"نقطة سوداء" معرض جماعي يسلط الضوء على راهن ضبابي

معرض يجسد ما يعانيه الفنّان التونسيّ من هواجس وتحدّيات خاصّة في الوضع التونسيّ الموسوم بـ"الضبابيّة".
الأربعاء 2019/11/06
عالم مثاليّ تساوي فيه الحياة الفناء

يتواصل المعرض الجماعيّ الذي يحمل عنوان "نقطة سوداء" إلى غاية يوم 23 نوفمبر الجاري بمدينة الثقافة في العاصمة التونسية والذي يضمّ مجموعة من الأعمال الفنيّة (رسم وخزف ونحت وصور فوتوغرافيّة) لسبعة وثلاثين فنّانا تونسيّا.

النقطة السوداء هي تعبير عمّا يعانيه الفنّان التونسيّ من هواجس وتحدّيات خاصّة في الوضع التونسيّ الراهن الموسوم بالضبابيّة، إذ تجسّد وحدة الوجود وهو ما سيرسّخه المعرض وذلك بتجميع فنّانين بتقنيات مختلفة وأفكار متنوّعة حول موضوع واحد وخلاّق في نفس الوقت.

تأخذنا "النقطة" التي "لا تُجَزّؤ ولا تُفصّل" إلى ذلك العالم المثاليّ الذي تساوي فيه الحياة الفناء، أو كما العالم الذي يحلم به إميل سيوران "عالم نموت فيه من أجل فاصلة"، ذلك العالم نفسه الذي توغّل فيه الفلاسفة والفنانين عميقا محاولين نزع ستائر الماضي والحاضر وتقديم وساوسهم ملتحفة بقطن المشاعر البشريّة. يرمينا الزمن إلى نقاط مبعثرة داخل التاريخ، يخرجنا عبر نقاطه الفاصلة من نهايات النصوص والتواريخ والسواد، ليقذفنا وسط الفراغ المدجّج بالوعي الداخليّ.

Thumbnail

يهوى الزمن نثر نقاطه متفرِّقَةُ ولكنه ينتج قبالتها نِقاطَ التقاء غريبة، ليهوي بدون" شفقة" على كلّ الأشكال والألوان وعلى كلّ اليقينيّات والمسّلمات التي نخالها نهائية ونستأنس بها، لا في الرسم وحده بل في الفلسفة وفي الشّعر، في الأدب، في الأديان وفي التّصوّف، في الموسيقى والسينما والحرف الذي هو بحسب الصوفيين مجموعة نقاط انبعثت من نقطة واحدة تجسد وحدة الوجود.

يمثّل الوجود لعبة الصراع الإنساني مع الزمن. إنّها لعبة الاستعادة والمشاركة أو القطيعة، أين تتشابك كلّ أحداث الحياة بين لحظة الوعي ونقطة الغياب. تقدّم لنا البشريّة وجوها متعدّدة للحيوات المسترسلة في نقاط تحوليّة ومحوريّة فارقة، تماما كالنقطة التي يقفل بها الروائيّ متأفّفا حكايته، وينظم بها الشاعر مزهوّا قصيدته، ونقطة التأمّل التي يذهب إليها الفيلسوف لإدراك ذاته. لا تُنبؤ نقطة وصول المسافر على نهاية رحلته، و لا ينفي تشبّث سياسيّ بنقطة إيديولوجية ما كلّ الكذب والتزييف في كلماته.

يسير الزمن وفق نقاط محوريّة دائريّة، ذلك الشكل الأكثر انتماءا للطبيعة لأنّه قادر على احتواء كلّ شيء، بل هو "رحم الأشكال كافة"، أو ما يسميه أدونيس بـ"سرّ الكون وروح العالم". يسير كلّ شيء وفق دوائر، يلتفّ كعقارب الساعة مخلّفا لسعات "مسمومة"، تماما مثل الوقت والذكريات والحكايات أين يتحرّك الكلّ حول الكلّ، وأين تستفحل هواجس المجتمع بالقوانين وبالرقابة والتلصّص والأنانيّة والأذيّة.

Thumbnail

تعجز الأزمنة في النهاية، عن قول الحقيقة الجوهريّة للأشياء فهي نقاط صغيرة جدا وسط أشياء كثيرة غامضة ومخيفة، أشياء كونيّة سوداء ولا لونية تترجم بعضها إلى ثقوب فارغة ولانهائيّة، تماما كندوب الصورة الانتحاريّة تلك التي مجّدها بودلير في يوميّاته ونيتشه في كتاباته "كأوضح ما تكون الرؤية، يفكّر ويشكّ، يحسم ويتراجع، ينحاز ويتخلّى، يهجم ويدافع، يمدح ويهجو، يقارع الحجّة بالحجّة، ويتّخذ لنفسه موقعا من كلّ هذا الذي حفل به عصره".

يحاول منظّمو المعرض طرح السؤال التالي: ماذا لو يكفل لنا الزمن الوصول إلى النقطة القصوى من القدرة العقليّة، نقطة اللاّعودة؟ ذلك المكان الغامض والغيبيّ والمظلم. تتمثّل الإجابة عن هذا السؤال في تقديم قربان على شكل "تضحية" سوداء، في سبيل استمرار وانتشار المعرفة الكليّة. وذلك تماهيا مع سيناريو الفيلم الهوليوديّ "لوسي" الذي صدر سنة 2014، وهو من بطولة مورغن فريمان وسكارليت جوهانسون. يجبرنا الفيلم على طرح السؤال الفلسفيّ/الكونيّ "ما هي حدود المعرفة؟"، لنعود بإجابات مبهمة حول ماهية الزمن والتطور والتكنولوجيا، وحول حقيقة "النقطة الصفر" في التاريخ والحياة والأشخاص، في كلّ شيء وفي لاشيء.

ما يهم الزائر للمعرض فعلا هو البحث عن إجابة وسط كلّ لوحة عن تلك التساؤلات التي تطرحها كلّ حركة بشريّة عاديّة (كمشاهدة فيلم أو قراءة كتاب أو الاستماع إلى مقطوعة موسيقيّة)، وإدراك النقطة المركزيّة التي جلبت انتباهنا بالذات وأجبرتنا على الرؤية داخلها ومن خلالها مرارا وتكرارا، ثمّ معرفة السبب وراء رغبات ساذجة كإعادة النظر إلى عمل فنّي لأكثر من مرّة، لا لشيء إلاّ للاستمتاع غير المتوقع والمتكرّر بمشهد مطبوع مسبقا في ذاكرتنا.