نزيف السرقة مستمر: هل سيبقى لمصر آثار تشهد على تاريخها

القاهرة - يعتقد المتابعون لمسلسل "طايع"، الذي يعرض ضمن السباق الرمضاني على عدد من المحطات الفضائية المصرية والعربية، ويناقش قضية التنقيب عن الآثار وتهريبها، أن العمل الدرامي أقرب إلى الخيال، وما يدور في حلقاته من أحداث وتفاصيل عن تجارة الآثار والتنقيب في مصر، من الصعب وجوده في الحقيقة.
لكن حادثة ضبط شحنة كبيرة من الآثار المصرية، تم تهريبها إلى إيطاليا، عن طريق حاوية دبلوماسية، كشفت مدى قرب أحداث المسلسل للواقع. وفي الحلقة السابعة من المسلسل نجح تجار الآثار في تهريب شحنة آثار عن طريق حقيبة دبلوماسية إلى إحدى الدول الأفريقية. وفي مفارقة، أذيعت الحلقة قبل يوم من الإعلان عن حادثة إيطاليا.
ونفت وزارة الخارجية المصرية، الأربعاء، أن تكون الحاوية تابعة للسفارة المصرية في روما أو أحد أعضاء بعثتها الدبلوماسية، لكنها أكدت عملية التهريب. وقالت إنها تتابع مع إيطاليا القضية لاستيضاح التفاصيل الخاصة بها ومحاسبة المسؤولين.
وقامت شرطة الآثار والسياحة الإيطالية بإبلاغ السفارة المصرية في روما يوم 14 مارس الماضي بعثورها على 23700 قطعة أثرية، بينها 118 قطعة مصرية في حاوية دبلوماسية.
وقامت السفارة بإرسال أسطوانة مدمجة تحمل صور القطع إلى القطاع الثقافي بوزارة الخارجية في القاهرة للتحقق من كونها آثارا أصلية، وللإجابة على استفسارات الجانب الإيطالي في هذا الصدد لاستكمال التحقيقات.
وشغلت هذه القضية وسائل التواصل الاجتماعي وأعادت تصفح ملف الآثار الفرعونية المسروقة التي تستخرج من المقابر المصرية وتتنقل عبر أنحاء العالم ضمن علميات تهريب نشطة منذ سنوات طويلة جدا، تنوعت خلالها طرق السرقة وعمليات استخراج الآثار، التي استفادت أيضا من التطور التكنولوجي في عمليات التنقيب والبحث.
ثقافة التنقيب
عندما سألت “العرب” أحد المسؤولين بقطاع الآثار المصرية عن موقفه مما جاء في مسلسل “طايع”، أجاب “لماذا نغضب من دراما تناقش الواقع بتفاصيله؟”.
وتعد عملية التهريب الأخيرة هي الثانية التي يعلن عنها في ظرف أشهر، حيث سبق أن أعلنت الكويت ضبط غطاء تابوت فرعوني كامل وصل مهربا في “كنبة” إلى أحد مطاراتها.
غالبية القطع الأثرية يتم طمسها بالجبس ووضعها داخل أغطية اصطناعية، وهو أمر لا يمكن كشفه من خلال أجهزة وزارة الآثار، بالإضافة إلى وجود فساد إداري داخل هذه الوحدات يسمح باختراق مافيا التهريب لها عن طريق الرشاوى، ما يسمح بتمريرها إلى خارج البلاد
ويأتي ذلك بعد فترة من تعديلات أجريت على قانون الآثار نصت على السجن المؤبد (25 عاما) وغرامة لا تقل عن مليون جنيه (56 ألف دولار تقريبا) ولا تزيد على 10 ملايين لمن قام بتهريب أثر إلى خارج البلاد مع علمه بذلك. لكنّ المتابعين يؤكدون أن القوانين لا تردع نابشي المقابر والباحثين عن الثورة الفرعونية، حيث الجميع يلهث وراء تمثال أو سبيكة ذهبية، لجني المكاسب من ورائها.
وفي السنوات الأخيرة، أضحى البحث عن الآثار أشبه بالوباء الذي انتشر في المجتمع. وعايشت “العرب” هذا الواقع عن قرب، وتحديدا في محافظة الأقصر بجنوب مصر، وهي تحتضن نحو ثلث آثار العالم، حيث بلغ انتشار هوس التنقيب بين سكانها، حد إنفاق كل ما تمتلكه الأسرة.
وأكدت دراسة بحثية صدرت عن المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية بمصر، أن أكثر من 15 ألف قضية تنقيب واتجار في الآثار وقعت خلال عامي 2009 و2013 بما يعادل نحو 3000 قضية كل عام.
وقالت الدراسة إن محافظتي قنا والأقصر جاءتا في مقدمة المحافظات التي تكثر فيها حوادث التنقيب عن الآثار وبعدهما المنيا وأسوان ثم الجيزة فالشرقية. ومع ذلك يبقى ما يتم الإعلان عنه من آثار مسروقة يتم ضبطها أقل بكثير من الآثار التي تستخرج في صمت وتهرّب وتباع دون أن يعرف عنها شيء، لأنها آثار غير مسجّلة.
وداخل مدينة مثل الأقصر التنقيب عن الآثار ليس مشكلة، بمعنى أنه لا توجد مخاوف من الحفر لأعماق بعيدة في باطن الأرض، وهناك أكثر من حجة لتبرير ذلك، إما هدم المنزل وإعادة البناء، وإما حفر آبار للمياه خاصة في المناطق الجبلية.
ويجزم بعض السكان، أنهم وصلوا إلى قطع أثرية بالفعل، “هناك أماكن عائمة على آثار فرعونية لم تكتشف بعد، مثل منطقة القرنة في البر الغربي للأقصر.. قد تحفر لأمتار قليلة وتجد أثرا.. هذا بملايين الجنيهات”.
وكثيرا ما يكون مصير القطع الأثرية التي يتم استخراجها عبر التنقيب غير الشرعي بيعها خارج البلاد، ومن السهل تمريرها عبر شخصيات لها ثقل ونفوذ وعلاقات قوية داخل الموانئ البحرية تحديدا، لأن المطارات مراقبة بشدة، كما أن عدم ترقيم وتسجيل الآثار المستخرجة بشكل عشوائي من باطن الأرض في السجلات الأثرية يسهل مهمة التهريب، لأن أجهزة معاينة الأثر المسجل بالموانئ والمطارات قد لا تكتشفها.
ويقول محمود (ط)، شاب من البر الغربي الذي يعج بالآثار، إن “فكرة الجهاد في سبيل الثراء من الآثار مسيطرة على عقول أكثر الناس.. هل يُعقل أن نعرف أين تكون الآثار وما يترتب عليها من جني الملايين من الجنيهات، ولا نحاول الوصول إليها مع انتشار الفقر بين الأهالي.. هذا حرام”.
وما يرسخ ثقافة التنقيب بين بعض سكان الأقصر، أن لديهم اعتقادا راسخا بأن أجدادهم الفراعنة تركوا لهم هذه الآثار كهدية أو إرث، والبحث عن هذا الإرث “أمر شرعي لا يجب التقصير فيه”، وأكثر مسمى يطلق على الأثر هو لقب “الأمانة”، وعند التنقيب في مكان بعينه، يتحدث المنقبون عن أنهم يبحثون عن الأمانة التي تركها الأجداد.
وكشفت تحقيقات أمنية في مصر أن عمليات التنقيب غير الشرعي لا تكون كما هو متعارف عليه من خلال أعمال فردية يقوم بها أهالي يحفرون داخل صحن المنزل أو بالمناطق المحيطة، لكنها أصبحت مافيا قائمة بذاتها تتكون من ثلاثة أضلاع.
الأول هو التاجر أو المافيا الأجنبية، والتي تختص بعملية دعم مادي ولوجيستي للحفر ودورها بعد ذلك هو تسويق الآثار التي عثر عليها وتهريبها إلى الخارج ثم عرضها في مزادات دولية. أما الجهة الثانية فهي الوكيل المصري الذي يتلخص دوره في اختيار المناطق المرشحة لأن تكون غنية بالآثار والتفاوض مع أهالي المنطقة ومساعدتهم في أعمال الحفر، ويبقى الضلع الأخير ممثلا في الأهالي، أصحاب الأرض أو المنزل الذي يحتوي على كنوز أثرية.
ويدخل ضمن الفريق الثاني الوسيط بين الأهالي والمشتري الأجنبي، والمشعوذ الذي يقوم بدوره بطرد الأرواح الشريرة وتسهيل عملية إيجاد الآثار المخبأة، بالإضافة إلى مسؤولي المحليات الذين يدخلون كجزء من الصفقة، مقابل بقاء الأمر في غاية السرية والسماح بأعمال حفر دون مضايقات أمنية.
وضمن هذه المنظومة هناك شخص واحد لا يمكن أن يخسر، هو الدجال أو (الشيخ)، حتى وإن فشلت محاولات فتح المقبرة، حيث يوهم الشخص بوجود آثار في مكان بعينه، قد يكون أسفل منزله، ثم يقوم بتقدير قيمة الكنز مسبقا قبل الحفر، ويحصل على جزء من القيمة كشرط لتسخير ما يسمّى بـ”الجن حارس المقبرة”.
وزرع الدجالون في أذهان الراغبين في التنقيب، أن الفراعنة استعانوا بالجن لحماية الكنوز الأثرية، عن طريق تلاوة بعض التعاويذ وأفعال الشعوذة التي توهم من يقترب من المقبرة بظهور أشياء مخيفة، مثل الحيوانات القاتلة، أو إشعال النار في مدخل المقبرة دون مقدمات كنوع من الترهيب، وبالتالي فإن محاولات فتح المقابر الأثرية دون وجود (شيخ) ستبوء بالفشل.
ويحرص الدجالون والحالمون على أن تكون دائرة التنقيب ضيقة كي لا تلاحقهم أعين وألسنة الناس، ومن ثم يكونون تحت رقابة الأمن.
ويبدأ التنقيب عن الآثار، بنصب العرّاف شباكه والإيحاء بقدرته على تسخير الجن. وقال إبراهيم (اسم مستعار) “بعضهم يقنع صاحب المكان وعمال الحفر بأنه يريد أن يختلي بالجن في الليل دون وجود أي شخص، وأحيانا يأتي إلى مكان الحفر بحوزته قطعة أثرية مزيفة يصعب اكتشاف حداثتها ثم يدفنها بجوار الحفر مباشرة، وعندما يعاود العمال التنقيب ويجدون الأثر، يجن الجميع بأن المكان أثري”.
خسائر مادية
كانت أبرز القضايا التي كشفت عن الأضلاع الثلاثة لعملية سرقة الآثار وتهريبها، حادثة أثارت الرأي العام المصري في ديسمبر عام 2009 بمنطقة درب العطارين بمدينة أسيوط (جنوب القاهرة)، وراح ضحيتها 6 أشخاص في أثناء تنقيبهم عن الآثار بأحد المنازل، بعد أن سقطوا في حفرة عميقة وردمهم التراب.
الآثار تحولت من تراث حضاري إلى صراع خفي بين الفقراء الحالمين بالغنى وبين فئة من الكبار الباحثين عن تعظيم نفوذهم المالي والاجتماعي في البلاد
وأشارت الحادثة إلى وجود مافيا كاملة تتكون من 16 شخصا؛ من بينهم عاملون بالجهاز المحلي وتجار وثلاثة أجانب شكلوا جزءا من مافيا كانت تستهدف نبش مقبرة فرعونية تعود للأسرة السادسة عشرة وتهريبها إلى بريطانيا للبيع في معرض المزادات الشهير “سوثبي” بلندن.
ويقول محمود “هذه حيلة من ضمن عشرات الحيل التي يكذب من خلالها الشيخ.. الناس عندما يجدون أثرا في التراب يفقدون عقولهم”، فيما يؤكد إبراهيم (اسم مستعار)، “ليت الأمر يقف عند خسارة مبالغ مالية، هناك دجالون يطلبون دماء أشخاص.. وعن نفسي لا أنسى أني قمت ببيع نصف ما ورثته لأنفق على تكاليف الحفر ومتطلبات الدجال دون فائدة”. ويضيف “أعرف أشخاصا نجحوا في الوصول إلى الآثار.. وهؤلاء معروفون بالاسم في البر الغربي.. عندما تجد أسرة تمتلك قطعة أرض صغيرة ومنزلا مساحته مكونة من غرفتين فقط، ثم تفاجأ بأن الأسرة تشتري أراضي وعقارات تعرف أنه وجد أمانة كبيرة (الآثار)”.
ويعتقد بعض أهالي المناطق السياحية أن تقصير الحكومة في الكشف عن الآثار واستمرار الكنوز أسفل الأرض “هو أصل الحرام”، فلا يمكن أن تتراخى في الكشف عنها دون مبرر رغم علمها بأماكن دفنها، ثم تحارب تنقيب الباحثين عن النقلة النوعية في مستواهم المعيشي.
غياب الثقة
ما يزيد من تعقيد الأزمة أكثر أن البعض من أهالي أكبر مدينة أثرية في العالم (الأقصر) لديهم قناعة بأن المسؤولين في الأجهزة المختلفة ضالعون في سرقة الآثار والتنقيب عنها وتهريبها إلى الخارج، بمعنى إذا لم يقوموا كأشخاص عاديين بالتنقيب عن الآثار أو محاولة الوصول إلى محتوى مقبرة أثرية، فهناك شخصيات كبيرة ستقوم بذلك، أي أن الآثار تحولت من تراث حضاري إلى صراع خفي بين الفقراء الحالمين بالغنى وبين فئة من الكبار الباحثين عن تعظيم نفوذهم المالي والاجتماعي في البلاد.
ويقول عارف، مواطن خمسيني من غرب الأقصر، “أحد جيراني عثر على تمثالين بعدما حفر لعمق أربعة أمتار فقط، فالمنطقة مليئة بالآثار، وقام ببيعهما لأحد تجار الآثار عن طريق مندوبين له في الصعيد، حيث يوجد لكل مافيا أو تاجر كبير ممثل في كل محافظة”.
وعارف، من فئة الناس التي تنقب عن الآثار بمنطق “بلدي عائمة على كنز، وإذا حفرت في أي مكان ستجد أثرا.. هي (أي الحكومة) لا تريد الإنفاق على اكتشافات جديدة فلا تستفيد أساسا من الآثار المكتشفة.. إذا كانت لا تريدها فنحن أولى بها.. ماذا ستفعل الآثار تحت الأرض وهناك فقراء قاربوا على الدفن أحياء من الغلاء.. هكذا نفكر ونتعامل مع شرعية التنقيب”.
وحصد جار (عارف) مبلغا معقولا من بيع التمثالين، وقام بشراء قطعة أرض وأنشأ مجموعة من العقارات وكتبها بأسماء أولاده، لإخفاء ملامح الثراء الذاتي، وإبعاد نفسه عن الملاحقة الأمنية وتسليط الأعين عليه.
ويوضح باسم سعيد، خبير أثري لـ”العرب”، أن الحكومة شريكة في التشجيع على سرقة الآثار، لأنها لم تتحرك لمواجهة النقص الحاد في أعداد حراس المناطق الأثرية، فضلا عن ندرة المركبات المجهزة لاختراق الصحراء للمرور بشكل منتظم والاطمئنان على المناطق الأثرية المترامية في الصحراء، وهي لا تحافظ على القائم منها، ولا المدفون تحت الأرض، ما يمنح البعض شرعية التنقيب والتهريب خارج البلاد.
ويضيف، أي قطعة أثرية خرجت من مصر دون أن تكون مسجلة رسميا، وتحمل رقما لدى وزارة الآثار، لن تعود مرة أخرى، مهما حدث، لأن مصر ليس لديها أدلة ثبت ملكيتها، وهو شكل من أشكال تدمير الحضارة والتاريخ وسط صمت حكومي وغياب الوعي الأثري عند الشعب.
ويذهب في ذات السياق، محمد فوزي، رئيس قطاع الآثار الإسلامية المصرية الأسبق، الذي يرى أن عمليات التهريب تكون عبر جملة من الإجراءات، يأتي على رأسها تواصل مافيا التهريب الدولية مع الموظفين الذين تكون مسؤوليتهم كشف الآثار المهربة، بالإضافة للجوء إلى التنقيب عن الآثار بطرق غير شرعية وتهريبها من دون أن يتم تسجيلها من خلال وزارة الآثار.
ويضيف في تصريحات لـ”العرب”، أن وجود تقصير مهني وإداري وتكنولوجي في عمل الوحدات الأثرية المتواجدة بجميع المنافذ البرية والبحرية والمطارات يعد السبب الرئيسي للتهريب، إذ أن وجود الآلات والمعدات الحديثة التي تمكنها من كشف القطع الأثرية المهربة، تحديدا بعد انتشار عمليات الطمس وأساليب الإخفاء المتطورة، ساهم في زيادة حالات التهريب خلال السنوات الماضية.
ويلفت إلى أن غالبية القطع الأثرية يتم طمسها بالجبس ووضعها داخل أغطية اصطناعية، وهو أمر لا يمكن كشفه من خلال أجهزة وزارة الآثار، بالإضافة إلى وجود فساد إداري داخل هذه الوحدات يسمح باختراق مافيا التهريب لها، عن طريق الرشاوى ما يسمح بتمريرها إلى خارج البلاد.
ويوضح أن حالة الفوضى الأمنية التي شهدتها البلاد في السنوات التي تلت اندلاع ثورة يناير في العام 2011، كانت سببا رئيسيا في تكوين مجموعات جديدة استهدفت الآثار المصرية سواء كان ذلك من خلال بعض القيادات وصغار الموظفين أو من خلال تدخل جهات أجنبية في عملية التهريب، الأمر الذي تسبب في تهريب حوالي 30 بالمئة من إجمالي الآثار المصرية خلال السنوات السبع الماضية.