نحسدهم على صبرهم وأملهم

بين اندفاع بعض الشباب للاتجار في المحظورات أملا في تحقيق ربح سريع يضعهم في مصاف الأثرياء، وبين أشخاص يفترشون قطعة من “الكرتون”، على حواف الأسواق والأرصفة، لعرض أغراض بسيطة من أجل بيعها، والعودة في المساء وبأيديهم ما يعيل أفواها تنتظرهم، تتبلور قيمة الصبر كمعادلة حاسمة في الحياة.
كل يوم تطالعنا الأخبار عن الإطاحة أو تفكيك شبكات الاتجار في المخدرات والمهلوسات والمحظورات، ومعهم أكوام من المال، تمثل عائدا عارضا لصفقة أبرمت لكنه لم يكتب لها النجاح، وكل يوم يمكن لمن ملك الوقت والمزاج، أن يعاين تلك الوجوه التي تقرأ في ملامحها أشكال الهم والألم الصامت، وهي تفترش حواف الأسواق والأرصفة من أجل بيع أغراض بسيطة تعيل بها أسرا.
هم في حر الصيف كما في قر الشتاء، صابرون على أوضاعهم، لا يقلقون، والأمل في قدوم زبون لا ينقطع، لقد خبروا الوجوه وعلمتهم التجربة المشتري العازم، والفضولي والانتهازي، ولذلك فإنه لا مشكلة وقت لديهم، فالرصيف والهامش لا يمل من استضافتهم كل يوم.
لكن من أين لهم كل ذلك الصبر، على الحياة وعلى المكان والطقس، وعلى الوقت وعلى الزبون، أكيد أن معينهم لا ينضب، وأكبر رأسمال يملكونه هو الصبر، فماذا لو امتلك تجار المحظورات و”الحراقة”، ولصوص السياسة والمال صبرهم، أكيد أن حال المجتمع يكون غير هذا الحال الذي نحن عليه.
قد يقول قائل إن السرعة هي شعار العصر، ومن تباطأ أو تثاقل في مهمته سيلحق متأخرا، وسبب تخلف مجتمعاتنا هو عدم قدرتها على مواكبة الأمم الأخرى التي قطعت سنوات ضوئية وليس أشواطا كبيرة فقط، والقياس هنا على قدر من الحقيقة، لكن مفهوم السرعة ومفهوم الصبر لدى البعض هو الذي لف اللبس حول الموضوع.
كثيرا ما يخلط الناس بين السرعة وبين التسرع، وباسم الأولى وبوتيرة الثانية انتهت مشاريع كبرى في السياسة والاقتصاد والبناء الى الفشل، بل الى كوارث أعادت أصحابها الى مربع الصفر، وظهر أن هؤلاء افتقدوا إلى خاصية الصبر كقيمة براغماتية ومعنوية وذهنية تبقي الأمل قائما لديهم، ولو كان لهم ذلك لجاءت النتائج كما كانوا يريدونها.
لو صبرت الجزائر على التحول السياسي نهاية ثمانينيات القرن الماضي، لما انتهت إلى حرب أهلية راح ضحيتها ربع مليون جزائري، ولو صبرت على نمط اقتصادي ومشروع مجتمع معين لما وصلت إلى ارتباك مزمن، وشك في كل شيء وخوف من أي شيء، ولولا صبرها على الحرب لما حاربت مستعمرا يدعمه الحلف الأطلسي من أجل حريتها واستقلالها.
وبين النموذجين يظهر فرق النتائج بين صبر على الشدائد والتمسك بخيط الأمل، وبين التسرع بدعوى السرعة وعدم تقدير العواقب، ويبدو أن الخصلة مرادفة للبسطاء، من بساطة الثوار إلى بساطة هؤلاء “التجار”، فهم خزان للصبر والأمل.
لو صبر ذلك الشاب على وضعه وحياته وحسبها جيدا، لما ارتمى في أحضان المحظور وسكن السجون، ولما استبد به اليأس والقنوط فيغامر بحياته وسط عباب البحر ويترك أكباد أهله تنزف دما، أو تحول الى طعام لأسماك البحر.
صحيح الطموح هو الذي يرقى بصاحبه إلى الأعلى في مختلف المجالات، وهؤلاء البسطاء ليسوا ظاهرة اجتماعية واقتصادية إيجابية، فكل مجتمع يستحوذ عليه النشاط الموازي تمزقه اختلالات كبيرة، وأولئك البسطاء يظلون انعكاسا لسياسات غير صائبة، لكن صراحة يُحسدون على صبرهم وعلى أملهم، ويحسبون في ذلك نموذجا يستدعي التوقف عنده.