نشر ثقافة التسامح يبدأ من المؤسسات التعليمية لا المنابر الدينية

تسعى السلطات المصرية إلى نشر ثقافة التسامح وتقبل الآخر المختلف وخاصة دينيا عن طريق توعية النشء من خلال منهج تعليمي جديد ما من شأنه الحد من تصاعد التعصب والتطرف بين المسلمين والأقباط.
قبل نحو عشرة أشهر، طلب أحد الأطفال المكفوفين من الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي تدريس منهج خاص بالقيم والأخلاق واحترام الآخر، وحينها حصل الطفل على تعهد رئاسي بتنفيذ طلبه في إطار توجه الحكومة لإعادة تثقيف المجتمع بمفاهيم التسامح والتشارك والمحبة، بعيدا عن الأصوات المتشددة التي نجحت في زرع أفكارها المتطرفة في أذهان الناس.
وأعلنت وزارة التربية والتعليم المصرية مطلع الشهر الحالي رسميا، الانتهاء من المنهج الخاص بالقيم واحترام الآخر، وتكريس التعايش والتراحم، على أن تكون البداية بالمرحلة الابتدائية التي يتم خلالها تشكيل توجهات وأفكار ومعتقدات النشء، للحيلولة دون اختراقهم مستقبلا أو العبث بشخصياتهم واستمالتهم نحو البغض والكراهية والتعامل مع الآخر بتمييز وعنصرية.
قال الطفل مهند عماد، الذي طلب تدريس منهج احترام الآخر من الرئيس السيسي، إننا بحاجة ملحة إلى تغيير نظرتنا لكل من يختلف عنا في الشكل والفكر والعقيدة، ويصعب تحقيق ذلك إلا من خلال البدء بنا كصغار، فعندما نكبر نكون قد تعلمنا أصول الإنسانية الصحيحة. تكبر معنا وتتعايش داخلنا دون أن نكون ضحية لمتطرفين أو عنصريين.
وأضاف الطفل “الذكي” لـ”العرب”، أن ثقافة التشارك مع الآخر بغض النظر عن طبيعة اختلافه، غائبة حتى الآن، وهو ما يتم استغلاله لضرب الوحدة الوطنية، لأن التعايش المشترك يفترض أن يكون دستورا حاكما لتعاملات البشر، بغض النظر عن لون البشرة وطبيعة البنيان الجسدي، ونوع الإعاقة المصاب بها الإنسان.
ظل تدريس منهج تعليمي وطني لكل الشرائح الطلابية دون استثناء، محل نقد وهجوم شرس من تيارات متشددة لا يستهويها أن تكون تعاملات الناس في المجتمع قائمة على المودة والتراحم والتعايش ونبذ العنف والتطرف، لأن تكريس هذه الأفكار في أذهان الصغار يعني إقصاء عناصر هذه التيارات من المشهد إلى الأبد.
واعتاد المتطرفون في مجتمع مثل مصر، توظيف جهل الناس بالحد الأدنى من العلم القائم على الإنسانية والمحبة لاستقطاب عناصر تدعم أفكارهم وتوجهاتهم المبنية على القطيعة، حتى أصبحت نظرة بعض المختلفين في العقيدة تجاه بعضهم قاصرة على التنافس وفرض الهيمنة والعداء المتبادل.
إذا اقتربت من مجموعة من هؤلاء وفتحت معهم باب النقاش حول التلاحم مع باقي الأديان، تراهم يعادون الفكرة وقد يصل الأمر حد وصفك بـ”المتآمر على الدين”.
ينطبق ذلك على المسلمين والأقباط، ممن كانوا ضحية مناهج تعليمية شوّهت الشخصية وأسست أفكار الناس على الانغلاق، والنظر إلى باقي العقائد بتربص وريبة.
اعتادت حكومات سابقة في مصر، الابتعاد بنفسها عن إقرار منهج تعليمي معاصر يغذي ثقافة الانفتاح، ويروّج لفكرة احترام الآخر مهما كانت هويته وثقافته وطبيعة شخصيته، لتجنب نفسها الدخول في مواجهة مع تيارات متطرفة امتلكت في بعض الأوقات شعبية زائفة استغلتها لتأليب الناس على السلطة.
ما يلفت الانتباه، في المنهج التعليمي المعاصر الذي يبدأ تدريسه للطلاب بعد أيام في مصر، أنه يعلّم النشء كيفية احترام الآخر والتعايش.
لا يخاطب المنهج الجديد، الصغار فقط، لكنه أيضا يحمل رسائل غير مباشرة للأسر نفسها. فعندما يجلس الأب أو الأم لمساعدة الابن في التحصيل الدراسي بالمنزل، سوف يجد كلاهما أن هناك دروسا بعينها تتلامس مع قناعاته تجاه طبيعة التربية المفترض أن يتعامل بها داخل أسرته، وكيف يربي الأبناء على التشارك.
وتسعى الحكومة من وراء الخطوة، إلى معالجة الفجوة الحاصلة بين الأجيال القديمة التي كانت ضحية تيارات متطرفة، وأجيال معاصرة لديها القابلية للانفتاح على الآخر والتعايش مع كل الشرائح والعقائد دون تمييز، ولا تريد أن يتم تحريف أفكار الصغار، لذلك استبقت استمالتهم للانغلاق وقررت تبني تشكيل شخصياتهم بطريقة حضارية.
المقدس والمتغير
تعتقد دوائر مصرية، أن أي محاولة لتغيير قناعات الكبار، حول مفاهيم التسامح والتحضر سوف تبوء بالفشل، بحكم أنهم اعتادوا تقديس الرأي الديني في كل تعاملاتهم الحياتية، والأمل الوحيد لإعادة تأهيل المجتمع بشكل إنساني يتطلب التركيز على الأطفال مبكرا لخلق نوع من العداء للتطرف ورفض لتدخل الدين في الحياة أو تحديد العلاقات.
وأصبحت هذه الدوائر، على قناعة بأن المؤسسة الدينية المكلفة بتجديد الخطاب الديني وتكريس التسامح ونبذ التطرف والتشدد لا تريد تحقيق تقدم ملموس في هذا الملف.
كان البديل الواقعي أن يتم تكليف المؤسسات التعليمية بهذه المهمة، ولو كان التغيير من أسفل القاعدة المجتمعية (الصغار)، لكن إيجابيات ذلك سوف تظهر مستقبلا.
أهم ما في المنهج التعليمي الجديد، أن الطلاب المسلمين والمسيحيين سوف يجلسون معا داخل القاعات الدراسية، ولن يتم تفريقهم كما يحدث في الحصص الخاصة بالتربية الدينية. كلاهما يدرس كيف أن الدين الآخر مليء بتعاليم التسامح والمحبة، والإنسان القويم فكريا وسلوكيا ينظر إلى العقائد المختلفة معه باحترام دون عداء وتمييز.
في هذا الصدد قالت نوال شلبي مديرة مركز تطوير المناهج في مصر، لـ”العرب”، إن منهج احترام الآخر يتم العمل عليه في وزارة التربية والتعليم منذ شهور، وقبل أن يطرحه الطفل مهند، لأنه ضرورة ضمن استراتيجية الحكومة للتنمية المستدامة وهو يتواكب مع خطة تطوير التعليم، كي يكون لدى مصر خريجين بسمات معاصرة، على رأسها تكريس الإنسانية كشعار عام.
وأوضحت، أن المنهج الجديد يركز على تعريف الصغار بالقيم النبيلة في كل دين، ويبرز الصفات الحسنة في العقائد، ويعرف الأطفال كيف يمكن لهم أن يحبوا الجميع دون استثناء، ويعلمهم أبجديات احترام التنوع، والأهم أن الدروس تستهدف تثقيف الأجيال المعاصرة بأن الاختلاف طبيعي ولا غنى عنه لتأسيس مجتمع قوي متماسك.
مشكلة شريحة من الناس أن نظرتها بريبة للديانات الأخرى تأسست عن جهل بما تحتويه باقي العقائد من قيم سمحة ونبيلة وإنسانية. فلم يركز المتطرفون من كل ديانة سوى على تصدير صورة سيئة عن العقيدة الأخرى، وهو ما يعالجه المنهج الجديد بالتركيز على مزايا وقيم كل دين لقطع الطريق على تغذية الصغار بنفس الأفكار التي شب عليها الكبار.
أضافت شلبي “ميزة بناء الشخصية المتسامحة مع الآخرين، منذ الصغر عن طريق التعليم، أنها تحصل على المعلومة بشكل غير مباشر، ويتم تعريف الصغير بقيم التشارك برسائل متنوعة، من خلال صور ورسومات، بحيث يتم زراعة هذا المعتقد في وجدانه دون توجيه، فهو الذي يستشف ما بين السطور لتزيد معدلات قناعاته بأن هذا هو الطريق الصحيح للشخصية سليمة الفكر والتوجه”.
وقررت المؤسسة التعليمية مواجهة المتشددين بالحجة، والرد عليهم بنفس طريقتهم. فهم الذين اعتادوا تأليف قصص لتثبيت قناعات الناس تجاه أفكار بعينها، باعتبار أن المسلمين في الماضي كانوا يفعلون هذا الأمر أو غيره. وشرعت وزارة التعليم في تحصين الصغار من الوقوع في براثن هذه الفئة بالقصص، لكن لأهداف مغايرة.
يحتوي المنهج على مجموعات قصصية تدفع الطالب للتأمل والتفكير، ويضع نفسه مكان الآخر. فقد تشرح القصة أن شخصا تعرض للتنمر وأصيب بحالة نفسية سيئة بلغت حد الإحباط، وهنا يبدأ الطفل يفكر: لماذا أتنمر؟ ولماذا أقوم بأذى غيري؟ ولماذا أسخر من ديانته ولا أحترم عقيدته؟
في قصة أخرى، تستهدف أن يتعامل الإنسان صاحب البشرة البيضاء مع قرينه أسود اللون بالمحبة والاحترام، ويبادل المسلم أخاه المسيحي نفس الشعور، المهم أن المنهج يتضمن كل مظاهر الاختلاف ويعالجها بشكل عقلاني وعلمي وإنساني دون التطرق إلى إشكاليات الحلال والحرام، لأن هذه النبرة لم تعد تجدي نفعا مع أجيال تأبى أن تكون أسيرة لتوجيهات دينية يستثمرها متطرفون للنفاذ إلى أكبر قاعدة من الناس.
يُحسب لمن قاموا بهذه المهمة أنهم اقتبسوا القيم الإنسانية من كل ديانة سماوية، وتم وضعها في منهج وطني موحد دون إقحام الدين في توصيل المعلومة.
لم تؤخذ آية قرآنية لتثبيت الفكرة، أو قطعة من الإنجيل لتكريس صحة معلومة، بل جرى التمسك أن تكون كل الدروس مدنية، لأن التشدد تأسس على أن الدين يتحكم في علاقات وقناعات الناس.
نواة متماسكة

رفضت وزارة التعليم المصرية أن تتعامل بنفس الفكر والمنهج اللذين يستخدمهما المتشددون وسيلة لتحقيق أهدافهم، حيث أبعدت الدين عن محاولات فرض التسامح بالعلم والمعرفة، وتعاملت مع أصحاب العقائد بعقلانية دون توجيه أو تدخل في الانتماء الديني، وركزت على النواحي النفسية والسلوكية لتأسيس نواة لمجتمع إنساني متماسك.
حاول متشددون على منصات التواصل الاجتماعي الالتفاف على الفكرة وأبعادها، بمحاولة إقناع الناس بأن الغرض من منهج القيم إلغاء مادة التربية الدينية، وذهب آخرون إلى أن الحكومة تسعى إلى دمج كتب الدين الإسلامي والمسيحي معا، بغرض تأليب الأغلبية على صانع القرار للتراجع عن الخطوة، باعتبارها ضربة قاسمة لهم.
وبلغ الأمر حد الإيحاء بأن المنهج الوطني الذي يؤسس لمجتمع متسامح في تعاملاته قائمة على المحبة والإنسانية يستهدف تكريس التحرر الديني، لأن وزارة التعليم تنوي تعريف الصغار بالقيم النبيلة لكل الأديان، في مؤشر يعكس حجم الريبة لدى المتشددين من أي تقارب بين أصحاب العقائد المختلفة، ولو كان ذلك بتعريف النشء أن الدين الآخر ليس سيئا كما يعتقدون.
ورأى إسلام المنسي الباحث في شؤون الإسلام السياسي، أن الجماعات الإسلامية المتطرفة لا يستهويها أن يحصل الناس على العلم والمعرفة بعيدا عنهم، فما بالك عندما يتم ذلك من خلال منهج وطني عصري يكرس التسامح والتعايش بين كل الأديان، ويزيل الأفكار الشيطانية التي جرى زرعها في أذهان الكبار، فهذه انتكاسة بالنسبة لهم لأنها تنهي وجودهم بالبطيء.
وأوضح لـ”العرب”، أن الأجيال الصاعدة عندما تنشأ على توعية دينية معاصرة، تكبر على استيعاب الاستنارة. ومعضلة المتشددين أنهم يفشلون مع الشخص المستنير ولا يستطيعون الاقتراب منه أو استقطابه لأفكارهم، بحكم أن خطابهم دائما ما يستهدف الشريحة قليلة العلم والمعرفة وتحصل على معلوماتها الدينية بشكل عشوائي.
المتطرفون يوظفون جهل الناس بالحد الأدنى من العلم القائم على الإنسانية والمحبة لاستقطاب عناصر تدعم أفكارهم وتوجهاتهم المبنية على القطيعة
ولفت إلى أن البداية من النشء، يسهل على الحكومة مهمة ثقيلة للغاية، بالقضاء على التطرف من الجذور، باعتبار أن بعض الأجيال الصاعدة لديها فراغا فكريا، وهذه الفئة قد تكون عندها قابلية للتجريب، وتحصينها مبكرا يعني استحالة اختراقها أو انحرافها الفكري، لاسيما عندما يكون التعليم مبنيا على الإنسانية والتحضر والمحبة والتعايش.
وإن كانت الخطوة جيدة ومفيدة في تكريس التلاحم بين الأديان، لكن هناك خطوات أخرى مطلوب اتخاذها، بإبعاد الدعاة المتشددين عن المشهد كليّا، وفرض نفس المنهج على المؤسسات التعليمية الأزهرية، لا أن يقتصر على طلاب التعليم العام فقط، مع حتمية محاسبة المجاهرين بتكفير الأقباط، ووقف البرامج الدينية التي تحض على الكراهية، ما يعني أن الحكومة مطالبة بخطة متكاملة لتكريس التعايش داخل الإطار المدرسي وخارجه.
يظل التحدي في أن يكون مجتمع المدرسة، الذي يمثل قرابة ثلث المصريين، بداية المضي قدما في نسف التطرف داخل المجتمع، وأن يتم انتقاء معلمين مؤمنين بحتمية التعايش بين كل الأفراد، بغض النظر عن طبيعة الاختلاف، لا أن يتم إسناد المهمة لأعضاء هيئات تدريس بعضهم لديه توجهات مماثلة لدعاة الإقصاء، لأنه في هذه الحالة قد لا يتحقق الغرض بأن يكون الانسجام والتلاحم فرض عين على كل فرد.