نسخة من "التضامن" تعيد الاعتبار إلى الدولة العميقة للصحافة الورقية

لست مع المتباكين على مصير يتخيلونه للصحافة الورقية، ليس لأنها تحتاج إلى معجزة، أو لأنها تمتلك قوى عنقاء أسطورية تُبعث من الرماد الإعلامي، بشقيه الإلكتروني المؤسسي والاجتماعي العشوائي، وإنما لما يميز الصحافة من مرونة تتيح لها هضم الجديد واستيعابه، وتطوير نفسها بأدوات متجددة.
كانت الصحافة من أبرز ثمار اختراع المطبعة، وأثمرت فنونا مثل القصة القصيرة التي لم تكن لتنتعش لولا الصحافة. وكما استفادت السينما من الفنون السابقة، وصهرتها ووظفتها وصارت فنا سابعا، فيمكن للصحافة الورقية التي استفادت من الصور الفوتوغرافية وحفظتها بأكثر من أرشيفات النيغاتيف أن تحتوي إغراءات الإعلام غير التقليدي، بإتاحة الدخول إلى روابط لصور ومقاطع فيديو وكتب وأفلام.
من هذه الروابط يذهب قارئ الصحيفة أو المجلة إلى فضاءات رحبة يمتاز بها الإعلام الجديد. وأما الصحافة الورقية فتتفرد بقيمة التوثيق الذي لا يمكن تزويره، إلا على طريقة ونستون سميث بطل رواية جورج أورويل “1984”. كان الرجل موظفا في وزارة الحقيقة، وهي معنية بالأخبار والترفيه والتعليم والفنون الجميلة، ويشارك في إتلاف النسخ الأصلية من الصحف والمجلات الموجودة في إدارة السجلات.
تغيرت محتويات الصحافة الورقية للأخ الكبير عشرات المرات، تنفيذا لتعليمات السلطة ونزواتها، فتُحذف صور وتتغير أخبار وتصريحات رسمية، وتعاد صياغة تقارير، وإعادتها إلى السجلات حاملة تاريخها الأصلي، “والكتب بدورها كان يتم استعادتها وإعادة كتابتها مرارا”. إجراء يسير في الإعلام الإلكتروني.
مناسبة هذا الكلام هي مصادفة عثوري على نسخة من مجلة “التضامن”، ولا أجد تفسيرا لاحتفاظي بها منذ كنت طالبا في كلية الإعلام بجامعة القاهرة. المجلة من الأشياء النادرة الناجية؛ لوقوعها في حماية كتب ومجلات تتجاوز متابعة الشأن العام إلى حفظ قيم ثقافية وإبداعية تجدد شباب هذه المطبوعات. وبالعودة إلى عدد “التضامن” رقم 207، بتاريخ 28 مارس 1987، أستطيع القول: “المجد للورق”.
تهب العواصف الإعلامية وتزيد إغراءاتها، وتظل الصحافة الورقية سجلا وشاهدا يستعصي على التزوير، ولا يخضع لإكراهات ومفاجأت غير سارة بحجب موقع أو بطء شبكة. ولا يتحكم فيه ناشر، فيعيد كتابة وقائع قديمة بأثر رجعي؛ إبراء للذمة أو إرضاء لسلطان.
للصحافة الورقية وحدها، إلى حد كبير، أن تزهو بتسهيل الاستدلال على صورة أمينة للبلد قبل حادث كبير أو أثناءه. يوم اشتعال حرب ما، كيف كانت لغة الخطاب السياسي، حدود الصراع أو التنافس الحزبي، خرائط التحالفات الدولية والإقليمية، علاقة أجهزة الدولة بالمؤسسات الأهلية، منسوب التشاحن الأهلي، هموم المواطنين وأحلامهم، معدل الرضا عن السلطة، ملامح الكبت العمومي، طبيعة الجرائم، أنواع البضائع، التصنيف العددي والكيفي للكتب والأفلام والمسرحيات المنشورة أو المعروضة، نجوم المرحلة ممن طواهم النسيان أو صمدوا لاختبار الزمن؟ في هذه التفاصيل، تتفوق الصحافة الورقية على الإلكترونية، برصد المؤشرات الأكثر صدقا، إذ ورثت الصورةَ الفوتوغرافية بتثبيتها للمشهد، فيستحيل الحذف منه والإضافة إليه.
في هذا العدد من مجلة “التضامن” خارطة تقريبية للحالة العربية. يبدأ رئيس التحرير فؤاد مطر افتتاحية المجلة، وقد كتبها من طرابلس “الجماهيرية الليبية” فيقول “هناك مؤشرات كثيرة توضح، مع بعض التحفظ، بأن الصف الفلسطيني سيتوحد، أو أنه على أبواب حالة متواضعة من التوحد. ومنذ بضعة أشهر تدور في الكواليس ووراء الأبواب المغلقة، والمحكمة الإغلاق، مناقشات ويتم عرض أوراق عمل ويحدث الكثير من الأخذ والرد في شأن قضايا بديهية. وصحيح أن تعدد الآراء هو ظاهرة صحية، إلا أن الأمر بالنسبة إلى التنظيمات الفلسطينية ليس تعدد آراء بقدر ما هو تعدد ولاءات، وكل تنظيم يستعد من منطلق ولائه للانقضاض على التنظيم الآخر”.

الصحافة الورقية تظل سجلا وشاهدا يستعصي على التزوير، ولا يتحكم فيه ناشر، فيعيد كتابة وقائع قديمة بأثر رجعي
للمشهد العراقي النصيب الأكبر في المجلة التي يتصدرها تقرير لإبراهيم البرجاوي عن استعداد العراقيين لما بعد الحرب التي انتهت في 8 أغسطس 1988. ويلي ذلك تصريح لصدام حسين مخاطبا العراقيين “كسرنا ظهر الأفعى”، إضافة تقرير عن جلسات “المؤتمر الإسلامي الشعبي” في بغداد (20 ـ 22 فبراير 1987). وحملت التغطية عنوان “العراق على حق… وحكام إيران خرجوا على الإسلام”، وفي المقدمة كتب أحمد عبدالمجيد أن هذا هو اللقاء الثاني لاجتماع “جمهرة من علماء المسلمين”، ولم يذكر متى كان اللقاء الأول. وفي ختام الاجتماعات دعا “المجلس التنفيذي لمنظمة المؤتمر الإسلامي االشعبي” الطرفين إلى إيقاف الاقتتال، واصفا صدام حسين بأنه “رجل السلام”.
ونشرت المجلة تقريرا مصحوبا بصورة لعدي صدام حسين، راعي نهضة نادي الرشيد الذي تأسس في نوفمبر 1984، وبلغ “سن الرشد”. ومن بيروت كتب جوزف قصيفي عن تحالف درزي مسيحي مرجّح “أكثر من غيره.. على أنقاض التحالف الدرزي الشيعي الذي أعلن وليد جنبلاط في الأسبوع الماضي عدم قابليته للحياة”. وفي صفحة ثلاث صور وثلاثة عناوين “الصبح الدامي في عدن.. ماذا جرى في جنوب اليمن.. ولماذا سالت أنهار الدم في عدن”؟، للإعلان عن نشر سلسلة تحقيقات أجرتها “التضامن” بين عدن وصنعاء، حيث تحدثت حميدة نعنع “مع كل الأطراف المعنية” عما جرى في 13 يناير 1986، “ولماذا جرى، والمستقبل المفتوح على كل الاحتمالات”.
وقال محمد حسنين هيكل إن أحدا لا يعرف ماذا يريد النظام الإيراني، وإن “صميم التحدي أن العراق القومي وجد نفسه أمام كائن غريب لا يعرف لنفسه حدودا.. مشكلة التفكير في المطلق أنه لا يعرف حدودا يقف عندها”، وقد أغرى إيرانَ نجاح الخطوة الأولى، ومثل هذا النجاح يضاعف النقص، “إلى درجة العمى التاريخي الكامل عن الواقع والحقيقة والممكن والمستحيل. لا تصبح رؤيته ضبابية فحسب، ولكنها تصل إلى العمى التاريخي الكامل، وهذه محنة عرفتها عصور الفتن الدينية الكبرى” عبر التاريخ.
وقال إن “مساندة العراق في التصدي للخطر، وهو خطر زاحف إلى ما وراء العراق إذا وجد الفرصة، كانت بالمال”، المال أضعفُ العطاء.
جاءت تصريحات هيكل في حوار نشر في صحيفتي “الدستور” الأردنية و”القبس” الكويتية بالاتفاق مع “التضامن” التي أفردت للحوار ست صفحات، فضلا عن صورة الغلاف. الحوار أجراه الكاتب الصحافي الفلسطيني إحسان بكر، وقدمه باعتبار هيكل “ظاهرة فريدة في تاريخ الصحافة العالمية”.
هيكل رأى الحرب العراقية الإيرانية “أسوأ بكثير من الصراع العربي ـ الإسرائيلي. فكلنا يعرف أن إسرائيل كيان مصنوع”، ولكن الوضع بين العرب وإيران مختلف. ورأى أن نهاية الحرب قريبة، وحذّر مما بعد الحرب، داعيا إلى العمل “بكل الوسائل للحيلولة دون فتنة مذهبية يمكن أن تكون أبشع من الحرب، خصوصا وأن بعض التصرفات في لبنان ـ مثلا ـ تدعو إلى الخوف”.
ومن القاهرة كتب عادل الجوجري عن اعتزال الفنانة شادية، ودفاع الشيخ محمد متولي الشعراوي عنها. قرار اعتزال “الحاجة شادية”، بعد 45 سنة من العطاء الفني، أعقب أداءها الأقرب إلى حالة صوفية وهي تغني “خد بإيدي”. الأغنية لحنها عبدالمنعم الباردوي، وكتبتها علية الجعار في “أرض الحجاز” وكانتا معا تؤديان العمرة.
واقترحت كاتبة الأغنية على شادية أن تغنيها في حفل وهي محجبة. وارتدت شادية الحجاب، وتراجعت عن الفكرة؛ لأنها “لا تريد أن تتاجر به في شهرة من نوع جديد. وكانت شمس البارودي أولى المهنئات”. وفي تقليد نادر، تضم الصفحة الأخيرة ثلاثة أعمدة لكل من محيي الدين عميمور وأحلام مستغانمي وحسين كريم.
هكذا يحتوي عدد من مجلة أسبوعية، (78 صفحة)، وجبة مشهدية دسمة، بعضها يوثق حالة معينة ويثبّتها، ويتركها للزمن يقضي فيها بحكمه. وبعضها يضيء جانبا غير معروف، كما كتب عدنان الصائغ في لقائه مع الشاعر اليمني عبدالله البردوني، في القطار المتجه من بغداد إلى البصرة. كان الشاعر المتشبث بالعمود الشعري “يرتّل بإيقاع عذب” قصيدة بدر شاكر السياب “أنشودة المطر”، وبسؤاله عن هذه المفارقة أجاب بأن “الشعر هو الذي يخلق أشكاله ولا تخلق الأشكال أي شعر”. وبعد هذه السياحة: ألا يمكن البناء على رصيد الصحافة الورقية؟ أكاد أجيب: نعم، وأردد بيت أحمد شوقي: لكل زمان مضى آية/ وآية هذا الزمان الصحف.