نصير شمة لـ"العرب": حادث أوقفني عن ممارسة الموسيقى وذهب بي إلى الألوان

مؤخرا، فاجأ الفنان العراقي نصير شمة متابعيه بافتتاحه معرضا للوحاته، إذ عرف مؤلفا موسيقيا وعازف عود، قدم تجربة طويلة في ابتكار موسيقاه التي أهلته لينال انتشارا واسعا، منفتحا في أعماله الموسيقية على مختلف الفنون الأخرى وخاصة الرسم، وهذا ما يؤكده في معرضه الأول. “العرب” كان لها هذا اللقاء معه حول معرضه الفني الأول.
عُرف عن أستاذ العود العربي الفنان العراقي نصير شمة انتماءه لعالم الفنون برحابته الجمالية والفنية. فعبر الموسيقى تواصل مع الشعر والقصة واللوحة والمسرحية، لتظل الموسيقى محور الإبداع الرئيس في مسيرته. لكن أخيرا، كانت المفاجأة بدخوله عالم الفن التشكيلي.
أطلق شمة مؤخرا، معرضه التشكيلي الأول بعنوان “رؤية وحياة: أربعون عاما من الألوان” الذي جمع فيه أكثر من ستين عملاً فنياً بمواد لخامات متعددة، أنجزها الفنان خلال السنوات الماضية، وقد افتتح المعرض الذي يستضيفه غاليري الاتحاد بالعاصمة أبوظبي في الحادي عشر من فبراير ويستمر إلى غاية الثامن من مارس 2024.
أول معرض
تضمن معرض نصير شمة مجموعة متنوعة من الأعمال الفنية ذات الطبقات المتراكبة والسطوح الغنية والكثيفة، وإن كانت تتعدد في استخدامها الخامات الفنية في العمل الواحد، في ما يشبه محاولة نصير شمة لتفكيك العمل الفني إلى أجزاء ذات علاقات بنيوية أسلوبية، وهو صاحب رسالة الدكتوراه المعنونة “الأسلوبية موسيقيّاً”.
وقد أكد خالد صدّيق المطوّع، صاحب غاليري الاتحاد، أنّ معرض شمة التشكيلي الشخصي، يُعدُّ فتحاً من فتوحاته في اللون واللوحة والتركيب الفني، كما اعتدناه في الموسيقى أداءً وبحثاً وتأصيلاً وتأريخاً، وقال “يستقرئ نصير العمل الفني عن مآلاتِه المفاهيمية، ومكانته الوجودية ككيان رديف للفنان نفسه، أيا كان شكل هذا الكيان، لوحةً أم آلةً أم وتراً يعزف موسيقى وينزف معاناةً وأملاً بعد ألم.
وأكد المطوع على أنه “لا يختلف إثنان في أن نصير شمة مشروع متكامل موسيقيا، واليوم سنعرف جهة أخرى من نصير التشكيلي برهانات فنية مغايرة ومتماسكة وعالية، الجهة التي لم يكن يعرفها إلا القلة من أصدقائه. ويسعدنا في غاليري الاتحاد أن نشارككم هذه المساحة الخاصة والتي استغرقت نصف حياة كاملة، وستكتمل الصورة بإصدار كتاب فخم يتناول تجربة الفنان ورهاناته الجمالية في التشكيل”.
أما الفنان نصير شمة، فأشار إلى أنّ اشتغاله على اللوحات بهذه الطريقة دون سواها، مردّه إلى مجموعة من العوامل الدافعة لهذا الاشتغال، وأولها اهتمامه بالإنسان الذي يعاني المجاعات والحروب والكوارث الطبيعية في جدلية الوفرة والندرة، لدوره الإنساني كفنان أولاً، وكسفير اليونسكو للسلام، والسفير فوق العادة للموسيقى العربية.
أما ثاني دوافعه، فيتمثل في وفائه وولائه للمكان الذي احتضنه وقدّم إليه الكثير خلال مسيرته الفنية ودوره مديراً لبيت العود العربي في أبوظبي، المكان الذي شهد إنجاز أغلب أعماله التي يتضمنها المعرض، مع ما يعنيه ذلك من علاقةٍ حميمةٍ بالعود، صناعةً وعزفا ودراسة، وكيف تؤدي الموسيقى والفنون بشكل عام، إلى تهذيب الطاقات، فضلا عن قدرتها على تحويل الطاقة السلبية إلى طاقة إيجابية.
بينما يتمثل دافعه الثالث والأبرز في علاقة الخامات المستخدمة في الأعمال الفنية والتي يأتي أغلبها من صناعة آلات العود ومخلفاتها في بيت العود بأبوظبي، حيث يستخدم نصير المخلفات لإعادة إحياء واستخدام مادة الخشب الطبيعي التي يمكن أن تحمل دلالات رمزية عالية للشجر والطبيعة الأم، ومسؤولية الفنان قبل أي إنسان آخر، في ترسيخ مفاهيم الاستدامة والحفاظ على الطبيعة والارتقاء بالوعي البيئي، انسجاماً مع إعلان الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، رئيس الدولة، تمديد مبادرة “عام الاستدامة” لتشمل عام 2024، بهدف البناء على ما تحقق من نجاحات خلال عام 2023، متزامناً مع “يوم البيئة الوطني” في دولة الإمارات، وفي إطار التزامها بأهداف التنمية المستدامة.
حول بدايات تجربته التشكيلية يقول شمة لـ”العرب”: “تجربتي المتواضعة في الرسم بدأت عام 1989 تحديدا بعد حادث وقع لي، فكان أن لجأت للألوان لأخرج نفسي من ظلال من تأثير الحادث وآثاره التي ألمت بي، حيث ظللت فترة طويلة غير قادر على ممارسة الموسيقى. من هنا كان أن لجأت إلى الألوان، وبحكم تعلمي للرسم أسوة بكل التلاميذ الصغار والمراهقين انطلاقا من المدارس الابتدائية ومرورا بالمدارس الإعدادية والثانوية، حيث ظلت معي من هذه الفترة المبكرة اهتمامات خاصة بالمسرح والفن التشكيلي بالإضافة إلى الموسيقى التي كانت هي الأساس”.
ويضيف “لقد استعدت تفاصيل الرسم الأولية، ثم علاقاتي ونقاشاتي مع الفنانين التشكيليين وفضلا عن سعة اطلاعي ومتابعاتي لكل المعارض التشكيلية التي كانت تقام في بغداد. وبدأت الرسم بتجربة كانت خاصة وظلت خاصة لمدة عامين، بعدها وضعت ما أنجزت من لوحات في مكتبي. وأثناء زيارة فنانين أصدقاء كانوا يتساءلون باهتمام عن اللوحات ومصدرها وفنانها، اضطررت إلى الاعلان عن أن هذه الأعمال هي لي وأنها مجرد رغبة وأنني لا أريد دخول المجال، ولكني أريد فقط أن أعبر عما يشغلني من خلال الرسم ولا أستطيع التعبير عنها موسيقيا أو أحيانا أريد تحويل الموسيقى نفسها إلى لون”.
النوتة واللون
ويذكر أنه انطلاقا من ذلك أخذت التجربة مسارا مختلفا، فقبل عامين كان أن أخذت الفنانة سلوى زيدان أربعة أعمال عرضتها ضمن مرسمها في “أبوظبي آرت”، وبعد ذلك كان العمل على المعرض الشخصي الأول الذي أطلقه أخيرا.
ويوضح “منذ بداية عملي بالموسيقى وأنا طفل صغير كنت أرى أن لكل تون وتدرجاته في الموسيقى لون، فتدرجات التون الواحد في الموسيقى تشبه كثيرا التدرجات التي في اللون الواحد أيضا. كيف تتعامل مع مادة اللون الخام؟ كيف تخففها؟ كيف تخلق من هذا اللون ألوانا متنوعة؟ وحين تضعها على كاندز تأخذ شكلا مختلفا عن حالة وضعها على الخشب؟ وحين تخففها ـ
هي نفس اللون ـ لكن يمكن أن تخرج منها عدة ألوان. في الموسيقى نفس الأمر بالنسبة إلى التون، حيث يمكن أن تلعب به بعدة طرق”.
ويتابع “منذ ذلك الوقت كانت هناك جسور تولد وتترابط بين الموسيقى والفن التشكيلي لدي. مع ملاحظة أنني طول عمر تجربتي الموسيقية الطويل عملت على موسيقى الصورة، مثال ذلك مقطوعات مثل ‘رقصة الفرس’، ‘حدث في العامرية’، و’حب العصافير’ وغيرها العشرات من القطع الموسيقية، كنت أتحدث فيها عن فكرة موسيقى الصورة. لقد كان بذهني دوما أن لكل تون درجة لونية، ولكل قطعة موسيقية شكل لوحة، وقد عملت على تجربة تحول ثلاثين لوحة فنية لكبار الفنانين التشكيليين العراقيين إلى لوحات – قراءات موسيقية مدة كل منها 3 دقائق في الثمانينيات وأنا طالب. دائما كان يشغلني الفن التشكيلي إلى أن بدأت الانفتاح على آفاق علاقته بالموسيقى”.
وأخيرا، حول تجواله في مختلف دول العالم عازفا مبدعا ومعايشته لأحداث عربية وعالمية ألقت بظلالها على الإنسانية جميعها تركت أثرا إنسانيا وفنيا عليه، فكان السؤال عن تأثير هذه الأحداث على تشكيل رؤيته الفنية في المعرض كما في أعماله الموسيقية، حيث أكد أن “الإنسان لا يتغير وإن تغير أسلوب تعبيره سواء كان موسيقى أو لوحة أو أي عمل ابداعي. الفكر هو ما يحمل البعد الخفي لظاهر الفن، لذلك الأحداث تلقي بظلالها حقيقية وواضحة وصريحة جدا على أي عمل أقوم به أو أي تصريح أقوله، نحن ننتمي إلى الإنسانية ولا ننتمي للبشاعة التي تقتل الإنسانية. وبالتالي، من واجبنا كبشر يعايش هذه الأحداث أن نعبر عنها، وكفنانين لابد أن يكون لنا موقف صريح ومعلن وواضح تجاه ما يحدث”.