نقاد بلا حسيب أو رقيب

الجمهور اليوم أصبح الكثير منه يرى أن الفن العربي موجود للإلهاء والترفيه فقط، وأن العاملين فيه يفسدون الشعوب، وأن النقد لا يرتقي ليكون مهنة.
الأربعاء 2024/10/09
أي قيمة لعمل فني من دون نقاد

تتكرر المرات التي نشاهد فيها مقالات نقدية لعمل فني وخاصة في مجال السينما على مواقع التواصل، صاحبه عادة لا شأن له بالنقد السينمائي أو حتى الصحافة الثقافية، لكنه يبدو كمن يكتب بحرفية عالية، بحجج مقنعة، وبأسلوب العارف بأسرار الصناعة.

مثل هؤلاء يستحقون أن نطلق عليهم صفة ناقد، في زمن أصبحت فيه المهرجانات العربية تعج بأشباه النقاد، وتمتلئ بصحافيي البلاغات. والمؤسف أننا نجد بعض المهرجانات السينمائية تبدأ وتنتهي دون أن نقرأ لضيوفها الأعزاء مقالا نقديا واحدا.

الناقد الفني عامة يعرف بأنه شخص متخصص في تحليل الفن وتفسيره وتقييمه. سواء كان هذا الفن سينما أو مسرحا أو فنا تشكيليا أو غير ذلك، وتساهم انتقاداته أو مراجعاته المكتوبة والمسموعة والمرئية في فنون النقد. وتثري كتاباته أهم الصحف والدوريات والبرامج التلفزيونية المتخصصة.

ويتعامل مع النقد على أنه أمر لا يحتاج تكوينا أكاديميا، إذ لا يوجد تدريب مؤسسي رسمي للنقاد مع استثناءات قليلة فقط؛ في البلدان المصنعة للفن بكثرة، أما لدى البقية فيأتي نقاد الفن من خلفيات مختلفة، لكنهم في الغالب ما يكونون مثقفين، لديهم معرفة بتاريخ الفن، وملمين بأكثر من مجال، منحهم انشغالهم بالفن معرفة بكواليسه وإقامة علاقات مع الفنانين تكسبهم معرفة بتجاربهم ومواقفهم، كل ذلك يجعل آراء هؤلاء النقاد قادرة على إثارة النقاش حول المواضيع ذات الصلة بالفن، ويجعل كتاباتهم مقنعة.

اليوم صرنا نرى حضورا هزيلا للنقاد في المهرجانات، وخاصة التونسية. وصرنا نرى قائمات لجان مهمة للنقد الفني ترشح لهذا المهرجان أو ذاك في كل الوطن العربي، ونحن قد نعلم أن بعض الأسماء من بينها لم تكتب مقالا نقديا طوال حياتها، وبعضها يكتب بأسلوب لا يرتقي إلى مستوى النقد.

والمثير للانتباه أن الصحف والمواقع الصحفية تساهم أيضا في انتشار مثل هؤلاء، وتضر بشكل غير مباشر بحركة النقد الفني وبالتالي بحركة الفن عامة. وإلا كيف تفسر أن يرسل أحد الكتاب مقالا لا يستحق النشر، ورغم ذلك يعيد المحرر الصحافي الاشتغال عليه فـ”يرممه” ويصنع منه مادة مقبولة، ثم يخضع للتدقيق، ويخرج للقارئ على أنه بقلم فلان؟ وفلان هذا ينفش ريشه كالطاووس ويسير من مهرجان إلى آخر متباهيا بكتاباته وجودتها.

البعض أحيانا يحضر المهرجانات ويعيد نشر بلاغاتها اليومية، البعض الآخر يسرق مواد سبق نشرها، واليوم تطورت السرقة، فبعضهم يسرق مقالات بلغات أجنبية ويترجمها، ولأن لا أحد من إدارة المهرجان ومكتبه الإعلامي يدقق خلف المدعوين، فإنك من السهل أن تجدهم يثمنون جهوده الكبيرة التي بذلها لتقييم الأعمال الفنية وإجراء حوارات مهمة، ويخاطبونه بـ”الناقد الكبير”.

مثل هذه الأخطاء أدركتها بعض المهرجانات القليلة، فمن يحضر مهرجانا عليه أن يقدم ما أنجزه من مواد، وتخضع مواده للتقييم. السعودية مثلا كانت سباقة في أن قررت مواكبة حركة النقد، بمؤتمرات للنقد موزعة على أنحاء المملكة ثم مؤتمر دولي، تخلق نقاشات حية ومباشرة، وتستقطب النقاد من أصحاب التجربة الكبيرة والخبرة.

كل ما يحدث يؤكد لنا أن هناك قلة من نقاد السينما والفن العرب لديهم القدرة على صياغة الوعي الثقافي الشامل وتعزيز النقاش حول واقع الفن في المنطقة ومستقبله، البقية يصولون ويجولون لا حسيب لهم ولا رقيب، تستضيفهم المهرجانات، تكرمهم وتعطيهم فرصا للسياحة المجانية، شعارهم في ذلك عند المصالح نتصالح والعلاقات هي من تحكم اليوم.

الأسوأ من كل ما سبق، أن الجمهور اليوم أصبح الكثير منه يرى أن الفن العربي موجود للإلهاء والترفيه فقط، وأن العاملين فيه يفسدون الشعوب، وأن النقد لا يرتقي ليكون مهنة، بل يسخرون من كل من يقول عن نفسه ناقدا، وإن استمر الأمر سيعود الفن ونقاده كما كانوا منذ عقود غريبين ومنبوذين.

18