نايبول والهوية المطموسة للمسلمين من غير العرب

مؤخرا أشارت وسائل الإعلام العالمية إلى أن الكاتب البريطاني نايبول الذي يقيم في الريف الإنكليزي مع زوجته من أصل باكستاني أصيب بمرض جعله عاجزاً عن الكتابة. لذا هو أصبح يملي على زوجته كل ما يطمح إلى نشره في السنوات الأخيرة من حياته.
في أحد تصريحاته، قال نايبول الذي لا يزال يتمتع بكامل مداركه العقلية بأنه لا يتحمل الأكاديميين لأنهم يحوّلون الأدب إلى دروس مضجرة وكئيبة، ويجمّدون بمناهجهم الركيكة جموح الخيال. كما أنه ينفر من أصحاب الأيديولوجيات بجميع أصنافها لأنه يعتقد أن الهدف الأساسي من كل الأيديولوجيات هو التحريض على الكسل، وتوفير بطولات وهمية لأصحابها. وذكر نايبول أن الكتابة هي وسيلته الوحيدة لمواجهة متاعب الشيخوخة، وشبح الموت الوشيك.
وينتسب ف. س. نايبول المولود عام 1932 إلى عائلة من شمال الهند هاجرت الى ترينيداد التي كانت آنذاك مستعمرة بريطانيّة. وكان والده صحافيا ظلّ طوال حياته يحلم بأن يصبح كاتبا. وفي الثامنة عشرة من عمره، انتسب نايبول إلى جامعة أكسفورد ليحصل فيها على تكوين صلب في مجال الآداب العالمية. وفي هذه الفترة من حياته شرع في الكتابة لـ”يقاوم اليأس والوحدة” بحسب تعبيره. وفي نصّ له يتحدث عن هذه الفترة الصّعبة من حياته قائلا “خلال خمسة أعوام كتبت ثلاثة كتب ربحت من مبيعاتها 300 جنيه إسترليني. لم يكن الأميركان يرغبون في نثري ذلك أنهم كانوا يرون أنني بريطانيّ أكثر من اللازم. وفي بريطانيا، كان القرّاء يقاطعونني لأنهم يجدون أني أجنبيّ أكثر من اللازم! لكن من جانب آخر أسعفني الحظّ يأن أعيش من قلمي بعد خمسة أعوام من المواظبة الدائمة على الكتابة برغم المصاعب الماديّة. وفي بريطانيا، لا يزال الكثير من الناس يعتقدون أن الكتابة نشاط مخوّل للهوّاة فقط. وهو يستوجب مساعدات ماديّة بسيطة وليس راتبا. وهذا الموقف من الكتابة هو أفضل من الموقف في بلدي ترينيداد حيث يرى الناس هناك أنّ الكتابة مكافئة لصاحبها”.
كيف أختار
ويواصل نايبول حديثه عن وضعيّته ككاتب قائلا “إن وضعي غريب ومثير للارتياب. فأنا كاتب هندي يكتب بالإنكليزيّة، ويقدّم للبريطانيين كتبا تزخر بشخصيّات ليست بريطانيّة، وتتكلّم الإنكليزيّة بطريقتها الخاصّة. مع ذلك هناك كتّاب في نفس الوضع تمكّنوا من التغلّب على لامبالاة القرّاء. وأنا كنت درست وضعهم عن كثب. وقد عاينت أنه بقطع النظر عن مواهبهم، فإنه يتعيّن عليّ أن أتطرّق إلى مواضيع ثلاثة. أولها الجنس. فحتّى في جزر ‘سانكيتس’، يمكن لهذا الموضوع، أي الجنس أن يتغلّب على جميع العراقيل. لكن ليس باستطاعتي أن أكتب كتبا جنسيّة ذلك أنني لا أمتلك التجربة الضروريّة، ولا موهبة في هذا المجال، والتي تتيح للعمل الأدبي النجاح والانتشار. ثمّ أنني سأكون في حرج شديد حالما أسارع بكتابة شيء ما حول هذا الموضوع إذ أن أصدقائي سوف يضحكون كثيرا. أما والدتي فسوف تغضب من سلوك ابنها العاقّ. الموضوع الثاني هو أن أختار شخصيات بريطانيّة وأميركيّة في رواياتي، وأن أجعلها في قلب الحبكة على المستوى التجاريّ. هذا أمر مريح للغاية. أما على المستوى الفني فهو صفر. ثم إن هناك مشاكل تتصل بالعنصريّة. وأنا مندهش لأنه لا يوجد أحد درس الأسباب المتصلة بالنجاح الأبدي للكتب التي تتحدث عن التمييز العنصري. وأنا أعتقد أن مثل هذه الكتب تمنح صاحبها نوعا من اللذّة السّاديّة، أو سلطة بالوكالة”.
كان نايبول قد عرف الشهرة انطلاقا من ستينات القرن الماضي، وتحديدا إثر صدور روايته (بيت للسيد بيسواس)، وقد استوحى موضوع هذه الرواية من حياة والده الذي كان يتطلع إلى أن يكون كاتبا، إلا أنه فشل في مسعاه
ويعتقد نايبول أن الطقس له تأثير على الكاتب. ففي بلاد حارة تدور الحياة في الهواء الطلق. الأبواب والنوافذ مفتوحة. والناس يقضون أوقاتهم خارج بيوتهم، أو على أرصفة المقاهي والمطاعم. وباستطاعة أحد ما أن يعرف ما يدور في بيت جاره. والذي يزور هذا البلد الحار، لا يجد صعوبة كبيرة في التعرف على أحوال أهلها. ففي أيّ مكان يقصده هو يفاجئ الناس في حميميّتهم. أما في بريطانيا فكلّ شيء يدور خلف الأبواب المغلقة. والقادم إليها من البلاد الحارة يترك الباب وراءه مفتوحا أوتوماتيكيّا. أما الذي يعيش في البلاد الباردة فيغلقه فورا. لذلك يشعر نايبول أنه لا يعرف أشياء كثيرة عن بريطانيا.
وقد التقى بأناس كثيرين، غير أنه لم يعرف عنهم سوى مظهرهم الخارجي. لذلك تجنب الخوض في مجمل أعماله في الحياة البريطانية. أما في ترينيداد حيث ولد ونشأ فإن الإلمام بحياة الناس هناك لم يكن صعبا عليه.
صعود نايبول
وكان نايبول قد عرف الشهرة انطلاقا من ستينات القرن الماضي، وتحديدا إثر صدور روايته “بيت للسيد بيسواس”. وقد استوحى موضوع هذه الرواية من حياة والده الذي كان يتطلع إلى أن يكون كاتبا، إلاّ أنه فشل في مسعاه. وفي سبعينات القرن العشرين، تجول نايبول في العديد من البلدان الأفريقية التي كانت تشهد اضطرابات سياسية واجتماعية خطيرة. ومن سفراته تلك، استوحى موضوع روايتيه “المغاوير” و”عند منحى النهر”. وفيهما يدين الجوانب المرعبة للإمبريالية الاستعمارية، متطرقا في الآن نفسه إلى فشل الثورات الاشتراكية في البلدان الأفريقية بسبب فساد القادة وزعماء الحركات اليسارية والتقدميّة. وقد أثارت الروايتان المذكورتان إعجاب كبار النقاد لا في بريطانيا وحدها، بل في فرنسا وألمانيا والولايات المتحدة الأميركية. وقام البعض منهم بعقد مقارنة بينهما وبين “في قلب الظلام” رائعة جوزيف كونراد التي حوّلها المخرج الأميركي الكبير فرانسيسكو كابولا إلى فيلم حمل عنوان “البعث الآن”. ويقول نايبول “الهيمنة الاستعمارية كما الاستقلالات الوطنيّة تمّ تشويهها. إن الليبيرالي يكذب لكي يؤكد أنه انسان طيّب. غير أنه لا يرى الوضع بشكل كامل. وعندما يتحقق الفشل يختفي ولا يعثر له على أثر”.
|
بعد انتصار الثورة الإيرانية، تجوّل نايبول في البلدان الإسلامية غير العربية مثل إندونيسيا وماليزيا وباكستان وإيران التي كانت لا تزال تعيش لهب الثورة التي أطاحت بنظام الشاه. وفي طهران تمكّن من أن يتحدث طويلا مع آية الله خلخالي الذي كان مكلفا من قبل الخميني بإعدام ومقاضاة المناصرين للنظام المنهار. وفي نهاية رحلته تلك كتب سلسلة من التحقيقات الأدبية المثيرة عن الأصولية الإسلامية في هذه البلدان، مدينا التزمت والانغلاق في مجتمعاتها، ومقدما المسلمين ككائنات متشبثة بمعتقداتها، ورافضة رفضا مطلقا لكلّ المعتقدات الأخرى.
كما أشار إلى أن بلدانا آسيوية مثل إندونيسيا فقدت ثقافتها الأصلية تحت تأثير الإسلام الذي أصبحت تدين بها شعوبها. وفي ذلك كتب يقول “في البدء كان الإسلام دينا عربيّا. وقبل أن يكون بكل بساطة قضية وعي وعقيدة شخصية، يطرح الإسلام فروضا إجباريّة. والذي يدين به من غير العرب، يجد نفسه مجبرا على تغيير رؤيته للعالم. حتى أماكنه المقدسة تصبح في الأرض العربية. ولغته المقدسة هي العربية. وتتغير نظرته للتاريخ فيتخلى عن تاريخ بلاده، أو هو يجد نفسه مجبرا على النظر إليه ومعالجته من خلال تاريخ الاسلام. ويعني ما سلف أن هذا الكائن يتجرد من هويته ومن كلّ ما تختصّ به ثقافته الأصليّة”.
إلغاء الذات
يضيف نايبول قائلا “إلغاء الذات التي يفرضها الإسلام أشد وطأة من الاستلاب الذي يفرضه الاستعمار على الشعوب المولى عليها. فعندما يصبح الإنسان مسلما، يكون مطالبا بالتخلي عن ماضيه وعن تاريخه. وعليه أن يدوس على هذا التاريخ وعلى هذا الماضي مرددا أن ثقافة أجداده القدماء لم يعد لها وجود”. ويقدم نايبول أدلة على ما يقول من خلال شخصيات دينية وسياسية التقى بها في كل من إندونيسيا وماليزيا، والدكتور عماد الدين أستاذ كرسي في المعهد العالي للتكنولوجيا بباندونغ من بين هؤلاء. وفي سبعينات وثمانينات القرن الماضي أمضى سنوات في السجن بسبب دفاعه المستميت عن الأطروحات الأصولية الإسلامية. أما الآن فقد أصبح يتمتع بشهرة واسعة في إندونيسيا رغم أنه لم يتخل عن أفكاره القديمة. وهو يتنقل في سيّارة مرسيدس، ويقدم حصة دينية في التلفزيون كل صباح أحد. وهو مقرب من كبار الشخصيات في الحكومة الإندونيسية. وقد قال عماد الدين لنايبول بأن الامتيازات التي يتمتع بها هي تأكيد على صحة عقيدته وأطروحاته.
كاتب من تونس