نساء رحّالة يقتحمن المجهول لصنع ذكريات جديدة

في ظل الثورة الرقمية وما أتاحته من وفرة في المعلومات والصور عن شتى البُلدان والأماكن، أضحى أدب الرحلة أمام تحد قوي يُمكن من خلاله المحافظة على جاذبيته واستمراريته، ومن هنا اكتسبت العناية بأبعاد جديدة مثل الأنثروبولوجيا والحس الأدبي والإنساني أهمية تجعل من قراءة الرحلة معرفة ومتعة لا تنضب.
بينما قام أدب الرحلة قديمًا على مغامرات كاشفة للبُلدان والأماكن بكل ما يخصها من معلومات جغرافية وتاريخية وثقافية واجتماعية إلى الحد الذي جعلها وثائق جغرافية استكشافية، فأدب الرحلة في العصر الحديث لم يعد بطبيعة الحال معنيًا بالكشوف الجغرافية، وإنما بات مُعبِّرًا بشكل أساسي عن رؤية كاتبه وشعوره وأفكاره تجاه المكان وسُكانه ومعتقداتهم، وهو ما يكشف عن القيم الثقافية التي ينطلق الكاتب لأدب الرحلة منها في رؤيته لثقافات وأفكار وأماكن مُغايرة لما اعتاد عليه.
في كتابها “في ظلال الإنكا.. مغامرة تسع نساء في البيرو” الصادر حديثًا عن سلسلة “السندباد الجديد” بالمؤسسة العربية للدراسات والنشر، للكويتية منى الوزان، تُسجل الكاتبة يومياتها في مغامرة الرحلة إلى دولة البيرو، غرب أميركا الجنوبية، انطلاقًا من الشرارة الأولى التي حركت في داخلها الرغبة في السفر ثم مراحل الاستعداد له ودوافعه مرورًا بالعديد من المغامرات على مدار أيام الرحلة ووصولا إلى المطار إيذانًا بإعلان انتهاء المغامرة الثريّة.
محيطات جديدة
“لكل منا إيفرست في داخله يريد أن يحققه”.. هذه الجملة التي قالها زيد الرفاعي، العربي الأول الذي وصل إلى قمة جبل إيفرست، كانت المُحفز والدافع الأول الذي قاد الكاتبة نحو مغامرتها في البيرو، وهي التي جعلتها تُقبل على الرحلة رغم كل المصاعب الجغرافية والبدنية والنفسية التي تقتضيها الرحلة والتي تجعلها تغادر منطقة الراحة والاستقرار نحو مغامرة مجهولة، سعيًا منها لصُنع ذكريات جديدة واكتشاف مناطق مجهولة في ذاتها كما في العالم من حولها.
ورغم أن الرحلة هي لتسع نساء اخترن المغامرة وخوض تجربة جديدة لاكتشاف عوالم جديدة ومجهولة بالنسبة إليهن، إلا أن صوت الكاتبة هو الذي يتولى زمام السرد منذ بداية الرحلة وحتى النهاية ليكشف عن بعض من ملامح النساء المشاركات في المغامرة في ثنايا السرد، ما يضفي المزيد من الحيوية والجاذبيّة.
تصحب الوزان القارئ في رحلة عبر المطارات والمدن التي مرّت بها، فكانت محطتها الأولى في منطقة “فورت لودرديل” بمدينة فلوريدا التي أقامت بها ليلة واحدة تمهيدًا للانطلاق إلى “ليما” عاصمة بيرو في اليوم التالي، كاشفة عن حس المغامرة والرغبة في الاكتشاف لأدق التفاصيل والقبض على اللحظات والساعات القليلة لاقتناص مشهد من الطبيعة أو الثقافة أو الناس بتنوعاتهم ومشاربهم المختلفة.
كذلك فالتأمل بعيون طفل أضفى على السرد نوعًا من الحيوية لكل ما هو معتاد أو غير مُلاحظ في غمرة الحياة اليومية السريعة التي نحيا في كنفها، فنجدها تتحدث مرارًا عن جمال السماء وما تحمله من غيوم بيضاء “عشقي للسماء عشق غير عادي أشعر وكأنها تحاكيني أو تراسلني برسائل لا تنطق. تتلون لي وترسم أحلامي بين ثناياها”.
ومع أن الكاتب حسين محمد فهيم اعتبر في كتابه “أدب الرحلات” اعتماد الرحالة في العصر الراهن على غيرهم ممن يرشدهم ويدلهم ويوضح لهم المعلومات الخاصة بالمكان وتاريخه في أثناء الرحلة، وهو ما اعتمدت عليه كاتبة “في ظلال الإنكا”، حرمانًا للمسافر من عمق وإثارة تجربة الرحلة الحقيقية ونقصانًا في الكشف والمغامرة الذي كان حاضرًا في الرحلة القديمة، غير أن الكاتبة استطاعت أن تحافظ على روح المغامرة من خلال سردها المُشوق وتعبيرها الأدبي المميز الذي عمدت فيه إلى الجمع ما بين الأسلوب القصصي السلس والمشوق والسخرية في بعض الأحيان والوصف الدقيق للمشاهد المختلفة.
اتسمت الوزان بالملاحظة الواعية ودقة الوصف في تسجيل مشاهداتها ووصفها للمدن وتحولاتها عبر التاريخ، وكذلك لملامح شعب البيرو وأزيائهم وأنماط حياتهم وطرق عيشهم، فضلًا عن العديد من الأماكن التاريخية والأثرية البارزة مثل كنيسة ودير سان فرانسيسكو وتل ساكسايوامان الذي يعد من أفضل الآثار التي بنتها البشرية على سطح الأرض.
أوضحت أن تعصب الإسبان الديني جعلهم يعتقدون بأن كل ذلك من عمل شياطين أو أرواح خبيثة رغم أن كل الدلائل تشير إلى أن تلك الصروح المثيرة للإعجاب هي عمل لا يمكن به إجحاف حق الإنكا أو الكيشوا أو شعب الإنديز.
القيم الثقافية
لا تهدف الكاتبة عبر يومياتها تلك إلى إعلان أفكارها أو موقفها بشأن حضارة البيرو وواقعها وتاريخها من منظورها الثقافي، لاسيما وأن الجانب الذاتي يُحرك وجهة السرد ويُشكل ملامحها، لكن القيم المعلنة من قبل الكاتبة عبر تضاعيف النص تشير إلى أهمية التنوع الثقافي واحترام الآخر مهما كانت عقيدته أو اختلف فكره، كما في قولها “أؤمن بأن ليس من حق البشر أن يحاسبوا البشر، فلو شاء الله لجعل الناس كلها على دين واحد وعقيدة واحدة، ولذلك فنحن خلقنا على هذه الأرض كي نختلف بحب ودون كراهية.. الاختلاف سنة الحياة ولولا الاختلاف لما تعددت الأفكار وبالتالي فلن تتطور الحياة”، كأنها تتحدث عن الاحتلال الإسباني وجرائمه ومحاولاته طمس هوية حضارة البيرو.
ثمة أنساق ثقافية يضمرها النص، فالكاتبة تتبنى المنظور الاستعماري بشكل غير واع، إذ تقول في يومياتها “كون بيرو من العالم الثالث فالنظام مختل لديها قليلا في الشوارع”.
وهي بذلك تؤكد على أفكار المركزية الأوروبية في تقسيم العالم إلى “العالم الأول”، “العالم الثاني”، “العالم الثالث” و”العالم الرابع”، والتي من خلالها جرى تقسيم العالم بالقفز على الحضارات القديمة وإنجازاتها وتحققها المسبق.
وقد يكون ما قاله أستاذ الجغرافيا صلاح الشامي في كتابه “الرحلة عين الجغرافيا المبصرة” الأكثر تعبيرًا عن طبيعة تلك الرحلة ووجهتها “صحيح أن كل رحلة قد حققت الهدف لحساب الإنسان ونبض الحياة المستمر على الأرض، وصحيح أن الإنسان الذي كرس اجتهاده لإنجاز الرحلة لم ولن يفرط أبدا في جني ثمرات الرحلة والانتفاع بها ولكن الصحيح بعد ذلك كله أن الرحلة قد رسخت كل العوامل والمفاهيم التي بُنيت عليها مسألة وحدة البشر على الأرض، بل لقد فجرت في الإنسان استشعار المصالح المشتركة التي وثقت عرى هذه الوحدة على الأرض”.