نانسي بيلوسي زعيمة الديمقراطيين الغاضبة لقتل سليماني

سياسة بيلوسي تنصبّ على منع ترامب بالوسائل الحزبية المتوفرة لها من أن يذهب بعيداً في وضع المزيد من العقوبات على إيران أكثر مما يقوم به اقتصاديّا.
الأحد 2020/01/05
مهندسة "العزل" الرئاسي

لم تكد دماء قائد فيلق القدس الإيراني اللواء قاسم سليماني، الذي قتلته الصواريخ الأميركية قرب مطار بغداد فجر الجمعة، تبرد حتى ملأت تصريحات رئيسة مجلس النواب الأميركي نانسي بيلوسي أجواء واشنطن، معتبرة أن اغتياله أثار خطر التصعيد في المنطقة. قالت بيلوسي“لا يمكننا تعريض أرواح العسكريين الأميركيين لخطر أكبر من خلال أعمال استفزازية وغير متناسبة. الغارة الجوية التي تمت اليوم (الجمعة)، تزيد من خطر إثارة تصعيد خطير لاحق للعنف. لا يمكن لأميركا والعالم كله أن يسمحا بأن تصل عملية تصعيد التوتر إلى نقطة اللاعودة. لقد قامت الإدارة بتنفيذ هجمات اليوم (الجمعة) في العراق دون أن تحصل على إذن من الكونغرس باستخدام القوة العسكرية ضد إيران”.

صورة بيلوسي وهي واقفة خلف المنصة التي تدير منها مجلس النواب الأميركي، تضرب بمطرقتها على سطح مكتبها، ووجهها يشي بتعبير الفرح المختلط بالتشفّي، لتعلن عن إحالة الرئيس دونالد ترامب بإجماع تصويت أعضاء الكونغرس إلى المحاكمة على جرائم ارتكبها في سنوات حكمه الثلاث، ولتحيل ملف عزل الرئيس إلى مجلس الشيوخ للتصويت عليه، ثم المباشرة بإجراءات المحاكمة قانونياً إذا أجمع المجلس على إحالة الرئيس إلى القضاء الدستوري.

إنها بالطبع السيدة الأقوى في عالم السياسة الأميركية المتحدثة باسم الكونغرس الأميركي. لا بد لنا من أن نتعرف على بيلوسي وتاريخها المهني والسياسي والشخصي أيضاً قبل أن نمضي برواية دواعي العداء السياسي الذي تكنّه للرئيس ترامب منذ وصوله إلى البيت الأبيض، حتى ساعة إعلان قضية عزله، وهو المصطلح الإعلامي المتعارف عليه لمحاكمة الرئيس.

بيلوسي سياسية مخضرمة ولدت في عام 1940 في مدينة بالتيمور من ولاية ميريلاند من عائلة ذات أصول إيطالية تتبع الكنيسة الكاثوليكية.  وهي اليوم تحتل منصب رئيس مجلس النواب منذ عام 2019، كأول امرأة في تاريخ الولايات المتحدة تشغل هذا الكرسي.

تم انتخاب بيلوسي لأول مرة في الكونغرس في عام 1987، وهي أعلى مسؤول منتخب في تاريخ الولايات المتحدة. أما موقعها كرئيسة لمجلس النواب، فيضعها في المرتبة الثانية في هرم السلطة في واشنطن، ومباشرة بعد نائب الرئيس.

كانت واحدة من 126 عضوا ديمقراطيا في مجلس النواب، صوتوا ضد استخدام القوة ودخول العراق في عام 2002، وضد إدارة الرئيس الأسبق جورج بوش الابن للملف العراقي؛ إلا أنها  تراجعت عن موقفها وصوتت لصالح تمويل الحرب بعد أن بدأت العمليات العسكرية ودخلت القوات الأميركية فعلاً العراق.

انقلاب بكامل الأسف

– ترامب يعرف أن بيلوسي هي رأس الحربة في مواجهته، ولذلك فقد وجه إليها خطابا مطولاً اتهمها فيه بأنها “تشن حرباً مفتوحة على النظام الديمقراطي الأميركي“، وأشار بعبارات قوية إلى محاولتها الإطاحة به عن طريق “انقلاب” سياسي.
ترامب يعرف أن بيلوسي هي رأس الحربة في مواجهته

“بكامل الأسف أفتتح جلسة مجلس النواب تحت عنوان مساءلة رئيس الولايات المتحدة. إن لم نتحرك الآن فسيعتبر ذلك إهمالاً من طرفنا في أداء واجبنا“. بتلك العبارة افتتحت بيلوسي جلسة الكونغرس التي كان يتابعها الملايين في العالم على شاشات التلفزيون ومواقع التواصل الاجتماعي، لتفصح عن التهم الموجهة إلى الرئيس ترامب، والتي تُعْتَبر جنحا ارتكبها أثناء توليه منصب الرئاسة الأميركية، ما دعا مجلس النواب إلى التصويت على مشروع محاكمته، وذلك قبل أن ينتقل هذا المشروع إلى مجلس الشيوخ حيث سيصوت عليه بالنفي أو بالإيجاب، وعندها فقط يتخذ القرار بتحويل الرئيس إلى المحاكمة الدستورية أو بإسقاط القضية عنه.

وكان ترامب قد وجّه إلى بيلوسي قبيل الجلسة خطاباً مطولاً يتألف من ست صفحات اتهمها فيه بأنها “تشن حرباً مفتوحة على النظام الديمقراطي الأميركي”، وأشار بعبارات قوية إلى محاولتها الإطاحة به عن طريق “انقلاب” سياسي.

وكتب ترامب في متن الرسالة مخاطباً الأعضاء الديمقراطيين في المجلس الذين صوتوا لصالح عزله “أنتم من يتدخل في الانتخابات الأميركية، ويقوم بتقويض الديمقراطية الأميركية. أنتم من يعيق العدالة. أنتم من يجلب الألم والمعاناة لجمهوريتنا من أجل تحقيق مكاسبكم الأنانية الشخصية والسياسية والحزبية”.

أما التهمة الأساس الموجهة للرئيس الأميركي فهي محاولته إدخال دولة أجنبية، هي أوكرانيا، في مسار الانتخابات الرئاسية القادمة. فالديمقراطيون اتهموه بأنه طلب من البنتاغون تجميد مساعدة أميركية عسكرية لكييف لإكراه الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، على فتح تحقيق في شأن عمليات تجارية مع أوكرانيا قام بها ابن منافسه الأبرز في الانتخابات الرئاسية، الديمقراطي جو بايدن.

وقد أكد ترامب في رسالته أنه لم يمارس أي ضغوط على الرئيس الأوكراني خلال اتصال هاتفي معه تم تسجيله وعرضه كشهادة محسوسة لإدانة الرئيس. وتوجه مباشرة إلى بيلوسي يتهمها بكرهها له لأن هيلاري كلينتون خسرت أمامه الرئاسة في عام 2016 وكتب ساخرا “يبدو أنك ما زلت غير قادرة على القبول بحكم صناديق الانتخابات التي فزت فيها بالرئاسة”. 

 والرئيس ترامب هو ثالث رئيس أميركي يصوت مجلس النواب على عزله إثر الرئيس آندرو جونسن في عام 1868، والرئيس بيل كلينتون في عام 1998. هناك حالة رابعة وهي قضية الرئيس ريتشارد نيكسون الذي تورط بفضيحة واترغيت الشهيرة، إلا أنه قدم استقالته في عام 1974 قبل وقت قصير من إحالة مشروع عزله إلى مجلس النواب للتصويت عليه. أما الرئيسان جونسن وكلينتون فلم يدانا في مجلس الشيوخ، حيث سقطت عنهما التهم هناك. بينما يعول الرئيس ترامب الآن على مجلس الشيوخ ذي الأغلبية الجمهورية لإسقاط التهم الجنائية الموجهة له.

الروس والانتخابات

[ بيلوسي تبدي معارضتها الشديدة لأي إجراء عسكري يمكن أن يتخذه ترامب ضد إيران، سواء رداً على الهجمات الإرهابية التي تعرضت لها منشآت النفط السعودية، أو لأي دافع آخر. وهو النهج الديمقراطي الذي استمر منذ عهد باراك أوباما
بيلوسي تبدي معارضتها الشديدة لأي إجراء عسكري يمكن أن يتخذه ترامب ضد إيران

لاحق الديمقراطيون، وفي مقدمتهم بيلوسي، الرئيس ترامب منذ أيامه الأولى في البيت الأبيض. وكانت السنوات الثلاث الأولى من حكمه عبارة عن تجاذبات بين الجمهوريين والديمقراطيين، وتحديداً بين بيلوسي كأقوى امرأة في الحياة السياسية الأميركية، وذات التاريخ الطويل بالعمل في المؤسسات السياسية الأميركية من جهة، وبين مراكز صناعة القرار في 

البيت الأبيض ووزارة الخارجية والبنتاغون وواشنطن، من جهة أخرى. قبل أن يصطدم ترامب مع الكونغرس ذي الأغلبية المعارضة له ولحزبه في قضية تواصله مع الرئيس الأوكراني بشأن منافسه جو بايدن، كانت هناك اتهامات تحولت إلى عملية تحقيق معقدة في الإدارة الأميركية عن دور روسي في التأثير على الانتخابات الأميركية
في عام 2016  لمصلحة دعم نجاح ترامب فيها. 

وكانت بيلوسي وعدد كبير من الديمقراطيين قد طالبوا البيت الأبيض بنشر كامل تقرير المحقق المكلف بالقضية، روبرت مولر، حول التدخل المحتمل لروسيا في الانتخابات الرئاسية، والتأثير عبر وسائل التواصل الاجتماعي ولاسيما منصة فيسبوك من خلال برامج دعائية لمناصرته.

خلص تقرير مولر إلى نتيجة مفادها أنه لم يتوفر دليل قاطع على تواطؤ بين حملة ترامب وموسكو؛ إلا أن بيلوسي ومعها حزبها جزما بأن التقرير لم يبرئ ترامب من مسألة إعاقة سير العدالة، وكذا تقويض التحقيقات التي كانت تجري بقيادة مولر بشأن حملته الانتخابية. وطالبت بيلوسي باسم الديمقراطيين بنشر التقرير كاملاً ودون حذف للملأ، ولم يروا الرئيس بريئاً من تهمة عرقلة سير العدالة.

لم يكتف الديمقراطيون بالتقليل من قيمة التقرير، بل طالب الرؤساء الديمقراطيون في المجلس لجان المخابرات والرقابة والشؤون الخارجية بالوثائق والتسجيلات كاملة لمحادثات الرئيس الروسي

فلاديمير بوتين والرئيس ترامب. أسقط في يد بيلوسي، ولم تتمكن من إخضاع ترامب للمساءلة من خلال هذا الملف لأن وزير العدل، وليام بار، قدم ملخصاً قانونياً للتقرير النهائي لمولر قلل من شأن الاتهامات وأكد على النتيجة التي خلص إليها مولر، والتي تنأى بالرئيس عن المساءلة القانونية، ولهذا لجأت بيلوسي وحزبها إلى قضية أخرى، بطلها الرئيس الأوكراني، لإحكام الطوق حول ترامب وتقديمه للمحاكمة تحت سلطة  القضاء الدستوري.

الموقف من إيران

دماء قائد فيلق القدس الإيراني اللواء قاسم سليماني لم تكد تبرد حتى ملأت تصريحات بيلوسي أجواء واشنطن، معتبرة أن اغتياله أثار خطر التصعيد في المنطقة
بيلوسي اعتبرت أن اغتيال قائد فيلق القدس الإيراني اللواء قاسم سليماني يثير خطر التصعيد في المنطقة

حتى قبل مقتل سليماني، كانت بيلوسي قد أعلنت معارضتها الشديدة لأي إجراء عسكري يمكن أن يتخذه ترامب ضد إيران رداً على الهجمات الإرهابية التي تعرضت لها منشآت النفط في منطقة أرامكو بالمملكة العربية السعودية، والتي أدت إلى توقف إنتاج 5 بالمئة من الإمداد العالمي لفترة قصيرة بسبب حجم الأضرار الكبيرة التي سببتها الهجمات الصاروخية على أرض المملكة. وقد عللت رفضها في تصريحها الإعلامي بأنها “لا تجد الولايات المتحدة في موضع مسؤولية الدفاع عن هجمات تتعرض لها المملكة”. وهو النهج الديمقراطي الذي استمر منذ عهد باراك أوباما.

وكانت تدفع باستمرار إلى منع ترامب بالوسائل الحزبية المتوفرة لها من أن يذهب بعيداً في  وضع المزيد من العقوبات على إيران أكثر مما يقوم به اقتصادياً. وتحذّر البيت الأبيض دائماً من الرأي العام الأميركي وتقول “الرئيس يعلم جيداً أنه لا توجد رغبة للأميركيين في دخول الحرب”. وقد أشارت أكثر من مرة إلى أنه في حالة قرر الرئيس الأميركي استعمال القوة العسكرية ضد إيران، فإن عليه أن يأخذ موافقة الكونغرس وإجماعه على أي تحرك عسكري قد يفكر أن يتوجه به ضد إيران.

كثيراً ما يؤازر بيلوسي ويدعم موقفها في مجلس الشيوخ الذي يسيطر عليه الجمهوريون، السيناتور تشاك شومر، عضو مجلس الشيوخ وزعيم الأقلية الديمقراطية فيه. وقد عبر مراراً عن قلقه من أن يتورط ترامب بقرار منفرد لحرب إيران، وأن عليه أن يفتح حواراً في هذا الشأن وأن يكون لمجلس النواب الصوت الفصل لجهة إطلاق وتمويل أي حملة عسكرية ضد طهران أو عملائها في المنطقة.

تقف بيلوسي بكل سنوات خبرتها السياسية ونهجها الليبرالي التي شبت عليه ومارسته في الحياة والسياسة، تقف بكل عنفوانها وموقعها الرفيع  ضمن دوائر صنع القرار بواشنطن، من أجل حشد الأصوات والدفع باتجاه مرور مشروع عزل الرئيس في مجلس الشيوخ لتحويل ترامب فوراً إلى المحاكمة. فهل ستنجح في مآربها أم أن انقلابها الأبيض على سيد البيت الأبيض سيعود عليه بالمزيد من كسب التعاطف الشعبي الذي يصطف، أساساً، إلى جانبه؟

8