نعرف البعيدين عنا ونجهل جيراننا

لعبت الحضارة العربية سابقا من خلال تراجمها دور الوسيط بين الفلسفة اليونانية والفلسفة الأوروبية، لكن لم يتوقف الفلاسفة الأوروبيون عند الوسيط، بل تجاوزوا ذلك إلى بناء علاقات مباشرة من خلال البحوث والنقد وغيرها مع تلك الحضارة، ما ساهم في تمتين العلاقة بين الفلسفة الأوروبية واليونانية. حيث لا يجب الاكتفاء بالنقل عن الوسيط، كما تفعل الحضارة العربية اليوم التي تنقل أفكار وأدب وعلوم الأمم الأخرى غالبا عن طريق وسيط مكتفية بذلك.
على الرغم من القرب الجغرافي والعلاقات التاريخية والثقافية القديمة، لا تزال العلاقة بين ثقافات الشرق شبه غائبة، بسبب ضعف الترجمة والتبادل الثقافي في ما بينها، أو اعتماد اللغات الوسيطة في الترجمة عنها للتعرف إلى ما يحقق شهرته عالميا منها، ما يعزز مركزية الثقافات الغربية التي تفرض سطوة حضورها على ثقافات هذه البلدان.
منذ حملة نابليون بونابرت على مصر لا تزال الثقافة العربية تخضع لتأثير الثقافات الأوروبية المباشر، وقد ساهم نشر اللغات الأوروبية خلال مرحلة الاستعمار الغربي لبلادنا في تكريس هذه التبعية، في حين ظلت العلاقة مع الجوار الآسيوي شبه غائبة، إذ لم تحاول هذه الدول أن تنفتح على محيطها الجغرافي والثقافي ومد جسور المعرفة والتواصل الحضاري في ما بينها، ربما لنفس الأسباب التي جعلت الثقافة العربية تظل تدور في فلك الثقافة الغربية، وتتجاهل ثقافات الجوار الأخرى على الرغم من المشترك الثقافي والسياسي الذي يجمع في ما بينها.
الواقع القديم الجديد
الحقيقة أن هذه العلاقة المحدودة من الانفتاح بين ثقافات الجوار الآسيوي ليست جديدة، فعندما بدأت حركة الترجمة في عهد المأمون تركزت عمليات الترجمة بصورة أساسية على العلوم والفلسفة اليونانية، بينما كانت الأعمال التي تمت ترجمتها عن الهندية والفارسية محدودة بمجهودات شخصية من مترجمين هنود وفرس.
ولعل الغريب في هذه العلاقة أن معرفتنا بهذه الثقافات لا تزال غالبا في إطار تلك الترجمات القديمة، التي ظلت تدور في إطار الأدب، فنحن نعرف عن الخيام وشمس الدين التبريزي والشيرازي أكثر بكثير مما نعرفه عن شعراء تلك الثقافات خاصة الحديثين منهم، ولولا بعض الترجمات المحدودة هنا وهناك لبعض النصوص الشعرية لكان جهلنا بهذه التجارب مؤكدا.
إن استمرار هذا الواقع يتعارض مع المصلحة المشتركة لشعوب هذه المنطقة، في تعميق صلاتها الثقافية والروحية انطلاقا من إدراكها لأهمية الجغرافيا والتاريخ في خلق عوامل التقارب، التي تشكل الثقافة المرتكز الأساس في هذه العلاقة، التي تعزز وحدة هذه الشعوب وتفاعلها الخلاق في مواجهة الهيمنة الثقافية للغرب وقيمها الخاصة، التي تزداد تحدياتها في زمن العولمة والحدود المفتوحة والإنترنت.
اللغة الوسيطة
تتخذ هذه العلاقة بين الثقافات شكلا غريبا من المعرفة، عندما تتم عمليات الترجمة من خلال اللغات الغربية الوسيطة، نظرا إلى الدور الذي تقوم به مؤسسات الثقافة الغربية في اختيار التركيز على أسماء وأعمال ذات توجهات تخدم توجهاتها الثقافية والسياسية.
إن انتقائية الثقافة الغربية للأعمال والتجارب التي تتماشى مع رؤيتها وقيمها الخاصة، تجعل معرفتنا بثقافات الجوار الآسيوي ناقصة، أو محكومة بالمعيار القيمي الغربي. لذلك تبقى هذه العلاقة فضلا عن وصولها إلينا من خلال لغة أخرى بعيدة عن تكوين معرفة وافية بالواقع الحقيقي لتلك الثقافات بتياراتها ورموزها وقضاياها المختلفة.
هنا تلعب الترجمة المباشرة عن تلك اللغات دورا مهما، في تطوير وتعزيز هذه المعرفة وإغنائها. ولا يمكن لعمليات الترجمة المحدودة والتي تعتمد على مجهودات خاصة في الغالب أن تفي بالأهداف المشتركة لتعميق هذه العلاقات وتكوين وعي حقيقي بالتراث الثقافي الحقيقي لهذه الشعوب.
لقد تعرف القارئ العربي إلى روايات الكاتبة الهندية أروندهاتي روي من خلال الترجمة عن الإنكليزية، وكذلك تعرف إلى أغلب الأعمال الروائية اليابانية وروايات الأفغاني عتيق رحيمي وقبله الروائية تسليمة نسرين عن طريق الترجمة عن لغات أخرى.
ولا يختلف الأمر بالنسبة إلى السينما الإيرانية التي تعرفنا إليها من خلال مهرجانات السينما الأوروبية وما حققته أفلام جعفر بناهي وعباس كيارستمي ومجيد مجيدي فيها من شهرة هناك، في حين لا نجد أي عرض لهذه الأفلام على شاشات السينما العربية، على الرغم من أن أكثرها يتميز بجرأة مقاربته لقضايا الواقع الاجتماعي والسياسي وتحديته هناك، إضافة إلى القيمة الفنية والجمالية.
ولا يختلف الحال بالنسبة إلى الأديان والمذاهب الروحية والفكرية في هذه البلدان، إذ لعبت الترجمة عن المؤلفات الغربية التي تبحث في هذه المذاهب والمعتقدات دورا أساسيا في تعرفنا إليها، ما يجعل هذه المعرفة بها محكومة بالمنظور الثقافي الغربي، الذي يتم من خلاله تقديمها والتعريف بها، في حين لم تظهر أي محاولة جدية للترجمة عن هذه الثقافات على الرغم من قربنا منها.
على خلاف ما حدث بالنسبة إلى الثقافة الغربية، التي كرس هيمنتها وانتشارها شيوع النمط الاستهلاكي والثقافي، فإن البيت العربي الذي لا يكاد يخلو من منتج صناعي صيني مازالت مكتباتنا شبه خالية من كتب الترجمة عن هذه الثقافة. لا شك أن الجهل باللغة الصينية بسبب صعوبتها وعدم اهتمام الصين بالجانب الثقافي على قدم المساواة مع المنتج الصناعي قد أسهما في غياب المعرفة بهذه الثقافة ذات التاريخ العريق.
وعلى ندرة الأعمال المترجمة عن هذا الأدب فإن الترجمة كانت على غرار عمليات الترجمة الأخرى عن لغات وسيطة. إن بلدا يتميز بغناه الحضاري منذ القدم وبعلاقاته التاريخية التي فرضتها الجغرافيا يجعل من المهم التعرف إلى ثقافته وتعريفه بالتطور الذي بلغته الثقافة العربية أيضا.
ما تحتاجه شعوب هذه المنطقة التي تجمعها الجغرافيا والكثير من القيم الروحية والإنسانية، هو سياسة فتح الأبواب أمام هذه الثقافات التي تشترك في الكثير من القيم والهواجس والهموم بصورة تزيد من تفاعل معرفة هذه الشعوب مع بعضها البعض، وتسهم في تعميق صلاتها الروحية والوجدانية والثقافية، خاصة وأن عناصر تقاربها وتفاعلها أكثر بكثير من أي ثقافة أو جغرافيا أخرى في هذا العالم.