نجلاء بودن.. سيدة ظلمها خصوم قيس سعيد

لا تصريحات عشوائية ولا مبادرات دعائية للسيدة الستينية خريجة المدرسة الوطنية للمهندسين الحاصلة على درجة الدكتوراه في الجيولوجيا من المدرسة الوطنية العليا في باريس.
الجمعة 2023/01/20
ما يتهدد تونس شيء آخر يتجاوز الأنوثة والذكورة

عادة ما تُفهم الكاريزما في العالم العربي على أنها حالة من الشعبوية المتمثلة في ادعاء التقرب من عامة الناس واصطناع المواقف النافرة، والحال ينطبق على رئيسة الوزراء التونسية نجلاء بودن، لكونها في رأي البعض، تختفي خلف نظارات طبية وداخل بدلة رسمية داكنة مع شعر رمادي تختبئ تحته عقلية بيروقراطية صارمة قادمة من أروقة الجامعات.

لا تصريحات عشوائية ولا مبادرات دعائية للسيدة الستينية خريجة المدرسة الوطنية للمهندسين، الحاصلة على درجة الدكتوراه في الجيولوجيا من المدرسة الوطنية العليا للمناجم في باريس.

المرأة، إذن، متخصصة في “جيولوجيا تونس” بكل ما تعنيه من طبقات اجتماعية وثقافية وترابية في بلاد يصعب التنقيب فيها عن الأفضل لأنهم كثيرون.. ويدّعي كل منهم أنه الأفضل. لكن الرئيس التونسي قيس سعيد طلب من بودن تشكيل حكومة وقيادتها، وهي المرة الأولى في تاريخ البلاد التونسية وباقي العالم العربي التي تصل فيها امرأة إلى منصب رئيس الوزراء، بعد أن قادت التاكسي والشاحنة والقطار والطائرة في الدولة التي راهنت على المرأة، أُمّا وزوجة ومدرّسة ومرشدة اجتماعية.

لم يستغرب التونسيون تعيين واحدة منهم رئيسة تقود وزراء ووزيرات من النساء والرجال في أكثر مراحل البلاد حلكة، وهم الذين اعتادوا قيادة النساء منذ عليسة القرطاجية، مرورا بالكاهنة البربرية والأميرة العثمانية عزيزة عثمانة، وصولا إلى مجموعة من التتويجات في الرياضة والفن والثقافة.

◙ لا ينبغي لنا أن نستغرب اليوم الهجوم على شخص رئيسة وزراء تونس للقول بأن ساكن قرطاج لم يفلح في اختيار حاكم القصبة.. وفي غياب من يدير البرلمان في ساحة باردو

الأمر لا يقف عند هذه المفاضلة أو ذاك التقييم الذي مازال يجترّه العالم العربي ويبدي فيه النصح والتلعثم والجدل، وإنما بحجم مواجهة التحديات بصرف النظر عمّن يقودها ذكرا كان أم أنثى.

يبدو هذا واضحا بعيدا عن التنمر الذي عادة ما يظهر على مواقع التواصل الاجتماعي وحديث المقاهي، لكن ما يتهدد تونس شيء آخر يتجاوز الأنوثة والذكورة.

الإسلاميون شككوا في قدرات نجلاء بودن، منذ أول تعيينها، وذلك لأسباب عقائدية وسياسية خلافية، إذ قال سمير ديلو، الوزير السابق والمتحدث الرسمي باسم حكومة حركة النهضة آنذاك، إن ترشيح بودن كان غير قانوني لأنه تم من خلال مراسيم رئاسية لسعيد.

أمّا المحلل التونسي ذو التوجه الإسلامي صلاح الدين الجورشي فيرى “أن ثقة سعيد في أن نجلاء بودن، ستكون مخلصة له كان عاملاً شجعه على قراره”، وذلك في إشارة إلى أن رئيسة الوزراء التي بدأت تزداد سلطاتها التنفيذية غير جديرة بمنصبها الحالي.

المنظمة النقابية بدورها تبعث بالرسائل والتصريحات الموحية بأن بودن غير صالحة لقيادة الحكومة ولا يمكن التفاوض مها، على اعتبار أنها عاجزة عن اتخاذ قرار لم يصدر من الرئيس قيس سعيد. حجتها في ذلك تتعلق بخلافات مستشرية داخل الاتحاد العام التونسي للشغل وموقف قياداته من التعددية النقابية على خلفية لقاء بودن مع من يعتبرهم البعض “بدلاء” تحاول الحكومة دعمهم وتحضيرهم لإضعاف النقابة الأكثر هيمنة وحضورا.

الحقيقة أن هذا الكلام غير صحيح، ويحمل الكثير من التجني على السيدة التي تترأس وفدا رسميا في أعمال منتدى دافوس الاقتصادي وتبحث بكل جهدها عن دعم دولي للخروج من الأزمة المالية في ظل مفاوضات صعبة ومتعثرة مع صندوق النقد الدولي لمجابهة الأزمة الاقتصادية والمالية التي تشهدها البلاد.

ويحاول خصوم رئيسة وزراء تونس، وبأي شكل من الأشكال، تحميلها مسؤولية كل المصاعب والعثرات، بما في ذلك ضعف الإقبال على الانتخابات التشريعية في دورتها الأولى، وذلك في مسعى للحكم على عملها قبل إتمام المهمة.

الواقع أن الهجوم غير المسبوق، على نجلاء بودن، يصب في خانة الهجوم على قيس سعيد، واختياراته من قبل خصومه السياسيين، في حين أن هذه السيدة تتمتع بكل الصلاحيات المعطاة إليها وفق الدستور الجديد، لكن الأمر يتعلق بمقولة “عنزة ولو طارت”.

◙ لم يستغرب التونسيون تعيين واحدة منهم رئيسة تقود وزراء ووزيرات من النساء والرجال في أكثر مراحل البلاد حلكة، وهم الذين اعتادوا قيادة النساء منذ عليسة القرطاجية

سيظل خصوم الرئيس التونسي يبحثون له عن أخطاء وهفوات، و”المتفرج فارس” كما يقول المثل العامي، ذلك أن تصيّد الأخطاء في عالم السياسة والاقتصاد أسهل من حك الرأس.

المعترضون على أداء نجلاء بودن، من معارضين وموالين وكذلك أشباه معارضين وأشباه موالين للرئيس سعيد، كثر، ويتزايد عددهم يوما بعد يوم، لكن المنطق لم يعد يتحمل الشخصنة في بلاد لم يعد يحكمها شخص واحد من اثني عشر عاما، لكن مخلفات الماضي القريب لا تزال ماثلة، سواء كان ذلك أيام حكم بن علي، وسلفه بورقيبة أو ما جاء من بعدهما من حكومات تزعمتها حركة النهضة، وسيطرت على السياسة الحكومية وفق منطق “ولاية الفقيه” على الطريقة التونسية.

العرب اعتادوا على نقد حكامهم من خلال مساعدي حكامهم.. تلك ظاهرة واضحة للعيان منذ العصور القديمة، والتونسيون لا يشذون عن القاعدة، فلا ينبغي لنا أن نستغرب اليوم الهجوم على شخص رئيسة وزراء تونس للقول بأن ساكن قرطاج لم يفلح في اختيار حاكم القصبة.. وفي غياب من يدير البرلمان في ساحة باردو.

هذا هو الواقع الذي لن يقنعنا أيّ تحليل سياسي آخر في إنكاره، إذ ليس من المعقول أن تنكر على سيدة في غاية الجدية والعمل والتفاني، تقصيرها في خدمة اقتصاد بلادها المنهك، والحصول على نتائج معقولة مقارنة بالصعوبات التي تمر بها الدولة.

أخطاء نجلاء بودن واردة، ولا يمكن حتى التغافل عنها في بلاد لم تنعم منذ عشرية كاملة إلا بحرية التعبير، وإنما لا يمكن تحميل هذه الأستاذة الأكاديمية مسؤولية ما يحدث في بلاد عشش فيها الفساد طويلا.. وفرّخ الكثير من المدافعين عنه تحت ذرائع مختلفة أبرزها الغيرة الوطنية والحق في التعبير وإبداء الرأي.

8