ناشر وشاعر صربي يحكي رحلته المثيرة بين معارض الكتب

يكشف أدب الرحلات خفايا كثيرة عن حياة الشعوب والأماكن وتاريخها وغيرها من تفاصيل تهملها الأخبار العادية، لكن في هذا الجنس الأدبي قليلا ما كتب لنا أحدهم عن عالم الكتب ورحلاته في معارض الكتب وعوالم الأدباء، كما فعل الناشر والكاتب الصربي نيناد سابونيا.
يندرج كتاب الشاعر والناقد الصربي نيناد سابونيا المعنون بـ”رحلات ناشر حول العالم” تحت أدب الرحلات، حيث ينتمي إلى نوع اليوميات والسيرة الذاتية.
يأخذنا سابونيا في جولة معه كأديب وشاعر وناشر أعمال أدبية إلى أماكن وثقافات مجهولة ومختلفة حول الكرة الأرضية، حيث يزور العديد من معارض الكتاب في العديد من العواصم والمدن بين الشرق والغرب، فرانكفورت وبروكسل وغوتنبرغ وبودابست وبوينس آيرس وإسطنبول والشارقة وكوتشي والقدس وبكين وغيرها، وهو ما يعرضه إلى الكثير من المواقف، ويجعله يتعرف على أفكار عدة، ومقابلة العديد من الشخصيات المتباينة. فهو يرى من خلال رحلته هذه ضرورة تسجيل هذه اليوميات والأحداث المثيرة والتي تعرّف القارئ على صورة جديدة تماما عن عالم الكتاب والنشر والناشرين.
الشخصي والعالمي
يرى سابونيا أن القراءة تخلق شبكة من العوالم التي لست على دراية بها، وتتنقل عبر فضائها كما لو كنت مشاركا في الكتابة. بمساعدة الكتب، تمر أيضا عبر الزمن، هذا هو السحر الذي أراد مشاركته مع قرائه. الرحلة إلى مكان آخر، كما يقول، هي دائما رحلة نحو الذات، ولرؤية نفسك بطريقة أفضل، وبشكل أدق، وأكثر وضوحا، بل ليس نفسك فقط، بل أيضا بيئتك وبلدك والكوكبة من البشر التي تعمل معها..
ويضيف في تمهيد كتابه، الذي ترجمته نانسي محمد وصدر عن دار العربي وقد عنونه بـ”مذكرات سفر بهيئة يوميات”، “يسافر البشر ويكتب المؤلفون ما يؤمنون بمعناه وهذا هو الفرق بينهم، فالمؤلفون يكتبون بحثا عن أنفسهم، حتى حين يسافرون بحجة العمل، وبشكل ما لتخفيف ما بداخلهم وخلطه بالخارج المختلف عن المعتاد. كما يختلف النظر إلى العالم عبر عيني الكاتب تماما عن النظر إليه عبر عدسات الكاميرا أو الكلام المعتاد للكتيبات السياحية. فنحن ننظر إلى ما يكمن ويتوارى خلف المرئي والعالمي، وهذا هو السبب في أن مذكرات السفر تمثل تحديا دائما للكاتب. ففهم الجانب الإضافي ـ أو الزاوية غير المرئية ـ يمثل تحديا اليوم تماما كما كان قبل مائتي عام”.
ويتابع “يحتفظ الكتّاب – دون تخطيط غالبا – بمذكراتهم ليس لنشرها وإنما بوصفها مخزونا دائما لمواد أصيلة حقيقية تصبح في متناول أيديهم عاجلا أم آجلا. والأشخاص الذين يكتبون يومياتهم يحتفظون بها لأنفسهم، ومن المنطقي عموما التخلص منها في النهاية. وإن لم يفعلوا – أو حتى إن نشروها – فإنهم في الواقع يحتفظون بها للآخرين أيضا. ما الذي يدفع أي شخص – حتى الكاتب – أن يثبت أيّ شيء لأيّ شخص؟ لدينا مثلا مذكرات ألكسندر تيشما، وتوماس مان، وميروسلاف كرليتسا، وويتولد جومبروفيتش، وبافلي أوجرينوف التي تثبت أن اليوميات يمكن أن تكون في الوقت نفسه مذكرات سفر مثيرة أيضا. وبما أنها في حالتهم جميعا نصوص أدبية من الدرجة الأولى، فإننا بصفتنا قراء نتركها ببساطة للاستمتاع بحقيقة أننا وجدنا أنفسنا بشكل غير متوقع في المكان المناسب”.
ويلفت سابونيا إلى أن كتاب “إمباهادي” لميلوتس كرينيانسكي كان أحد ملاجئ القراءة من الدرجة الأولى، فرغم كونه قد كتب لأسباب غير أدبية، بل لأغراض دبلوماسية وإعلامية أخرى في المقام الأول، فإن هذه السجلات التي كتبها الروائي الصربي ذو اللغة المرهفة لا تعد ضمن أعماله الأدبية، فهي غالبا ما تكون إرشادات لكيفية السفر إلى ألمانيا أو إيطاليا مثلا.
واليوم يوضح كتاب “إمباهادي” بشكل أساسي المعرفة الفائقة للكاتب بالعالم. يمكننا كذلك أن نطبق نظرة هذا الكتاب في مراقبة العالم بسهولة فيما يخص الوضع السياسي الحالي في صربيا. وعلى عكس معرفة ووعي سياسي يوغوسلافي في فترة ما بين الحربين (في هذه الحالة المحددة مثلا “ميلان ستويادينوفيتش” أو “ألكسندر سينكار ماركوفينتش”، و”كرينيانسكي”). كان السلام المزيف والدول المزيفة والمبالغة المستمرة في تقدير الذات، وحالة العالم الدبلوماسي في أواخر الثلاثينات تحديدا تتكون بشكل أساسي من تقييمات خاطئة لا تعد ولا تحصى”.
وحول كتابه هذا “رحلات ناشر حول العالم” يقول “شخص ما صار كاتبا بفضل تجربته الشعرية مع العالم، يسافر لعمله الحالي بصفته ناشرا ومحررا، ويعتقد دون أيّ سبب وجيه أن اليوميات يمكن أن تكون دليل سفر، ولذا فها هو يفتح لك بعضا من صفحات مذكراته. وربما أعطاني القراء – هؤلاء الأصدقاء الذين لم أتوقعهم أبدا – فكرة فيها مبالغة بأن الشخصي يمكن أن يصبح عالميا أيضا. من يدري؟ بالطبع أنا أعلم أن كل شيء مترابط، وبالتالي فإن القصة بدءا من رحلتي إلى فرانكفورت هي استمرار للقصة التي وصلت إلى إسطنبول كذلك ونشرت قبلها”.
المؤلف يأخذنا في جولة معه كأديب وشاعر وناشر أعمال أدبية إلى أماكن وثقافات مجهولة ومختلفة حول العالم
ويضيف “قبل فرانكفورت كنا في جوتنبرج أيضا، وبعد ذلك – كما لو كنا نكشف عن الحضارات المختلفة – في الهند والصين، وفي الوقت نفسه سرنا على الأرض المقدسة. إن جميع الرحلات المدرجة في دليل السفر هذا مكتوبة بوصفها مذكرات مرتبطة حصريا بالشؤون الأدبية. كما نشرت مقتطفات من يوميات حول الإقامة في مدن مختلفة عام 2016، وتحدث معظمها في عوالم موازية من معارض الكتب (بوينس آيرس وإسطنبول والشارقة)، في داناس وفريم بناء على طلب محرري الصحف التي نشرت فيها تلك المقتطفات، ولاحقا بطلب من قراء مختلفين، وقد أقنعوني بأنهم يرون أن شؤون النشر الخاصة بي في هذه المدن لها قيمة اكتشافات القراء وأهميتها نفسها. أعرف أن عديدا من الأشخاص بدأوا جديا في الحلم ثم التخطيط أيضا لرحلات إلى بوينس آيرس بعد قراءة هذه المقتطفات”.
ويوضح سابونيا “خلال تلك الفترة لم يكن بإمكاني كتابة الشعر إلا عندما تركت خلفي محيط لغتي لأسباب غير واضحة تماما بالنسبة إليّ. ربما كنت في حاجة إلى الابتعاد، وألا أكون في مكان محدد (من وجهة نظر لغتي) للتعرف على شيء ما. في اعتقادي، الكتب تكتب نفسها ونحن نحتاج فقط إلى الإصغاء لذبذبات هذه الكتب. الأمر ليس له علاقة بكوننا كتابا لهذه الكتب أم قراء لها. حتى أنني كتبت أحيانا شيئا ما في مذكراتي وانتقل إلى الكتاب”.
ويتابع “نظرا إلى نشر ديواني العام الماضي وهو خارج موضوعنا، فلم أدرجه في يوميات السفر هذه رغم كونه جزءا أساسيا منها. ورغم أن هذا ليس واضحا بالضرورة للوهلة الأولى، فإن الأسفار هي الإطار الأكثر تناسبا مع هذا الديوان. الكتابان يشيران معا في الواقع إلى كيف يكون الشكل الأدبي وجهة نظر مختلفة تماما عن العالم. وهذا النوع من القوة هو السبب الأساسي الذي يجعل الأدب طبقة مثيرة للاهتمام من حياتنا. فالتجربة الأدبية بالنسبة إلينا هي أعلى التجارب، التجربة التي ننغمر فيها تماما. لأنه لا موت ما دام هناك مستقبل، الكلمة الوحيدة التي يكون فيها المعنى أقرب ما يكون، وأبعد ما يكون أيضا.. وأخيرا السفر ليس بطاقات بريدية. خاصة حين نسافر عبر الفضاء ونسافر عبر الأدب أيضا”.
مهنة النشر
يرى سابونيا أن معرض الشارقة الدولي للكتاب يكشف عن طموحات الدولة العربية الكبرى في مجال النشر. مؤكدا أن المعرض يحاول مساعدة الأدب العربي بشكل عام ليكون أكثر وضوحا أمام العالم. إلى جانب أسواق الكتب التقليدية القوية في العالم العربي، مثل تلك الموجودة في مصر ولبنان. تحاول الشارقة أن تثبت نفسها كمركز للكتاب العربي، حيث تسعى لجمع الشرق والغرب بين أجنحة معرضها وعلى مائدة صناعة النشر.
ويشدد على أنه إدراكا منها لأهمية ظاهرة الكتاب في عالم المستقبل، فإنها تريد أن يكون معرضها بعد معرضي لندن وفرانكفورت، أهم معرض كتاب في العالم. لذا بالإضافة إلى كل عجائب الثقافة المادية التي ظهرت من رمال الصحراء القاسية، فإن هذه الإمارة تعرف أن هذه اللؤلؤة غير الملموسة، المخبأة في غلاف الكتاب، مهمة ويجب الاعتزاز بها. لقد سمعت مثل هذه الكلمات شخصيا من حكامهم.
ويؤكد أن النشر في العالم هو عمل أكثر جدية بكثير مما يذاع عنه، وهناك أرقام رائعة على سبيل المثال في الصين حيث تصل طبعة العنوان إلى 200 طبعة أو 17 مليون نسخة. لكن غالبا لا تكون خارطة التمثيل الأدبي دائما هي نفسها الخارطة الجغرافية. بعض البلدان الصغيرة جغرافيا ضخمة على الخارطة الأدبية، وبعض الدول الكبرى صغيرة بشكل غير متناسب. كل شيء يعتمد على مواهب الكتاب والمبدعين والناشرين. يبدو لي أنه أمر لطيف ومشجع. يمكنك أن تكون صغيرا جسديا وجغرافيا وأن تصبح كبيرا ومهما إذا كانت لديك إمكانات داخلية، وإذا كنت تعرف ما تريده ومستعدا لتحقيقه. يخبرنا الأدب كثيرا أن عالم الأشياء المحدودة ليس العالم الوحيد. ويجب أن تظل هذه الحقيقة دائما في الاعتبار.
ويقول “بمجرد وصولك إلى إسطنبول، بصرف النظر عن الحاضر الرائع والجغرافيا، لا يسعك إلا أن تشعر بأنفاس التاريخ متعددة الألفية، بالإضافة إلى الرياح المنعشة من مضيق البوسفور. هذا التاريخ، البيزنطي والعثماني والتركي الحديث، أكثر تعقيدا بكثير مما يمكن أن يراه فهمنا للأشياء. يمكنك رؤية الحاضر السياسي المعقد. أخبرنا أحد معارفي، الصحافي والكاتب التركي الشهير شان دوندار، أنه يرى تركيا كقطار به قاطرتان، إحداهما تتجه إلى الشرق والأخرى إلى الغرب. يبدو أن الوضع السياسي المتوتر يناسب الكتاب الأتراك، فلديهم الكثير ليقولوه، وغالبا ما يكون لديهم أطر رائعة لقصصهم”.
ويلفت إلى أن الأدب التركي، كما نرى اليوم، ليس فقط أورهان باموق، الرائد فيه، ولكن أيضا هناك عدد من الكتاب الآخرين، الكلاسيكيين والمعاصرين، الذين يحتلون مكانهم ببطء في قوائم القراءة للقراء في جميع أنحاء العالم.
ويتابع “لقد كان عالم النشر التركي اكتشافا لي، زرت أكثر من 30 دار نشر من كبرى دور النشر، من بين أكثر من 2200 دار تعمل هناك. ينشرون 50000 عنوان جديد سنويا، بإجمالي توزيع يزيد عن 350 مليونا، إن تركيا تحتل المرتبة 11 في العالم من حيث عدد الألقاب الجديدة. ما يدهش هو تفاني هؤلاء الناس في عملهم، والرغبة في جعل أهم كتب الأدب العالمي متاحة للقراء الأتراك بأفضل طريقة ممكنة.
يذكر أن الصربي نيناد سابونيا ولد عام 1964، وهو شاعر، وكاتب مقالات، وناقد أدبي. له الكثير من الأشعار التي تعد علامات في الشعر الصربي المعاصر لأسلوبها المحكم وجودتها وخيالها الخارج عن المألوف. عمل ناقدا أدبيا لمدة عشر سنوات، ثم بدأ في تأسيس دار النشر الخاصة به عام 2002. حصل على جائزة “برانكو” عن كتابه “الموناليزا” بالإضافة إلى غيرها من الجوائز.