نسرين البخشونجي لـ"العرب": الكتابة منحتني قدرة لأكون إنسانة

أدركت الأديبة المصرية نسرين البخشونجي عبر رحلتها في محاورة الأدباء العالميين أن نجاح العمل يعتمد على عنصرين أساسيين؛ الصدق من خلال مزج الذاتي بالخيالي، واختيار أسلوب سردي يتناسب مع الفكرة الرئيسة للعمل. و"حيوانات ساحرة" هو مشروع جديد لترجمة نصوص للأطفال تصفه الأديبة في حوارها مع "العرب" بأنه رحلة بديعة منحتها الجرأة فيما هو قادم.
القاهرة - فوق بحر الكتابة تمتد جسور كثيرة، تقصر المسافات بين جزر عديدة، متباينة، بين الصحافة والأدب، القصة والرواية، الحقيقة والخيال. عبرت الكاتبة المصرية نسرين البخشونجي فوق هذه الجسور جميعا، جيئة وذهابا، ولا عجب، فقد كان الكاتب الكبير إبراهيم عبدالمجيد أول من شجعها على كتابة القصص القصيرة واصفا إنتاجها بأنه “كتابة حلوة”، وكتب عن مجموعتها القصصية “بعد إجباري.”
نسرين البخشونجي أديبة ومترجمة وصحافية مصرية متخصصة في الشأن الثقافي، نشرت ثلاث روايات وأربع مجموعات قصصية، صدر لها أخيرا كتاب “كل شيء سيرتي.. كل شيء خيالي” عن دار صفصافة للنشر، يضم حوارات أجرتها مع أدباء من دول مختلفة، ممن حصلوا على جوائز كبرى أو وصلوا لقوائمها القصيرة.
حوارات عالمية
تستعيد الكاتبة في حديثها لـ”العرب” رحلتها مع الكتابة، فتنظر إلى الوراء وتتأمل، لتعتبر أن مشروعاتها الكبرى جاءت بالصدفة دون تخطيط. تقول لـ”العرب”: “بدأت سلسلة حواراتي مع الأدباء حول العالم حين التقيت الكاتب الإنجليزي الشهير أندرو ميلر في القاهرة، وتبادلنا الحديث عن الأدب والثقافة ثم عرضت عليه أن أجري معه حوارا صحفيا فوافق، وعندما تم نشر الحوار جاءتني فكرة المشروع الصحفي.”
وأجرت البخشونجي حوارات مع أدباء حول العالم، وركزت في البداية على مشاهير الأدباء الذين لم تترجم أعمالهم إلى اللغة العربية، إذ كان هدفها أن تقدم للناشر والقارئ أصواتا أدبية مميزة، وسرعان ما تطورت الفكرة لتشمل الأدباء الذين ترجمت أعمالهم، ليتحدثوا للقارئ العربي للمرة الأولى.
ونجحت في الوصول إلى كتاب القائمة القصيرة لجائزة البوكر العالمية والإنجليزية على مدى عامين متتاليين، إذ تمكنت من إجراء حوارات معهم قبل إعلان الجائزة مباشرة، فكانت أول من نشر هذه الحوارات في العالم. ومع أن المحرك الأساسي للمشروع كان صحافيا إلا أن الكاتبة استفادت كثيرا من الاقتراب من الكتاب العالميين، دخلت عالمهم الخفي، ليس فقط في مجال الإبداع إنما فيما يتعلق بالتعرف على طفولتهم وما يلهمهم، ومواقفهم من الحياة والثقافة.
وتشير نسرين البخشونجي إلى أنها دخلت من خلال حواراتها إلى عالم النشر والوكيل الأدبي في الخارج، وكيف يصبح الأدب صناعة كبرى بمجرد أن يكتب المؤلف كلمة “تمت” في نهاية النص، حتى أن أحد الوكلاء الأدبيين قام بحذف بعض أسئلة الحوار مع الكاتب الذي يمثله واقترح بدائل لها لأنها من وجهة نظره تساهم في تسويق العمل الأدبي بشكل أكبر.
اقتربت الكاتبة من بريق الشهرة التي تصنعها المؤسسات الأدبية العالمية للكاتب، ما يضعه تحت ضغط لكن يمنحه في المقابل فرصة ذهبية لتكون الكتابة بالنسبة إليه مهنة ومصدرا وحيدا للرزق. وتصف استكشاف عالم الثقافة والأدب في الدول غير العربية بأنه مثل استكشاف الذهب والجواهر.
ويبدو للمتأمل في تجارب الكتاب العالميين من خلال كتاب “كل شيء سيرتي.. كل شيء خيالي” أن شعرة معاوية تربط بين الواقع والخيال دوما في الأدب؛ تلك الشعرة التي لا تنقطع أبدا، فكل ما كتبه هؤلاء الأدباء يمكن أن يكون سيرة ذاتية كما يمكن بنفس القدر أن يكون خيالا، وهي القضية التي ما يفتأ الأدباء في أي أرض يتهمون بها، كأنها جريمة، برغم أنها شيء معتاد وطبيعي، فمن أين تنبع شخصيات الأدب إن لم تكن من واقع يعرفه الكاتب؟
وتعتقد البخشونجي أن تأثير حكايات الأمهات والجدات قبل النوم على خيال الكاتب كبير ومهم، وكذلك تأثير السفر إلى دول كثيرة، وتشابك الثقافات والعلاقات والاهتمام بالقراءة الجادة منذ الصغر، “كل هذه العوامل هي مصادر إلهام كبرى للكتاب والمبدعين..”
اعتبر الكاتب البلغاري جيورجي جوسبودينوف الحاصل على جائزة البوكر العالمية عام 2023 في حواره للبخشونجي ضمن الكتاب أنه يكتب ليروي قصة الحزن والوحدة داخله. كما أخبرها الروائي الكولومبي إكتور آباد فاسيولينسي بأن كتابة النص بأسلوب سلس لا يقلل من قيمته الأدبية إنما – بالعكس- يساهم في الوصول للقراء بشكل أكثر فاعلية.
وأبهرها الروائي السويسري بينيديكت ويلز عندما قرر الابتعاد تماما عن الكتابة والأدب والعودة إلى الدراسة الجامعية. وتأثرت كثيرا بما قالته الكاتبة جينتي بوستوما من أن الكتابة منحتها فرصة للتحرر من سطوة الآخرين. وأدركت نسرين البخشونجي خلال رحلتها الطويلة في محاورة الأدباء العالميين أن نجاح العمل يعتمد على عنصرين أساسيين؛ الصدق من خلال مزج الذاتي بالخيالي، واختيار أسلوب سردي يتناسب مع الفكرة الرئيسة للعمل.
وتعبر عن اعتقادها أن هذه التوليفة سبب نجاح روايتها الأخيرة “اتجاه عكسي”، لأنها اعتمدت هذا الأسلوب وتحررت من فكرة أن الكاتبة بطلة أعمالها بالضرورة. “صحيح أن هناك داخل الرواية جزءًا من حياتي لكنه لا يتخطى القضية الأصلية للنص وهي التعليم، من خلال رحلتي كأم، لكن يبقى باقي النص متخيلا تماما.”
الجوائز والشهرة
تؤكد الكاتبة المصرية أن الجوائز الأدبية تمنح الكاتب بالطبع الشهرة والمال، إذ أخبرها الكاتب الفرنسي السنغالي ديفيد ديوب بأن مبيعات روايته “شقيق الروح” قفزت بنسبة أربعمئة في المئة بمجرد حصوله على جائزة البوكر العالمية. وتقول “رغم كل ما يقال عن الجوائز الأدبية في العالم العربي ما زال كل من الناشر والكاتب يهتم بالمشاركة فيها كونها فرصة ممتازة لتحقيق الإنجاز المادي والمعنوي خاصة أن معظم الكتاب العرب يعملون بمهن أخرى غير الكتابة، لأن الأدب ليس مصدرا للرزق في عالمنا العربي. ربما لهذا السبب أنا منحازة جدا للجوائز وأفرح لكل مبدع يحصل عليها.”
صدر للأديبة نسرين البخشونجي روايات “غرف حنين” و”عطر شاه” و”اتجاه عكسي”، والمجموعات القصصية “باليرينا” و”بعد إجباري” و”تفاصيل”، بالإضافة إلى “عالم ضيق” الصادرة حديثا عن دائرة الثقافة بالشارقة. والكتابة بالنسبة إليها عمل شاق لكنه ممتع للغاية، كما تقول، إذ تتحرر من خلالها من سطوة الأسئلة التي تدور في عقلها دون أن تجد لها إجابات واضحة. وبها يزداد وعيها بذاتها وبكل ما حولها، بل إن الكتابة منحتها فرصة لتفهم شخصيات البشر ودوافع أفعالهم، حتى أنها تجد للشخصيات الشريرة أسبابا ربما تدفعها للتعاطف معهم، “الكتابة منحتني القدرة على أن أكون إنسانة.”
كتبت البخشونجي الرواية والقصة القصيرة معا، فما الذي يوجهها إلى أي منهما وكيف تختار الفن الذي تعبر به وعلى أي أساس؟ أسألها فتجيب بأن النص ابن فكرته، وأنها حين تأتيها الفكرة لا تقرر طبيعة الأسلوب السردي الذي ستعتمده لكتابتها، إنما تبدأ الكتابة فورا، ثم تسهم طبيعة الفكرة نفسها في تشكيل النص، فحين تكون الفكرة محدودة من حيث الموضوع والشخصيات فإنها تكتب كقصة قصيرة، أما لو كان لديها موضوع واحد يحتاج لطرح قضايا عدة لدعم الفكرة الأساسية، فهنا تتحول الفكرة إلى رواية.
لا تتفق الكاتبة المصرية مع الآراء التي تشير إلى تراجع زخم الرواية لصالح القصة القصيرة، وتدلل على ذلك بأن عدد الجوائز الأدبية العربية أو العالمية في مجال الرواية أكبر من الجوائز الممنوحة للقصة القصيرة، بالإضافة إلى عدم رغبة دور النشر في طباعة مجموعات قصصية كثيرة بالمقارنة بإنتاج الروايات، كما تجد الرواية مساحات نقدية أوسع.
وتضيف في حديثها لـ”العرب”، أنه “من السهل أن يصبح الروائي نجما لديه عدد كبير من القراء المنحازين لمشروعه الأدبي، في حين تصدر أعمال أقل في مجال القصة القصيرة وبالكاد تقرأ أو يكتب عنها، رغم أن القصة القصيرة صعبة في كتابتها ويجب أن يمتلك الكاتب أدواته إلا أن الرواية تفرض سطوتها، وربما لهذا السبب فكرت في نشر مجموعتي القصصية الأخيرة ‘عالم ضيق’ وهي تجربتي الثانية في عالم القصة القصيرة جدا بعد ‘تفاصيل’ الصادرة في 2016، ولم أسع إلى استغلال نجاح روايتي الأخيرة “اتجاه عكسي” بنشر رواية جديدة هذا العام.”
ولا تتوقف محاولات نسرين البخشونجي لعبور جسور جديدة في بحر الكتابة، إذ تسعى هذه المرة للربط بين جزيرتين تضاريسهما وعرة، هما الترجمة والكتابة للطفل. وتكشف لـ”العرب” عن مشروع جديد في ترجمة كتاب نصوص للأطفال بعنوان “حيوانات ساحرة” يصدر قريبا عن دار صفصافة للنشر بمصر، وتقول “لم أتخيل يوما أن أتجه للترجمة الأدبية، لكنها كانت فكرة الناشر محمد البعلي الذي طلب مني ترجمة الكتاب، وتحمست في البداية لكنني حين بدأت في عملية الترجمة شعرت بالتورط مع النص.”
واجهت البخشونجي إشكاليات الترجمة المعروفة، ما بين ترجمة حرفية يضيع بسببها روح النص والترجمة بشكل أدبي لاستغلال جمالياته، خاصة أن الكتاب سيصدر باللغتين العربية والإنجليزية، وكان عليها أن تستخدم الكلمات المناسبة للأطفال من سنة 6 إلى 9 سنوات. وتصف الكاتبة العملية بأنها رحلة بديعة شعرت معها كأنها تعيد خلق النص، ما منحها الجرأة للتفكير في استكمال طريق الترجمة الأدبية ليكون أحد مشروعاتها الإبداعية المقبلة.