نعبّرْ ولّا ما نعبّرش

قد تكون الثورة منحتنا الأمل بأننا أحرار، لكن الحرية في تونس لا تزال إشكالية عميقة قد يلم بها علماء الاجتماع.
الأربعاء 2024/12/18
"كن حرّا ثمّ قل ما تريد"

“نعبر ولا ما نعبرش” (أعبر أو لا أعبر عن أفكاري)، عبارة شهيرة يحفظها الكثير من التونسيين عن مسرحية كوميدية شهيرة للممثل رؤوف بن يغلان، ويرددونها كلما تطلب الأمر منهم إبداء رأيهم في أمر ما، كنوع من السخرية مما يحدث.

أستحضر هذه العبارة بعد أن شاهدت فيديو قصيرا للممثل وهو يعبر عن آرائه ومواقفه فيما يحدث في تونس وتحديدا الوسط الثقافي، وكيف رآه المعلقون رجلا مثقفا ذا عبارات منمقة وقادرة على الإقناع. كيف لا وهو إلى جانب تخصصه في المسرح، درس علم الاجتماع بجامعات فرنسا، ووظف دراسته تلك في تقديم تشريح فني للمجتمع التونسي.

“نعبر ولا ما نعبرش” قد تكون هي العبارة المناسبة عندما نعرف أن تونس تحيي هذه الأيام ذكرى الثورة. البارحة أحيت على استحياء غير معتاد الذكرى الرابعة عشرة لاندلاع ثورة “الياسمين” كما يحب البعض أن يسميها، ثورة غيرت الكثير من ملامح البلاد سياسيا لكنها لم تحدث تغييرات كبيرة على بقية المستويات.

لم تنته الاحتفالات، ولن يتمتع التونسيون بهذا اليوم فقط إجازة وإنما ينتظرهم يوم آخر، فنحن كالعادة مختلفون دائما، هل نحيي ذكرى 17 ديسمبر واندلاع أول شرارات الثورة أم نحيي ذكرى 14 يناير تاريخ الإطاحة بنظام زين العابدين بن علي الذي غادر البلاد نحو السعودية وتخلص الشعب من حكم رجل واحد جثم على صدره 23 عاما.

لم يكن خروج الشعب التونسي بالأساس من أجل مطالب اقتصادية، إنما أججته الرغبة في التحرر من السلطة الواحدة، رغبة في الحرية ورغبة في التعبير الحر، ثم تحولت الشعارات إلى “خبز وماء وبن علي لا”، ليعيش التونسي السنوات التالية للثورة كلها يبحث عن الخبز والماء.

في زمن نظام بن علي، لم يكن هناك صوت يعلو على صوته في البلاد، إما أن يوافقه السياسيون أو ينافقوه ولا مجال لصوت آخر، كان كل حديثهم همسا، وكل تحركاتهم توأد منذ ولادتها، وغيب أغلب الشعب عن الاهتمام في الشأن السياسي قسرا، رغم إجماعه على أن الوضع أصبح لا يحتمل.

نجحت الثورة في إسقاط الرئيس لكن نظامه استمر في تسيير دواليب الدولة. عاش التونسيون في السنوات الأولى حرية غير مسبوقة فعبروا واستغلوا المنابر الإعلامية ليصرخوا ويسبوا ويتنمروا على بعضهم البعض ولم يسلم حتى الرؤساء من تنمرهم. هل رأيت شعبا غيره ينادي رئيسه بـ”الطرطور” سرا وعلانية وعلى منصاته الإعلامية؟

شهدنا انفلاتا كبيرا في منسوب “حرية التعبير”، الكل يعبر كما يحلو له، ينتقد، يقول رأيه فيما يعنيه وما لا يعنيه، يبدي مواقفه المتشددة في أي مجال أو حدث هو عالم أو جاهل به، وفتحت علينا بوابة الإعلام الاجتماعي والبرامج الاجتماعية لتنشر على الملأ فضائح العلاقات.

تدريجيا بدأنا نعود إلى الحال الأول، أو الأصح أن السياسيين والمثقفين ونخبة المجتمع هي من عادت، ربما بفعل الإحباط أو العجز عن التغيير، وحده الشعب من لا يزال أغلبه يعبر، تجده يفتي في كل شيء منذ ساعات الصباح الباكر.

يظهر البعض انزعاجه من تطفل الآخرين وتعبيرهم الذي لا حد له، لكن لا أحد يملك أن يسكت هؤلاء المتعطشين للحديث، يبدو أنهم بالفعل كما يقول بن يغلان في مسرحيته لم يتربوا على حرية التعبير، لذا هم يحاولون تعويض نقص فادح في أرواحهم.

قد تكون الثورة منحتنا الأمل بأننا أحرار، لكن الحرية في تونس لا تزال إشكالية عميقة قد يلم بها علماء الاجتماع، فأغلبنا يتلمس أول خطواته نحو الحرية، محاولا الإفلات من عادات وتقاليد وقيم وسلوكيات جيل يريد تشكيله كما يريد.

وكما كان يردد بن يغلان “حرية التعبير تضحكني وتسخفني” (أشفق عليها)، لكن كي تمارسها بوعي “كن حرّا ثمّ قل ما تريد.”

18