نصب الحرية أو الطابع اللازمني للفن

طوفان بشري تواق إلى التغيير يحتضن نصبا يحمل عنوان “نصب الحرية”، خرج قبل أكثر من أسبوعين إلى ساحة التحرير في بغداد حيث ترتفع الجدارية المنحوتة، لينجز ثورة تثوي في عمق الفكرة الفنية المرتفعة في ثبات. لم يكن جواد سليم يفكر في هذه اللحظة، ولا في هؤلاء الثوار الجدد التواقين إلى العدالة والحق والكرامة حين وضع رفقة رفعت الجادرجي ومحمد غني حكمت، أحد أشهر النصب الفنية العربية في القرن العشرين؛ أجساد تزيح أسيجة وجدرانا، شخوص ترفع أيديها للسماء، كتل بشرية مكوّمة، وأخرى في لحظة عراك، أجساد تحمل أخرى أو ترفع رايات، جنود وثوار دون هويات واضحة، إلا هوية العري والجوهر الجسدي… ملامح قادمة من حضارة بلاد الرافدين القديمة السومرية والآشورية، أربعة عشر تشكيلا برونزيا على الجدار العريض تشخّص لحظة التوق إلى الانعتاق وما يكتنفها من ألم وما تقتضيه من عنفوان وجلد وإيمان بالخروج.
وفي لحظة نقل التغطيات الإعلامية المتباينة عبر فضائيات العالم لوقائع خروج الملايين من المتظاهرين، بصخبهم الثوري، وحصارهم من قبل أجهزة السلطة والتنكيل بهم، لا يلوح في الأفق إلا المجسم الكبير ورموزه التي تتصادى لحظتها مع دلالات الراهن، متجاوزة ثورة 14 من تموز العراقية، التي سعت إلى تمجيدها وتخليدها في الذاكرة الجماعية وتاريخ الفن. هل هي نبوئية الفن، وصدقه، وقدرته على التقاط وجيب الشعوب؟ مؤكد، وصحيح أيضا أنها صفة تتصل بحرية الأسلوب العظيم، تلك التي تؤهله دوما لأن تتلاءم مدونته التعبيرية مع السياقات المتبدلة، ومع لحظات الامتداد الدائري للتاريخ. إنه المعنى الذي اختصره الفنان العراقي شاكر حسن آل سعيد، رفيق جواد سليم، في فقرة شديدة الدلالة من كتابه “الحرية في الفن”، حيث يقول “ليس المهم أن أرسم محتوى ما، ولا أن أجدد في شكل ما، إنما المهم أن أكون إنسانا حرا حينما أرسم، وحينئذ سأستحضر في لحظة واحدة دهورا بأكملها، وستكون شاهدة على عملي البسيط لطخة من الألوان”.
والحق أن دراسة الأعمال الفنية في ضوء ما تستمده من رمزيات متصلة بسياقات تاريخية متبدلة، هو ما جعل عددا كبيرا من مؤرخي الفن يعتبرون الأسلوب ذا طابع ثقافي “لا زمني”، أو مجرد من “لحظيته” بتعبير أدق، وإن كان يرتبط بالحواضن الاجتماعية والسياسية والفكرية؛ ففي مقالة كتبها المؤرخ الأميركي ميير شابيرو بعنوان “مفهوم الأسلوب” يعرف الأسلوب الفني بما هو تجسيد للصلة بين مجموعة اجتماعية وفنان بعينه، كما يقدم تاريخا لهذا المفهوم من الدلالة المتصلة بالحقبة التاريخية والعصر إلى المعنى المتصل باليد والمهارة، ويبين كيف تؤدي الثوابت الأسلوبية وظيفة أساسية في خلق المشاعر القومية، التي تمتد من الأحاسيس ذات الجوهر العنصري إلى تلك المولدة للثورات.
في هذا السياق تحديدا، يمكن أن نرى أعمال الغرافيتي التلقائية والمؤقتة، بوصفها النموذج النقيض لمفهوم الأسلوب الاستشرافي المتصل بالمنحوتات والتجهيزات المثبتة في الفضاءات المدينية، بقصد البقاء والخلود، إنه فن التظاهرات والانتفاضات والاحتجاج، وهو فن اللحظة الذي يبقى مقترنا بها، ويتحول إلى شاهد أو ذكرى، إن لم يتم محوه أو طلاؤه باعتباره تجسيدا لزيغ تعبيري مدفوع بالهيجان وحماس التظاهر. الفرق إذن بينه وبين النصب المخلد لفكرة قومية أو عقائدية أنه يفتقد إلى روح الاستمرارية المتعالية على السياقات، هو مقترن بعدد المتظاهرين ممن تسكن وعيهم وخيالهم الرغبة في تمثيل الغائبين وإسماع صوتهم للسلطة وإزعاجها في أفق تقويض استبدادها. حيث إما أن تتنازل السلطة “فيتحول الرمزي إلى فعلي” بتعبير جون بورغر، وإما أن “تختار السلطة اللجوء إلى العنف فتضمن أن يتحول الحدث الرمزي إلى حدث تاريخي، حدث سوف يُحفظ في الذاكرة، وتُستخلص دروسه”.
والحق أنه لا يمكن النظر إلى الأنصبة المتمركزة حول أفكار العدل والحق والثورة والحرية بوصفها كيانات جمالية خارج الإيديولوجيا، وإلّا لما كان ثمة تاريخ للنحت بهذا الرصيد الممتد منذ الأسطوريات القديمة إلى العقائديات السياسية الحديثة والمعاصرة، مرورا بتاريخ الأديان… ومنذ هيمنة القدسي إلى تسلط الأنظمة الشمولية على الأداة والأسلوب وتحويلها على مادة للبروبغاندا السياسية وتعميم رمزيات الحضور في المجتمع والمدينة.
من هنا بقدر ما تكتسب أعمال من قبيل “نصب الحرية” لجواد سليم و”نهضة مصر” لمحمود مختار وعشرات المنحوتات المنتشرة عبر العالم لدلالات متصلة دوما بذلك الشغف الثابت والخالد، فإن تماثيل الطغات من صدام حسين إلى تشاوسيسكو رهنت بالعابر والمؤقت، وما لبثت أن تحولت إلى هدف للمحو سواء بالهدم أو النفي من المجال إلى المتحف، حيث توقفت عن إفراز الدلالات المرتبطة بالسياقات الحاضنة، ومن ثم كفت عن الوجود بما هي كتل حاضرة.