نخب أم ميليشيات

عادة ما تكون السجالات الفكرية والأدبية فرصا للاستمتاع والاستفادة ممن يوصفون بالنخب، لكن الذي عاشه رواد التواصل الاجتماعي طيلة الأيام الأخيرة في الجزائر، يعطي الانطباع بأنهم أمام ميليشيات تحمل بنادق وليس أقلاما، قياسا بشكل ومحتوى النقاش الذي دار حول رواية “هوارية” للأديبة والمترجمة إنعام بيوض.
النقاش الأدبي افتقد للأدب، بعدما أخرجت الجماعات الأدبية المتصارعة كل المفردات والمصطلحات من قواميس السباب والشتائم والكلام البذيء، كاشفا بذلك حقيقة صادمة حول قدرة هذه “الأشكال” من الجزائريين على أن تحمل ثوب النخبة التي تقود الناس إلى مصاف المجتمعات، وهل إلى هذه الدرجة فقدت القدرة على الاختلاف والنقاش الراقي.
في ذلك السجال الصاخب على شبكات التواصل الاجتماعي، لأن الإعلام التقليدي انصرف عن مهامه، أو أنه لم يبق فيه من يدير مثل ذلك النقاش بمهنية وحرية وإلمام، أبان عن شوفينية أيديولوجية بين تيار المحافظين والحداثيين، لكن غالبية الإسهامات والآراء قالت كل شيء، إلا إخضاع “هوارية” لمجهر القراءة والتحليل والنقد الموضوعي.
النقاش الأدبي الذي افتقد لأصول اللياقة والأدب، أزاح الستار عن “عفن” صادم ومؤسف لكل جزائري عاقل يحمل في ذاته حتمية الاختلاف والتنوع في حياة المجتمعات، ويؤمن بأنه يستحيل أن يكون ملايين الناس عبارة عن قطيع واحد يساقون جماعيا إلى زرائبهم في المساء.
طرف ينظر إلى العموم من برجه العالي، معتقدا أنه هو الراعي الذي تتبعه المواشي، ويا ويل أي رأس تسول لها نفسها بالخروج عن القطيع، وطرف آخر ينصب نفسه وصيا على الناس وعلى الدين وعلى الأخلاق، وكأنه يعيش في مدينة فاضلة وجاءت رواية هوارية لتكسر عنه الحياء.
من تابع السجال الصاخب والكلام الذي يصم الآذان، المتبادل بين الجماعات الأدبية والأيديولوجية، يعتقد أنه ليس في الجزائر إلا معركة هوارية التي انبرى لها هؤلاء دفاعا وهجوما، وما عدا ذلك فهي مدينة فاضلة، وأن الحرص على حرية الإبداع في هذا الجانب، أو الدفاع عن الأخلاق في الجانب الآخر، يقابله حرص مماثل على مختلف القضايا والملفات، إلى درجة أنه لا عصفور يحط فوق الشجرة.
بعدها بأيام كتبت وسائل إعلام إيطالية وإسبانية “ماذا يحدث في الجزائر”، لطرح سردية الأعداد المهولة من “الحراقة” الجزائريين، فقد تحدثت تقارير وتسجيلات عن وصول نحو ثلاثة آلاف “حراق” جزائري، فيهم شباب ونساء ومراهقون وأطفال، في الآونة الأخيرة إلى سواحل إيطاليا وإسبانيا.
لكن الجماعات المذكورة، لم تنبس ببنت شفة، وكأن الأمر حدث في بلد آخر، ولم تشحذ سيوفها ولا أقلامها، لتتساءل عن الأسباب والدواعي التي باتت تدفع أمثال هؤلاء إلى الفرار من بلدهم، والسبب ليس ضربا من ضروب الخيال العلمي، بل لأن الأمر على ارتباط بالشأن السياسي وهؤلاء جبناء لا يقدرون على المواجهة ولا على طرح السؤال.
وعلى هذا النحو حضرت النخبة في هوارية، كاشفة عن أسوأ ما فيها، وتغيب عن الوطن وعن المجتمع في مختلف القضايا والملفات، ويبقى ديدنها بين جنس ودين أو نفاق وتزمت، بينما ارتقت أعمال الأدب والإبداع في مشارق الأرض ومغاربها إلى خدمة الإنسانية فنا وعلما وإبداعا في مختلف مناحي الحياة.
قد يقول قائل إن المناخ السائد هو الذي ضيق الأنفاس على هؤلاء، وجاءت هوارية لتخرج شحنة الكبت، لكن من يفتك الحريات للمجتمع إذا لم تكن النخبة.