نساء موليير المتحذلقات.. كوميديا الادعاء هي الأبقى دائما

رائد المسرح الجوال الذي أضحك العالم، صادق الملوك ومات وحيدا وكئيبا.
السبت 2021/08/07
موليير في حضرة الملك لويس الرابع عشر (لوحة للفنان الفرنسي جيروم)

ظاهرة النساء المدّعيات للعلم والمعرفة أو فلنقل المتحذلقات، على وجه الدقة والتخصيص، مسألة أثارت اهتمام موليير في تلك المرحلة التي تميّزت بتحديد الأدوار بدقة لكل جنس بشري، فلا يتعدى رجل على مهمات المرأة، ولا تأخذ المرأة دور رجل واضح الملامح والمهمات.

لا يختلف عاقلان في جدوى مناصرة المرأة ضد أعدائها الذكوريين من أولئك الذين يرون أن مكانها الأنسب هو البيت متنقلة بين المطبخ وغرفة النوم في خدمة أطفالها وزوجها، ودون أن تمر حتى بصالون البيت لبعض الاستراحة والتبرّج والقراءة والتحدث.

صارت المساواة بين الرجل والمرأة أمرا بديهيا لا يقبل النقاش في عصرنا الراهن، لكن الطبيعة البشرية لا تغفل عن تلك الطبائع المتأصلة لدى الجنسين، وتعتبر أن الإقلاع عنها نوع من الشذوذ المثير للسخط والسخرية أحيانا.

وكان من الطبيعي أن تعصف التحولات الاجتماعية بعادات الشعوب أسرا وأفرادا فتهز من السلوكيات والعادات والتقاليد في علاقة الرجل بالمرأة، لتكشف عن مفارقات تبدو غريبة ومثيرة للضحك أحيانا، خصوصا لدى كاتب ألمعي مثل الفرنسي موليير، ومسرحه الشهير في القرن السابع عشر.

لم يغفل هذا الكاتب الجوال عن رصد كل الظواهر الاجتماعية ومتابعتها بالنقد والسخرية داخل المجتمع الفرنسي في أوجه تحولاته. وكان للمرأة لدى موليير حضور بارز في أن تعكس تلك التحولات على وجه كاريكاتيري يعكس ما آلت إليه قيم كنا نظنها في الأمس القريب أليفة وغير مستهجنة.

تحولات أدت إلى ثورة

حب العلم والانشغال بالمعرفة والجدال كان شأنا رجاليا بامتياز في عصر موليير، لذلك كانت تعد المرأة المتعدية على هذه المهمة، حالة شاذة تثير الضحك والاستغراب، وكثيرا ما تؤدي إلى نتائج لا تحمد عقباها.

مسرحية «النساء المتحذلقات» تعرض فيها موليير لطائفة من النساء أتين إلى باريس من القرى ورغبن في التشبه بأهلها

الادعاء هو بيت الداء ومكمن كل المفارقات والأمراض الاجتماعية لدى موليير في مجتمع كان الأجدر بأن يطلع كل فرد فيه على مهامه جيدا. ولم يعبأ موليير وقتها، في أن تحولات جديدة كانت تطرأ على المجتمع لتتراكم وتصنع ثورة في ما بعد.

إقطاعيون يدعون الانتماء البرجوازي في “البرجوازي النبيل”، مشعوذون يدعون الطب في “الحب أحسن طبيب”، جهلة يدعون الأدب في “عدو البشر” ومنافقون يدعون التدين في “طرطيف”.. وهلم جرّا من النماذج البشرية الكثيرة التي تناولها موليير بالنقد اللاذع في مسرحه حتى كاد لا يسلم منه أحد، ولولا حظوته لدى الملك عندئذ لانتقم منه الجميع لأنه نقد الجميع دون هوادة، بمن فيهم أولئك المقرّبون من البلاط الملكي. كأن موليير كان يحذر من حدث ما سوف يأتي بعد عقود من مسرحه، ويقوض تلك العلاقات السائدة عبر نصوص قانونية مستحدثة، اسمه الثورة الفرنسية.

مسرحية “النساء المتحذلقات” تعرض فيها موليير إلى طائفة من النساء أتين إلى باريس من القرى، ورغبن في أن يتشبهن بأهل باريس في تكلف بعض السلوكيات والمظاهر في طريقة الكلام والملبس.

ونرى في بداية هذه المسرحية فتاتين قرويتين وصلتا للتو إلى باريس، هما ماديلون وكاتوس ترغبان في أن تتشبها بالنساء النبيلات من أهل باريس في طريقة الكلام والملبس، وصحبة النبلاء وإقامة الحفلات لأتفه الأسباب.

ويتعجب جورجيبس والد ماديلون من تصرف ابنته وابنة أخيه كاتوس، بما فيه من تكلّف، خاصة حين يتقدم لهما شخصان نبيلان ويعرضان عليهما الزواج بشكل مباشر وترفضانهما؛ لمجرد أنهما لم يقوما بتمهيدات لهذا الطلب تناسب التكلف الذي تتبعانه، وكذلك لأنهما رأيا كلامهما ليس فيه حذلقة، وملابسهما ليس فيها تأنق كوجود الأشرطة التي اعتاد الشباب المتكلف وضعها في ذلك العصر، ولبس الباروكات حتى لمن تميّز من الشباب والرجال بجمال الشعر.

وإزاء إعراض هاتين الفتاتين عن هذين الشابين لوضوحهما وعدم تكلفهما يقرران أن يلقنا هاتين الفتاتين درسا مؤثرا، فيرسلان خادمين لهما يجيدان كل ضروب التكلف، ويدعيان النبل، وتتجاوب الفتاتان مع هذين الخادمين، وتستلطفان كل الأقوال والأفعال التي تصدر عنهما في نوع من الإذعان المطلق للمظاهر الكاذبة.

وفي نهاية المسرحية يأتي سيدا هذين الخادمين ويقومان بضربهما أمام هاتين الفتاتين، ويعرفانهما حقيقتهما بأنهما خادمان لهما، فتشعر الفتاتان بالضيق والحرج لما حدث.

ويوبخ جورجيبس ابنته وابنة أخيه على سلوكهما المتكلف، وتنتهي بهذا تلك المسرحية ذات الفصل الواحد، والتي يعدها النقاد  من أهم مسرحيات موليير، ومن أكثرها استلهاما في أعمال أدبية وفنية متنوعة.

الطريف أن موليير قد جعل أحد الخادمين من مدعي الانتماء للطبقة النبيلة في هذه المسرحية ينشد شعرا رديئا، ويحلله بطريقة تعبّر عن شدة الإعجاب، ولا يخفى تكلفه وحذلقته في ذلك.

مسرح داخل المسرح

الصورة
عالم ساخر

بالنظر إلى مسرحيات موليير نراه يسخر أشد السخرية من الأشخاص المدعين في أي أمر من الأمور وتكاد لا توجد له مسرحية لا نرى فيها شخصا واحدا على الأقل متصفا بالادعاء. لقد جعل موليير من الادعاء ثيمة مسرحية وخيطا دراميا يربط جميع شخصياته مؤكدا بذلك أن الادعاء هو ما يميّز الإنسان عن سائر الكائنات الأخرى وكأنه يرفع مقولة أن الإنسان هو حيوان مدّع.

الأمر اللافت الذي أثار دارسي مسرح موليير هو أنه أول من أسس للمسرح داخل المسرح عبر الزج بشخصيات تمثل أدوارا لم تخلق لأجلها وتصطدم بمواقف تطرح أسئلة غاية في العمق حول مغزى ومعنى الوجود البشري. وهي بذلك تسبق الفتوحات الكبيرة التي أثارها مسرح الألماني برتولد بريخت في أوائل القرن العشرين حول التغريب وكسر الجدار الرابع في القرن الرابع.

ومن أكثر أصناف المدعين الذين سخر منهم موليير بشدة النساء اللائي يتركن أعمال المنزل ويهملن القيام بها، وفي المقابل يظهرن ادعاء العلم والمعرفة وحقيقتهن أنهن خواء من أي معرفة أو علم.

وفي نظر منتقديه، فإن موليير ذو نظرة محافظة ترفض أن يكون للمرأة أي دور تنويري في المجتمع ويقتصر دورها على الاهتمام بزوجها وأولادها، حتى أنه جاء على لسان والد هنريت، في المسرحية التي تتناول النساء المتعالمات (النساء العالمات)، إذ يقول لزوجته المدعية: لقد كانت أمهاتنا يعشن في البيوت ولا يعلمن شيئا سوى الطبخ والكنس ورتق الثياب وعشن هن وأزواجهن وأولادهن حياة طيّبة أما أنتن يا مدعيات العلم فقد سممتن عيشة الأسر التي تعشن فيها.

على الرغم من التقاطع بين مسرحيات موليير والتراث الإغريقي في مسرحيات أرسطوفان على وجه التحديد، في “الضفادع” و”برلمان النساء”، وكذلك شكسبير في “ترويض النمرة”، فإن موليير انفرد بالحس الكوميدي

ويرى الباحث المتخصص علي خليفة في هذه المسرحية وجود وشائج تربطها بمسرحيتي أرسطوفان براكسا وليزيستراتا ففيهما اهتمام بالمرأة وتصور لوضعها حين توضع في سلطة من وجهة نظر أرسطوفان في عهد الإغريق. هذا بالإضافة إلى وجود تشابه بينها وبين مسرحية ترويض النمرة لشكسبير، ففي مسرحية شكسبير نرى المرأة المتمردة ترفض الزواج وتسيء معاملة الرجال حتى تتزوج رجلا يروضها ويخضعها لسلطانه وتبدو أختها الصغيرة وديعة حالمة على العكس منها تماما.

وفي مسرحية النساء العالمات تظهر الأخت الكبرى أرماند متمردة على علاقة الزوجية وتصفها بالمادية والشهوانية في حين تبدو أختها هنريت وديعة وليس عندها نظرة الترفع للزواج كما عند أختها ولهذا حين يفشل كليتاندر في أن تقبله أرماند زوجا له – ولا مانع عندها من أن يستمر عاشقا لها فقط – عند ذلك يحوّل مشاعره إلى أختها هنريت وتستجيب لحبه وهنا يكسر أنف الأخت الكبرى وتحاول أن تعطل زواج كليتاندر من أختها وتغريه بنفسها وتقول إنها ستنزل على رغبته بقبول زواجها منه ولكنه يقول لها فات الوقت فقد تحول قلبي لهنريت.

على الرغم من هذا التقاطع بين مسرحيات موليير والتراث الإغريقي في مسرحيات أرسطوفان على وجه التحديد، في “الضفادع” و”برلمان النساء”، وكذلك شكسبير في “ترويض النمرة”، فإن موليير قد انفرد بهذا الحس الكوميدي الذي لا تكاد تخلو منه واحدة من مسرحياته بل إنه وضع نصب عينيه السخرية أولا ثم يأتي الموضوع الذي يريد الخوض فيه أي أن الضحك يأتي قبل الموضوع لدى هذا العبقري الذي استلهمت منه الكوميديا في فرنسا والعالم جميع أعمالها.

السخرية سيّدة الموقف

كل إنسان يصبح محل سخرية إن هو خرج عن الدور الموكول له، بما في ذلك المرأة، هذا ما أراد موليير قوله في جميع مسرحياته، لذلك اتخذ من الادعاء سمة وأسلوبا للولوج في موضوعاته الساخرة من البخيل والمتطبب والمنافق والمتحذلق، وكذلك المرأة حين تتشبّه بالرجال في امتهان الأدب والمعرفة، لا انتقاصا من قيمتها وإنما تأكيدا على طبيعتها البشرية المتناقضة مع الرجل في سعيه نحو دروب الفكر والمعرفة، في كل الأمكنة والعصور.

ومن الأنماط الكوميدية المسرحية التي تتناول عالم النساء العالمات كما سمّاهن موليير، وهن يركزن على الحديث بأسلوب منمق ويظهرن معرفة بالشعر ولكن الحقيقة أنهن لا يمكنهن تذوقه وهن أيضا يظهرن ولعا بالعلوم الطبيعية، حتى أن إحداهن تزعم أنها رأت بتليسكوبها رجالا في القمر وواحدة أخرى تدعي أنها رأت بتليسكوبها أشياء أخرى في القمر.. وهو أمر يذكّر ببعض سيدات العصر الحديث في المجتمعات المخملية، وكثرة التباهي لديهن بالمقتنيات والإكسسوارات في نوع من البذخ الأجوف الذي لا يوحي إلا بالغباء والخواء.

ولا ينبغي هنا أن تبعدنا قيم المساواة بين الجنسين عن حقائق تتعلق بطبيعة المرأة، ولا أن تجعلنا نشط في الحكم على موليير وأبناء عصره من أنهم كانوا عنصريين إزاء المرأة ويقفون ضد تقدمها.

موليير أول من أسس للمسرح داخل المسرح عبر الزج بشخصيات تصطدم بمواقف تطرح أسئلة غاية في العمق

تأثر المسرح العربي في بواكيره الأولى بمسرح موليير، وترجم له الآباء المؤسسون ونقلوا أعماله إلى العربية سواء عن طريق الترجمة أو الإعداد والاقتباس كما فعل أبوخليل القباني ومارون نقاش ويعقوب صنوع، ومن بعدهم زكي طليمات، ولا يكاد يخلو ريبورتوار أي مسرح من روائع موليير سواء كان ذلك في سوريا أو لبنان أو مصر أو تونس التي نهل فيها المسرح عند بداياته من مؤلفات موليير مثل “الماريشال عمار” التي أعدها المسرحي الرائد علي بن عياد عن “البرجوازي النبيل”، وأظهر فيها قدرة هائلة على تلك المقاربة بين أجواء موليير والبيئة المحلية التونسية، حين يريد أحد سليلي الإقطاع أن يتمثل سلوك البرجوازية من أهالي الحاضرة.

أما عن “النساء المتحذلقات” فقد أشبعتها الكوميديا العربية إعدادا واقتباسا، رغم أن بعض مدعي الحرص على مناصرة قضايا المرأة قد استفزهم ذلك متناسين أن مؤسسة “لاكوميدي فرانسيز” العريقة في باريس مازالت تقدمها إلى الآن بتلوينات مختلفة ومعالجات متنوعة دون عقد أو أحكام مسبقة في بلد موليير، وموطن حقوق المرأة والإنسان في العالم.

أستاذ فن الهزليات

الصورة
مؤسس الكوميديا الراقية

مبدع هذا العالم الساخر إلى حد الفجيعة هو رجل تميزت حياته بالتقلب ولم يخلص في سنواته المضطربة إلا للمسرح إنه جان بابتيست بوكلان المولود في باريس سنة 1622 والمتوفى عام 1673.

ويُعد موليير أحد أهم أساتذة الهزليات في تاريخ الفن المسرحي الأوروبي، ومؤَسس ما يسمّى بـ”الكوميديا الراقية”. قام بتمثيل حوالي 95 مسرحية؛ منها 31 من تأليفه، وتمتاز مسرحياته بالبراعة في تصوير الشخصيات، وبالأخص في تكوين المواقف والقدرة على الإضحاك.

من أشهر مسرحياته: مدرسة الأزواج، مدرسة الزوجات، الطبيب رغم أنفه، مريض الوهم، و”طرطوف” التي تناول فيها النفاق الديني، وتسببت في غضب الكنيسة عليه؛ لدرجة أن القسيس طالب بحرقه حيّا، ولكن لويس الرابع عشر ملك فرنسا استطاع حمايته.

في 1643، اشترك مع ثلاثة من أسرة بيجار: مادلين، وأخيها جوزيف، وأختها جينيفيف، وستة آخرين؛ منهم أستاذه القديم “جورج بينيل” الذي سمّى نفسه “لا كوتور” في تكوين فرقة مسرحية لإنتاج وتمثيل المسرحيات.

أقدم وثيقة يظهر عليها اسمه الفني “موليير” يرجع إلى تاريخ 1644، وهو غير معروف السبب الذي جعل جان – بابتيست يغيّر اسمه إلى موليير، لكن يُقال إنه قام بتغيير اسمه كي لا يحرج والده الذي كان يعتقد أن التمثيل في المسرحيات يُمثل إحراجا للعائلة. من بعد ذلك وهب موليير حياته للفن بالكامل إلى حين وفاته بعد ثلاثين سنة.

وفي سنة 1658، حضر الكاتب بيير كورني مسرحية قدمتها الفرقة، وعبر لهم عن إعجابه بالأداء، وبالممثلة الجميلة “دو بارك” التي ألف لأجل عيونها ماركيزة المحطة، فكان اسمها الحقيقي هو “ماركيزا – تريزا دو جورلا”. زيارة كورني التي لم تكن مُتوقعة كانت فاتحة خير على موليير وفرقته، وتبعها رجوعهم لباريس كممثلين حقيقيين وليسوا مجرد هواة.

حظي موليير بمعرفة الملك لويس الرابع عشر، وكان يعرض برعايته، وشاهدَ له بعض العروض. ومن المفارقات أن تقاليد المسرح الحديث قد تأثرت ـ من حيث لا تقصد ـ بفرقة موليير وطريقة ممثليها في تحية الجمهور والحرص على عدم إدارة ظهورهم احتراما لحضور الملك وحاشيته.

16