نزار عبدالستار: الرواية التاريخية ماتت مع جرجي زيدان

الروائي نزار عبدالستار ينطلق في مشروعه الروائي من التاريخ حيث يرى أن جمالية فن الرواية تكمُن في إمكانية خلق التقارب مهما بعد الزمن عن روزنامة الواقع الحالي.
الثلاثاء 2019/03/05
نزار عبدالستار: أتستر بالتاريخ سعيا إلى إقناع القارئ

انتشرت كتابة الرواية التي تعنى بالتاريخ مؤخرا عند كثير من الكتاب العرب، ولهذه الظاهرة تفسيراتها، خاصة ما يتعلق بتواريخ الشعوب العربية التي تناولتها المدونة الرسمية بشكل انتقائي وأحيانا بمغالطات، ما جعل من استعادة التاريخ بالخيال أمرا يشبه الضرورة اليوم. “العرب” كان لها هذا الحوار مع الروائي العراقي نزار عبدالستار حول روايته الأخيرة “ترتر” التي تتماس مع التاريخ.

نزار عبدالستار روائي عراقي، صدرت له مؤخرا رواية “ترتر” تبدأ أحداثها في أكتوبر من العام 1898، حيث يقوم إمبراطور ألمانيا فيلهلم الثاني برحلة إلى الشرق. في إسطنبول، يلتقي السلطان عبدالحميد الثاني ويخطّطان لإنشاء سكّة حديد برلين-بغداد. ومن غير آينور هانز، التي تعمل مرشدة سياحية، للقيام بهذه المهمة؟ لكن آينور هانز المسكونة بالأحلام، والحب، تذهب إلى أبعد من ذلك، متحدية جبروت ثلاث دول عظمى هي إنكلترا وفرنسا وروسيا.

التاريخ والرواية

رواية “ترتر”، الصادرة عن دار هاشيت أنطوان/ نوفل، وصلت إلى القائمة القصيرة لجائزة الشيخ زايد للكتاب بفرع الآداب. هذا ما جعلنا نسأل نزار عبدالستار حول الجوائز الأدبية. يقول الكاتب “الجوائز عُرف قديم يعود إلى ما قبل الميلاد وطابعها الموسمي أو الحولي يجعلها تصب في الناحية الترويجية، وإذا ما قلنا إن الكتاب في جوانب متعددة منه هو سلعة وحاجة قرائية استهلاكية تبدأ من دار النشر وتنتهي عند التسويق، فإن الجوائز الأدبية ضرورة توجيهية ووسيلة منصفة لمعاينة الجوانب الإبداعية بتقييم مهني، وقواعد نقدية سليمة، هذا إذا ما توفرت فيها النزاهة والمعايير العلمية وجائزة الشيخ زايد للكتاب واحدة من أبرز الجوائز المرموقة عربيا وعالميا، والتواجد على قوائمها التمهيدية هو بالتأكيد شرف كبير لما لهذه الجائزة من سمعة ورواج وتعدّ اعترافا على قدر كبير من الأهمية”.

رواية تسلّط الضوء على فترة زمنية مضى عليها أكثر من قرن
رواية تسلّط الضوء على فترة زمنية مضى عليها أكثر من قرن

ينطلق عبدالستار في مشروعه الروائي من التاريخ كإطار للعمل. يعلق بالقول “لديّ شغف كبير بالتاريخ لأنني نشأت بجوار بقايا مدينة نينوى الآشورية. كانت طفولتي قريبة من تلك الصروح الملغزة والساحرة وكنت ألجأ إلى خيالي كي أفسر ما أرى، وحين كبرت شكل التاريخ القديم نواة ثقافتي وجعلني أهتم بالرؤية الجامعة وأبحث في الجذور من أجل خلق مشروع يوتوبي أعيد به صياغة العالم. هناك خديعة كبرى في القراءات الأيديولوجية للتاريخ وقد استغلته النظم الفردية لتوهمنا بالهوية الواحدة. توجد في كل رواية من رواياتي رؤية تعيد الصياغة وتصحيحات أراها أكثر موضوعية مما فرضته علينا المناهج الدراسية. الأدب السردي يشتمل في أركانه على الفكر وهو جزء من تاريخ إنسان وأنا مهتم كثيرا بالهوية وأيضا بالحقيقة”.

رواية “ترتر” جاءت لتسلّط الضوء على فترة زمنية مضى عليها أكثر من قرن. وهنا نسأل عبدالستار عن مدى تعمّده أن تكون الرواية تاريخية فيقول “الرواية التاريخية ماتت مع جرجي زيدان ففي السابق كان تمثّل التاريخ والتطابق مع رواية الواقعة هو هدف فني بحد ذاته، لكن هذا المفهوم تغيّر مع المدارس الإبداعية الحديثة ومع تطور علم الرواية، لذلك لن أروي التاريخ بوقائعه ومصادره وإنما سأبتكر واقعتي الخيالية وأستعرض فكري ومهاراتي، وأتستر بالشكل التاريخي سعيا إلى خلق الفن وإقناع القارئ بفكرتي وقراءتي لمجرى الحياة”.

ويضيف “ترتر لا تتصل بالتاريخ إلا بالواقعة التي تخص زيارة إمبراطور ألمانيا فيلهلم الثاني إلى إسطنبول بعهد السلطان عبدالحميد الثاني، وبفكرة إنشاء خط سكة حديد برلين- بغداد. القضية أنني أسقط المتخيّل على الحاضر وأوظف قدرة فن الرواية على تمثّل معطيات الوعي قديما وحديثا، كي أستجلي الثيمة الإنسانية وأجعل دورة الحياة جلية وملخصة بإتقان. الفن الروائي منظومة خيالية شديدة التعقيد وهو من أكبر مجهودات العقل ويجب أن يكون مستوفيا لشروط التطابق مع الخلية الحياتية الحية، وهذه العلمية تتطلب أيضا وجود إغراءات إبداعية كثيرة منها التشويق والبنى الساندة التي تمزج المتعة بالفكر المستخلص من التجربة”.

بنت المخيلة

يقول نزار عبدالستار إن آينور هانز بطلة روايته الجديدة “ترتر” كانت حاملة لمشعل ديوجين وقد أرسلها السلطان عبدالحميد الثاني إلى مدينة الموصل كي تدخل التجار الألمان إليها، وتبني صناعة نسيجية تمهيدا لوصول سكة الحديد إلى المدينة. آينور لم تكتف بالمهمة التي جاءت من أجلها بل مضت إلى تغيير الحياة العاطفية للنساء واهتمت بالطب والتعليم. لأنها أحبت مدينة الموصل وأرادت بناء قواعد متينة للتحديث تتمثل في الطب والتعليم الجامعي، إلا أن ذلك فشل بسبب رسوخ الجهل وعدم قدرة المجتمع على تقبل التطوير، لكنها بالمقابل نجحت في استعادة مجد نسيج الموسلين التي كانت تشتهر به المدينة.

ويلفت الكاتب إلى أنه كان على آينور هانز السعي إلى تحقيق هدفها الإنساني بعيدا عن المصالح السياسية، اعتمادا على نزاهة الحب وعلى إيمانها الشخصي، مضيفا “آينور هانز ليست شخصية تاريخية حقيقية إنها بنت المخيّلة. لا وجود لهذه الشخصية في التاريخ. هناك شخصيات أفرغتها من تاريخها المعلوم وأعطيتها وجودا مختلفا في الرواية مثل رئيس البلدية والولاة الذين حكموا الموصل في تلك الفترة”.

الفن الروائي منظومة خيالية شديدة التعقيد وهو من أكبر مجهودات العقل ويجب أن يكون مستوفيا كأنه خلية حية

في رواية “ترتر” يتحدث عبدالستار عن مرحلة حساسة جدا ليس فقط على مستوى الصراع الدولي قبل الحرب العالمية الأولى وإنما على المنطقة العربية ككل. يقول “في ‘ترتر‘ ركّزت على فكرة النهضة العلمية والصناعية، وتكلمت عن جيل من المتطلعين إلى أوروبا باعتبارها الأنموذج. هذه النهضة كان بإمكان ألمانيا دعمها والمضيّ فيها لو أن مشروع سكة حديد برلين- بغداد نجح، وتم قطع طريق الهند البري على الإنكليز. الالتباس الأكبر يكمن في مناهضة كل ما هو جديد. السلطان عبدالحميد الثاني نفسه كان يخاف من الكهرباء وأجّل مرارا دخولها إلى إسطنبول. في العقديْن الأخيريْن من عمر الدولة العثمانية كان الالتباس هو السائد، لأن التحديث تأخر وهذا الشيء حدث في بلداننا العربية أيضا. في رواية ‘ترتر’ هناك صراع بين الحداثة والقدامة، وفي هذا الزمن تحديدا ‘زمن الرواية‘ بدأ التعصب ينمو لمعاداة الحضارة الأوروبية، كما أن النخب المثقفة العربية استسلمت أمام الجهل المتشدد”.

تعامل عبدالستار في رواية “ترتر” مع ثقافتيْن بعيدتيْن هما التركية والألمانية، وأول درس مهم في هكذا موقف بحسب قوله، هو تجنّب الإقحام والاسترسال، واختيار المواقع المفصلية في الرواية التي من خلالها يمكن إبراز السمات الثقافية للزمان والمكان والشخصيات دون تكلّف، وبلا بهرجة.

ومن جهة أخرى تحفل الرواية بوصف دقيق للملابس والعادات والتقاليد والمأكل التي كانت سائدة في تلك الفترة. ونسأل الكاتب إذا كان ذلك تاريخا أعيدت له الحياة؟ فيقول “هناك وسائل عدة للإيهام، وجمالية فن الرواية تكمُن في إمكانية خلق التقارب مهما بعد زمن الرواية عن روزنامة الواقع الحالي. المسألة تتعلق بقوة التماثل ومحاكاة بيئة الحدث، لهذا هناك دائما روايات تحتاج إلى جهد كبير حتى تكتب وإلى تقنيات عالية”.

15