نقد السياسة من داخل السلطة: النموذج والملامح في تجربة الجزائر

الظروف التاريخية المواكبة لنشوء وتطور الدول والأمم تفرض أحيانا، بل وغالبا، مسالك خاصة في العمل السياسي، تستحيل بعدها إلى سمات متأصلة فيها حتى لتغدو تلك السمات مع الزمن قاسما مشتركا، ونمطا متميزا في إنتاج فلسفة وفكر سياسي يرتبط بتجربة ذلك المجتمع وتلك الدولة دون غيرها من المجتمعات والدول.
وفي الجزائر، التي امتازت عن كثير من غيرها من الدول التي كابدت ويلات الاستعمار بمشمول مدلولاته وكامل مجالات بطشه، بدا منذ استقلال الدولة أن محور الظاهرة السياسية كان السلطة كمشروع وآلية وهدف للنخب الثورية، سواء الحاكمة منها أو المعارضة، الأيديولوجية منها والتنظيمية، وهو ما سيجعل من بيت هذه السلطة وعائلتها المصدر الرئيس لإنتاج الفكر الوطني على مدار سنوات وعقود من عمر دولة الاستقلال.
حتى نخب التعددية التي ولدت من رحم ما صار يعرف لاحقا في أدبيات وتاريخ الجزائر السياسي المعاصر، بانتفاضة أكتوبر 1988، ورغم ما حصلت عليه النخب من مستويات عليا ودرجات متقدمة في التعليم والتكوين، كانت أدنى بكثير من أن تفرز فكرا سياسيا وطنيا تعبّر من خلاله عن نفسها كبديل للنسق الوطني التحرري القديم، تعْبُر عبره بالمجتمع إلى مرحلة جديدة من الوعي والعمل الوطنيين.
فكيف هيمن المنزع السلطوي على تشكيل السمات والملامح الكبرى لفكر وفلسفة وعمل السياسة في الجزائر؟
◄ السلطة كانت في مخاضاتها الأولى الأكثر جدلا ونقاشا حول معضلة السياسة وأسئلتها العميقة بالجزائر، من خلال ما كان ينتجه مثقفوها من واقعهم العملي ومن عملهم الواقعي في السياسة
قد لا يقتضي الجواب على هذا التساؤل منهجيا، العودة إلى التاريخ السياسي والإيغال العميق في عهود وعقود النشأة والصيرورة الخاصين بالوعي الوطني ومحطات تقلباته بين عنف ولطف واكبا إرادة وتطلعات رجالات الحركة الوطنية. وهذا حتى لا ينحرف بنا الأمر باتجاه التأريخ للسياسة بالجزائر وليس تحليلها ومحاولة إدراك كيفية اشتغال آلياتها اليوم في مجتمع لا يزال يبحث عن شكله من خلال السياسة.
وعليه، فإننا نكاد نجزم من خلال ما يمكن أن يُعقل وما لا يكاد يُعقل في منتوج السياسة عبر الفاعلين فيها كأفراد ومؤسسات، أن الفكر أو بالأحرى التفكير السياسي الوطني الجدي يكاد ينحصر في أولئك الذين انخرطوا في السلطة عمليا وتنظيريا، نظرا كما أشرنا إلى محورية هذه السلطة في العقل والخيال السياسيين الوطنيين.
وفي هذا السياق تحديدا يمكن الاستناد إلى نموذجين من مثقفي السلطة الفتية في الجزائر، وهي تتفرد بالمجتمع وتحاول قيادته من خلال “مشروع الدولة”، كما عبرت عنه حركة 19 يونيو الانقلابية بقيادة الرئيس الراحل هواري بومدين. هذان النموذجان يمثلهما كل من الراحل بشير بومعزة والراحل مصطفى الأشرف، حيث عُرفا بأنهما، بالإضافة إلى كونهما سياسيين تقلدا مسؤوليات في الحزب والدولة والحكومة، اشتغلا كثيرا على الفكر وأطلا من منظاره على المسألة الوطنية، أحدهما مركزا على المجتمع، والآخر على السلطة.
فبشير بومعزة أوسع النظر في السلطة، وبدا مستميتا في نقد السلوكيات القيادية النزقة التي تحاول كل مرة أن تتمرد على أصل الاجتماع أو لنقل المجتمعي للسلطة بالجزائر، ذلك النزوع الذي كان مصدر كل القلاقل التي حدثت وتحدث وستحدث في ما أكده أسابيع قليلة قبل وفاته. حيث اعتبر بومعزة أن الرغبة الكامنة كطموح شخصي في نفوس البعض في استيعاب الحقيقة الوطنية هو أصل كل المشاكل السياسية في الجزائر، باعتبار ذلك سعيا للحيدة عن التركيبة الجينية السياسية وللمجتمع، وبالتالي عن الدولة في الجزائر.
وفسر ظاهرة الاستعمال القاعدي الخاص لكل طرف من أطراف القوة الوطنية والسياسية في التمرد – أحيانا في الشارع عبر التكسير والتدمير – على القرارات الانفرادية، بكونها تعكس حالة ما أسماه بالفراغات التي تطبع السياسة وتعيق تطورها وبالتالي تطور المجتمع. وشدد على ضرورة أن يعبّر المجتمع عن نفسه من خلال مؤسسات الدولة على أن تحمل هذه المؤسسات حقا البعد المجتمعي بكل حقائقه ومكنوناته ومكوناته.
ومعلوم هنا أن بشير بومعزة كان قد انتفض ضد توجهات مجلس الثورة الذي نشأ عن انقلاب 19 يونيو، وقال وقتها قولته الشهيرة “أطحنا بابن بلة لتفرده بسلطة القرار فوُجدنا مجددا في الإبنبلية”.
◄ نخب التعددية التي ولدت من رحم انتفاضة أكتوبر 1988، ورغم ما حصلت عليه من مستويات عليا ودرجات متقدمة في التعليم والتكوين، كانت أدنى بكثير من أن تفرز فكرا سياسيا وطنيا تعبّر من خلاله عن نفسها
أما ثاني شخصية فكرية أو متفكرة في السياسة من داخل بنية السلطة، فهو مصطفى الأشرف، الذي مثل النقيض النظري لبشير بومعزة باعتباره رسخ الرؤية الفوقية التي كانت ترى في المجتمع الجزائري، وما ينتجه جهازه المناعي أو التمنعي من “أجسام مضادة” (Les anticorps) لكل مشروع تحديثي سببا في ما آلت أليه أوضاع الدولة، السلطة، الأمة والمجتمع على حد سواء.
خلاصة التفكير السياسي والوطني الأشرفي، هي أن المجتمع لم يرق بنفسه إلى مستوى مشروع الدولة لا باعتباره مجرد مشروع سياسي وتنظيمي فحسب، وإنما أيديولوجي متصل بالحقيقة ما فوق وطنية التي تكاد تغيب عن الوعي الجمعي، وهو بذلك ينقض أساسات البناء الاجتماعي والثقافي بحسبانها تعيق مسار انبثاق وعي جديد تنشده المعاصرة بل الحداثة السياسية، باعتبارها السبيل الوحيد للتطور واللحاق بركب الأمم المتقدمة.
فهو إذن تفكير يقفز على العناصر الأساسية في مكنون الهوية الوطنية، والأكثر من ذلك أنه يجعل من السلطة ضرورة اقتيادية لهذا الوعي، طالما أن المجتمع أظهر عجزه عن أن يبرأ بنفسه عن أمراض نفسه، لاسيما في عبارته الشهيرة التي تضمنها مقال له في بداية التسعينات ينتقد من خلال الظاهرة الإسلامية بكونها معرقلة لنمو وتطورها المجتمع فكتب يومها أن “الجزائر مريضة بدينها”!
هذان النموذجان في التفكير السياسي يكادان يغيبان عن وعي النخب السياسية الجديدة في أفق مشروعها التغييري وتحقيق ما تزعم أنها ترومه، وهو الانتقال السياسي التاريخي للمجتمع الدولة. فالسلطة كانت في مخاضاتها الأولى الأكثر جدلا ونقاشا حول معضلة السياسة وأسئلتها العميقة بالجزائر، من خلال ما كان ينتجه مثقفوها من واقعهم العملي ومن عملهم الواقعي في السياسة. ولعل السؤال الرائج اليوم عن سبب ضعف الطبقة السياسية وعدم قدرتها على إفراز فكر سياسي وطني متأت بالضرورة من هذا الجانب، أي غياب مثقفين نقديين عمليين للسياسة، استندوا على أرصدة عملية ومراجع فكرية قوية رسخت رؤاهم النقدية سواء لمجتمع السلطة كما هو حال بشير بومعزة، أو لسلطة المجتمع كما كان الشأن مع مصطفى الأشرف.