صيغتها غير المدنية أو الدينية أو العسكرية أو البوليسية، ولكنها كل ذلك.