نخب الجمّار من المغرب إلى الفرات

لو تسنى لعاشق هائم في المغرب العربي الاستماع لذلك الوجع القادم من ضفاف الفرات في ترنيمة “وظهر النخل ينحني بس القلب جمّار” لرفع نخب “اللاقبي” من هناك كما قال لي مرة الكاتب التونسي الراحل مصطفى الفارسي “خذوا أضلعي جسورا إلى بغداد”.
قلب النخل واحد إن كان “جماراً” في العراق أو “لاقبي” في المغرب العربي، ذلك ما برع به الشاعر صباح الهلالي الذي اختطفه الموت مبكرا وتوّج الموسيقار محسن فرحان مجده في آخر ما لحن بتلك الأغنية التي أعادت اكتشاف حميد منصور الذي لم يأفل في الذائقة السمعية.
هذه الأغنية التي من بين آخر ما قدم حميد منصور، تمارس غناء التحدّي مع العمر، حتى وإن مر شاحباً، لتعيد دفقات الروح إلى القلب. لذلك اختار الشاعر الهلالي أن يُسميها “الأجيال”، بينما استوحى ملحنها فرحان تعبيرية موسيقية باهرة تمزج دلالة الحب بالعمر، ليغنيها الشيوخ مثلما يتيه فيها العشاق الصغار.
ولأن محسن فرحان يعرف مكامن التعبيرية في صوت حميد منصور فقد أعاد لنا في هذه الأغنية مثلما فعل في “ياهوى الهاب” معنى الغناء في زمن اختطفت فيه الأغاني!
لا يمكن أن تُعلق قلادة الغناء العراقي من دون أن تكون في عقدها الثمين أغاني حميد منصور، الذي يعرفه الجمهور العربي بتلك الترنيمة التي لا تغيب “سلامات” نص الشاعر كاظم الرويعي وألحان الموسيقار عبدالحسين السماوي اللذين فضلا الموت في المغترب على عراقهما، لكنهما تركا “السلامات” لنا جميعا.
وفي أغنية “الأجيال” يكشف لنا الموسيقار محسن فرحان مكامن القوة وقدرة الأداء في صوت حميد منصور وهو يقترب من عقده الثمانيني، أنه يغني وكأنه في العشرين ويعبر عن ذلك بنص يذوب ولهاً بالحب: الشيب شيب القلب حبينا يعني شصار/ وسنين عمري المضت مو آخر المشوار/ والأبيض البراس ما يعني عمر الناس/ وظهر النخل ينحني بس القلب جمار!
لم يكن حميد منصور من جيل السبعينات الذي شكل علامة فارقة في غناء البيئات العراقي، لكن وقع أغانيه يجعل التاريخ يضعه بمصاف أصوات أبناء هذا الجيل، مع أنه كان مع مجموعة أصوات تمثل ظلا تنافسيا لجيل السبعينات، مع قحطان العطار وصباح السهل ورياض أحمد وهادي سعدون..
اكتشف الموسيقار الراحل محمد جواد أموري أن صوت حميد منصور أفضل من يعبر عن ألحانه فقدم له “توصيني” نص الشاعر عريان السيد خلف ومن ثم “شضحيلك” قصيدة شاعر الطفولة خيون دواي الفهد. هاتان الأغنيتان كانتا التعريف الحسي الباهر بصوت حميد للجمهور العراقي، لكنه لم يتوقف عند ذلك عندما شكل مع الموسيقار عبدالحسين السماوي ما يجعل الغناء فراتياً. يكفي استعادة “سلامات” ومن ثم “رد حبيبي” الأغنية التي استلهمها مسلسل “دفعة بيروت” لتكون المعبر الحقيقي للعراقي آنذاك.
وما كان للموسيقار طالب القره غولي إلا أن يترك شيئا من وجع الأغاني وتساؤلاتها في صوت حميد منصور، لذلك بقيت أغنية “يم داركم” التي كتبها كاظم الرويعي المعبر الأصدق في ألحان القره غولي لمنصور. لكن ماذا عن “الانتظار” الأغنية التي كتبها الشاعر الكويتي الراحل فايق عبدالجليل؟ في تلك الأغنية نكتشف ما معنى أن يستل الملحن روح المفردة في موسيقاه وليس آليتها المجردة كما فعل الملحن السعودي عمر كدرس الذي ارتكب مجزرة لحنية في نفس القصيدة عندما لحنها لصوت محمد عبده.
وها هو اليوم محسن فرحان يترك لنا في صوت حميد منصور ما يجعل الذائقة السمعية تطمئن على الغناء. استمع إلى أغنية “الأجيال” لتدرك ما معنى أن يكون الغناء عراقيا.