في نقد التراث السياسي.. الجزائر نموذجا

عادة ما يتشنج العقل العربي حالما يذكر نقد التراث؛ لأن العبارة مرتبطة في المخيلة العربية بحالة من الاسترابة من محمولات القداسة في أبعادها المتصلة بثوابت الإنسان كالهوية والدين والوطنية.
الخميس 2024/08/01
فراغ ثقافي وفكري قاتل

تكاد الجدلية الثنائية التصارعية بين التراث والتحديث تشمل كل الأجزاء لا بل الجزئيات في النقاشات العربية العامة، بسبب الجموح المستمر والمتواصل لمعطيات الاستعصاء في الاندراج والاندماج العام للمجتمعات العربية في حركية التاريخ، والتي عبرت عن نفسها في أكثر من نطاق، ولم تكن طبعا السياسة بمنأى أو معزل عن شراك هذه الجدلية، حيث حضرت بقوة من خلال عدة نماذج وطنية تناوشت وتشابكت فيها الإرادات السياسية بين رغبة في الاستمرار على نهج التأسيس الوطني الأول، ورغبات أخرى في تجاوز ذلك، تحقيقا لمبدأ التحيين إن لم يكن متاحا التحديث السياسي. وهنا تبدو التجربة الجزائرية ذات تميز نوعي عن نظيراتها من التجارب القطرية العربية الأخرى، فما الذي يعطيها عنصر التميز هذا؟ وما محتواه؟

عادة ما يرتج ويتشنج العقل العربي حالما يذكر نقد التراث، ذلك لأن العبارة مرتبطة في المخيلة العربية بحالة من الاسترابة من، أولا، مدلول التراث باعتباره من محمولات ومشمولات القداسة في أبعادها المختلفة المتصلة بثوابت الإنسان، كالهوية والدين والوطنية، واستحضار آلية النقد في هكذا حقل يعني بالضرورة إرادة مسبقة من الجرأة على الثوابت غير ذات نية سليمة ورؤية أصيلة.

ثانيا، الدلالة السلبية المأخوذة عن لفظة النقد، إذ عادة ما تحمل على أنها “نقض” أي رفض لما هو مجال للنقاش النقدي، وبالتالي صارت العبارة المركبة “نقد التراث” تحيل مباشرة إلى الاستلاب، الاستغراب، التعدي على ما هو خصوصي في النسق الجمعي والمشترك.

◄ بعض قادة التيارات الجديدة من مسرح التعددية الأولى اعتقدوا أن التراث النضالي للمعارضة، عبر كامل مستوياتها ومختلف أطرافها.. قادر على أن يكون مرجعا عمليا في فترة التعددية

وبعد أن ظلت الظاهرة تلك أكثر اتصالا وحضورا في قضايا الدين والثقافة، طالت في فترة ما بعد التحولات الكبرى التي عرفها العالم من تغيرات بعيد انهيار المعسكر الاشتراكي وتفرد الرأسمالية بالتاريخ، حتى اعتبرت من أشدّ عتاتها نهاية له، وفق المفكر الأميركي ذي الأصل الياباني فرانسيس فوكوياما -طالت- السياسة والمسائل التفصيلية المتعلقة بحركية نشاطها وكذا مغازي ومعاني عناصرها.

في الجزائر التي سبقت رغبة التغيير فيها موجة الثورات في أوروبا الشرقية نهاية ثمانينات القرن الماضي، كان القاموس السياسي القديم قد بدأ يتلاشى بمفرداته من خطابات الأمة السياسية والتاريخية، الأمر الذي سيخلط فيما بعد من طبيعة سريان العملية السياسية بعد إن تشوهت تلك الخطابات نظرا لحالة الفراغ التي نهض عليها التغيير الذي حصل بالانتقال بالصدمة دون وعي من الأحادية إلى التعددية السياسية والاجتماعية.

حالة الفراغ القاتلة تلك، هي التي ستصاحب العملية السياسية مجرِّدة إياها من كل عناصر القوة، التي كان يفترض أن تتسلح بها الساحة السياسية الوطنية، وهي تواجه تحديات كبرى سواء تلك التحديات التي كان يفرضها معطى الواقع الداخلي القائم على “الفراغ” أو التي فرضها المعطى الدولي الذي كان حينئذ في غاية من التقلبات السريعة.

إن المطب الذي وقع فيه العقل السياسي الجزائري جراء حالة الفراغ التي ارتضى أن يمضي عليها، وهو يسعى إلى التغيير السياسي والاجتماعي في البلد، بعد أن زُجَّ به في مسار تعددي، لم يكن لديه عنه فكرة مسبقة ولا تحضير أولي لاقتحامه، هو أنه صار على نهج “العضلة” دون “الفكرة” في مسار بطشه السياسي، كما لو أن السياسي الجزائري لم يستوعب جيدا الحقيقة التاريخية والطبيعية لهذا الحقل باعتباره يُعنى بأرقى نشاطات الإنسان، وهي أن الحركية السياسة تكون في المنطلق والأساس فكرية أي على مستوى الأفكار وليس العضلات، اعتقد بعض قادة التيارات الجديدة من مسرح التعددية الأولى أن التراث النضالي للمعارضة، عبر كامل مستوياتها ومختلف أطرافها من انتفاضات جزئية واحتجاجات قطاعية طبعت فترة الأحادية، قادر على أن يكون مرجعا عمليا في فترة التعددية وبالتالي يكون آلية سياسية للضغط على السلطة وتحقيق التغيير.

تصور كهذا، بما يحمله من سذاجة في ضبط خارطة الطرق نحو أفق التغيير، إنما كان مأتاه الحقيقي غياب الحركية الفكرية في نقد التراث السياسي للأمة، الوطني منه والنضالي، وما قد ينتج عن ذلك من بُعد وتخطيط إستراتيجيين يتيحان فرصة تحقيق الانتقال السياسي الصحيح والسلس، الذي من شأنه أن يثبت سيرورة العملية السياسية من ناحية، ومن ناحية أخرى يجنب المجتمع ككل، والمجتمع السياسي على وجه الخصوص، مغبة السقوط في أتون الفوضى التي يبتغيها ويأملها دعاة الاستبداد.

◄ في الجزائر التي سبقت رغبة التغيير فيها موجة الثورات في أوروبا الشرقية نهاية ثمانينات القرن الماضي، كان القاموس السياسي القديم قد بدأ يتلاشى بمفرداته من خطابات الأمة السياسية والتاريخية

لقد تجلت إرادة عدم نقد التراث السياسي والنضالي الوطني بالجزائر، ليس فقط على مستوى الأداء “العضلي” لساسة التعددية الأولى التي امتدت لثلاث سنوات 1989 – 1992، وإنما حتى في الكتابات السياسية التي أتى بها عصر الانفتاح التعددي ذاك، وهذا حين شرعت المذكرات والسير الذاتية لأهم شخصيات الحركة الوطنية تسرد الوقائع السياسية والجهادية أيام النضال الوطني ضد الاستعمار والاختلافات والخلافات التي حصلت بين فرقاء القضية الوطنية، لكن على مستويات أدنى بكثير من أن تكون عميقة في رسم سمات العقل السياسي والثوري الناشئ في المجتمع الجزائري وقتها، وكانت بذلك أكثر اتصالا بالأحداث التاريخية منه بفلسفة السياسة وبعدها الاجتماعي التأسيسي للوطنية الجزائرية.

إن نقد التراث السياسي والوطني ليفرض أسئلته الكبرى التي تربط بين الحاضر والماضي، مثل: هل لا تزال معاني “الوطنية الأولى” التي شكلت القاعدة الواسعة لحرب التحرير الوطنية قادرة على تحريك وتفعيل الإرادة الفردية والجماعية للأمة من أجل بناء مشروع وطني جديد؟ وما هي النواقص والنواقض التي أفشلت مشروع الوطنية الأولى في مرحلة ما بعد الاستقلال؟

وأخيرا، هل يمكن الحديث عن إمكانية نزع البعد الأيديولوجي للوطنية الذي ألبسته في تجربتها الأولى حتى غدت أداة معطلة للتطور السياسي للأمة بعد إذ غمرت بأيديولوجيتها تلك كل مؤسسات الدولة واستقرت في مفاصلها؟

من هنا يبدأ نقد التراث السياسي والوطني لأمم، من دون تقديس أو تدنيس، باعتباره نشاطا بشريا إنسانيا محكوما بمقتضيات الزمن وخصائص التاريخ، وأي رغبة مسبقة في إلباسه لبوس الثوابت، سوف لن تعني شيئا غير تثبيت وتثبيط الأمة وإعاقتها عن التطور والتقدم في مسرح التاريخ.

9